* كتب الدكتور أحمد بهاء الدين في معرض حديثه عن المثقفين والسلطة في العالم العربي مقالة بعنوان الحل والضمان.. حق التفكير والتعبير.. أود أن أقف عند بعض أجزاء هذه المقالة التي كتبت في مايو 1979م وهي قبل اكثر من ربع قرن.. قال الدكتور أحمد بهاء الدين «كل قارئ يعرف ان الامة العربية بما لها من موقع وما فيها من ثروات وما يتدافع داخلها من تيارات صارت احد أهم ما يؤرق العالم من هموم حتى أن الناس في أي مكان في العالم يشيرون بأصابعهم الى شرقنا الأوسط أو إلى عالمنا العربي.. * وكان هذا وحده كفيلا بأن يضعنا امام اخطر الامتحانات وأصعبها، فالاهتمام العالمي اذا كان موضع فخر فهو يجر الى التدخل فتحوم وحوش الغابة وجوارح الطير من كل جانب تبحث عن مواضع الخطأ وثغرات للانقسام.. وكأن زيادة وسائل التعبير في بلادنا زادت من سوء التفاهم بينها وليس العكس.. وكأن المجلة الواحدة التي كانت تصل بين قطر وقطر تبل الريق كقطرة الماء كانت أفعل في تفاهم شعوبنا من الضجيج الاعلامي اليومي الهائل المتواصل الذي يعبر آلاف الاميال في اقل من ثانية، ولكن القضية في كلتا الحالتين والقضية في كل العصور والقرون تبقى واحدة. * إن حرية الرأي وفتح الباب لتعدد الفكر هو المخرج وهو المخلص.. هو صمام الأمان لكل أمة وكل شعب وكل مجتمع وكل نظام.. وقهر حرية الفكر قد يكون عمل فرد كما كان يحدث قديما في بعض العصور الخالية وقد يكون عمل آلاف الافراد والصحف والميكرفونات والكتب كما يحدث احيانا في اكثر المجتمعات تقدماً والعاقبة في كلتا الحالتين وخيمة». * وقد استوقفني هذا في مناسبتين، والكلام مازال للدكتور أحمد بهاء الدين.. احداهما كنت استرجع فيها حادثا فكريا قديما من تراثنا، والمناسبة الثانية كنت اقرأ فيها كتابا جديدا مما اخرجته مطابع الولاياتالمتحدةالأمريكية حديثا، ولكنها على بعد الشقة واختلاف النتائج واختلاف نوع المجتمع تماما يوصلاننا الى نفس الاستنتاج وربما كان الاستنتاج الواحد من محنتين مختلفتين تماما.. هو العبرة.. فالعبرة الواحدة من ظروف غاية في الاختلاف أقوى مائة مرة من عبرة تنتجها وتفرزها ظروف متشابهة. * القصة الأولى قصة محنة أحمد بن حنبل مع الخليفة المعتصم ، وبايجاز ودون خوض في التفاصيل ثارت في أواخر عهد الخليفة المأمون.. قضية فكرية انقسم حولها الناس وهي هل القرآن قديم او ان وجوده مرتبط بوجود الله أم هو جديد ام مخلوق أي أن وجوده يرتبط بوقت نزوله على الرسول «صلى الله عليه وسلم». * وقد تبدو لنا القضية لو طرحت اليوم غير ذات موضوع ولا يمس الرأي فيها صدق ايمان احد.. ولكنها وقتذاك تحولت من جدل فلسفي الى شيء آخر تماما حين اعتنق الخليفة الحاكم رأيا من الرأيين فبدأت المحنة الكبرى تلاحق من لا يرى رأي الخليفة، وكالعادة كان المثقفون هم من تعرضوا للمحنة فهم في ذلك الوقت الفقهاء والعلماء والقضاة، فارسل المأمون الى وزيره وحاكم العاصمة بغداد اسحق بن ابراهيم يطلب منه امتحان القضاة والفقهاء، قائلاً له ان من يخالفون الخليفة في الرأي لابد ان يكونوا من حشد الرعية وسفلة العامة واهل جهالة بالله وعمي عنه وضلالة عن حقيقة دينه، فكان الخليفة قد أدانهم بالكفر مقدما لمخالفة رأيه. * وأخذ اسحق بن ابراهيم يحضر الفقهاء والقضاة ويقرأ عليهم كتاب الخليفة محذرا ومنذرا ثم يسألهم هل القرآن قديم أم مخلوق فمنهم من قال بغير رأي الخليفة.. فكان يوضع في الاصفاد ويقيد بأثقل الاغلال ويتعرض لشتى صنوف العذاب فكان منهم من يعود فيعدل عن رأيه حتى يتخلص مما هو فيه وما هي الا كلمة يقولها والله أعلم بما بقي في ضميره ومنهم من يثابر ثم يستسلم. * وكان من بينهم أحد فقهاء الإسلام وهو أحمد بن حنبل وكان اكثرهم عنادا فربطوه في الحديد والقوة بكل مقامه في السجن حتى يرى الخليفة فيه رأيه ولكن الخليفة المأمون لم يلبث ان توفى. * وأمر المعتصم فاحضروا أحمد بن حنبل الى مجلسه وقد احضروه وهو مكبل باغلال من الحديد وهو الكهل لا يطيق حملها ولا السير بها ويجلسونه في هذه الحال في حضرة الخليفة ليناقش فقهاء السلطان فاذا أفحمهم وهزم حججهم اخذوه مثقلا باغلاله الى السجن ويتكرر هذا يوما بعد يوم. * ولا أطيل على القراء فقد انتهى الأمر بأن أمر الخليفة آخر الأمر فجرده من ثيابه وربطوه الى كرسي وانهالوا عليه بالسياط حيث كان يجلس يناقش وكلما غاب عن الوعي من العذاب أفاقوه وسألوه ان كان قد عدل عن رأيه فيقول: لا، فيعودون. * ولما كاد ان يموت في مجلس الخليفة أعادوه الى أهله كتلة مهشمة من اللحم والدم. * كانت السلطة في أوج عظمة الامبراطورية الإسلامية تنزلق أكثر وأكثر إلى الاستبداد وبالتالي إلى التداعي والانهيار. أواصل مع تحياتي وشكري..