زياراتي الموسمية لدار عزة يحكمها شغف غريب ، يمتزج فيه البحث عن جديد للإطلاع وأغراض البحث بإعادة الود القديم الذي نشأ بيننا وبين الدار على أيام الجامعة وبتنسم خليط رائحة الكتب القديمة مع الواصلة لتوها من مطابع القاهرة وبيروت. وكان الجو داخل جامعة الخرطوم بوجود المكتبات الأكاديمية وفي محيطها بوجود ثلاث مكتبات في مكان واحد : عزة ، مكتبة دار النشر (جامعة الخرطوم) ومركز عرفات محمد عبد الله جواً مشجعاً على اكتساب المعرفة ، على عكس ما تمظهر الآن حيث تراجعت المكتبات وتقدمت الكافتريات والمطاعم لتحل محلها كما في حالة مركز عرفات محمد عبد الله أو تزاحمها كما في حالة مكتبة عزة ، ويسيطر تبعاً لذلك غذاء البطون على تفكير الطلاب وغيرهم بدلاً عن غذاء الفهوم . لم ينشأ في ذلك الوقت من بداية تشكل وعي البحث عن المعرفة الحقيقية في الكتب سخطٌ بعد ،لأن ما كان متوفراً بالنسبة لنا آنذاك كان يحتاج لسنوات لالتهامه والمطالبة بمزيد .كان الوقت لا يزال مبكراً حتى نفرغ محتويات الأرفف ونبحث عما في الكراتين الواصلة لتوها من المطابع أو عن غيرها إذا نفدت.ولم يكن سهلاً على تفكيرنا في ذلك الوقت حتى على دراسي العلوم السياسية التنبوء بأن السنوات القادمات بعد عقد التسعينات هي المرحلة التي سيتخذ فيها الصراع بين السلطة والفكر حيزاً متنوعاً يستمر إلى يومنا هذا . يظهر جلياً نوع ارتباط واكتساب المعرفة بالعمر عند الناشئة حيث تتنوع وتتقافز في ذلك السلم صعوداً درجات التحصيل المعرفي حتى يصل إلى مرحلة النضج ويصبح الاكتساب متوازناً ، غير أنه لا يخفت الإشعاع الذي يصاحب الباحث أبد العمر . وحتى يصل الباحث عن المعرفة إلى بر الأمان يضيع كثيراً بين التقيد والحرية . بين الإملاء من الآخرين بفرض الكتب التي يجب الإطلاع عليها وبين رغبته في قراءة كتب معينة . بين إختيار ما يحب وبين الانقياد للكتب القادرة على الإعلان عن نفسها .بين المعارف المفروضة بواقع السيطرة على الفكر والأدب وبين تلك المجردة من التأثير على تعديل المسارات الأيدولوجية والفكرية . لا أزكي مكتبة عزة على قرائها ومرتاديها الأفاضل ، فهي ما زالت تجاهد لتظل منارة ذات إشعاع ثقافي ومعرفي وسط غابة من الكافتريات والبقالات. وهناك مكتبات أخر قدمت وما زالت تقدم شتى أنواع المعارف ، وهي مكتبات غنية عن التعريف ويصعب حصرها هنا.هذا ما قدمته المكتبات ولا تزال ولكن أين القاريء الباحث عن المعرفة.أسائل عن الباحث عن المعرفة لأنني لم أجده حول الجامع الكبير يستجدي البائع للحصول على كتاب راجع قديم مفروش على الأرض بربع القيمة .ولم أجده في عزة وإخواتها وسط مرتاديها الذين يبحثون عن خدمات النسخ والتصوير لمذكرات أو مراجع يحملونها وسط قلة تسأل عن كتب تشتريها. وليسوا موجودين ضمن هؤلاء القلة الذين قد تكون مهمة القراءة بالنسبة لهم مجرد أداء واجب أكاديمي أو غيره وقد يكونوا مخلصين أو قد يكونوا ممن أجبرتهم ظروف المعيشة على الاستغناء عن هذا كله واستبدال ثمن الكتاب بوجبة تسد رمق اليوم أو بزجاجة دواء. ولكننا نرى كتباً ومعارض كتاب ولا نرى معرفة .فهل كان الكتاب يشكل حضوراً حقيقياً في مهرجان الثقافة العربية بالخرطوم عام 2005م . وهل خرجت معارض الكتاب المتعددة في الخرطوم عن كونها معارك بين نظام نلمح أنه يرغب في دوام الحال بالقبض على الناشرين الدوليين وكف انتاج المحليين وبين مفكرين ومثقفين يتطلعون إلى تغيير الحال إلى ما يغاير مألوف عبارة "الخرطوم تقرأ ...." وحالمين بأنها تفعل ذلك وتزيد عليه بأن تحتفي بالمعرفة ! عن صحيفة "الأحداث" moaney [[email protected]]