حينما سار سليمان بملاعب جنة تحت حرازة سوق الدلم تضوع مدينة الجير الابيض التي تقع غرب "الجبيل" اريجا ينبعث من مباخر قبة الشريف الزبال التي لا يهمد جمر لبانها وصندلها ابدا ومن ضريح الشيخ حمد النيل ومن بخور مزار الشيخ محمد عبدة وليس اخيرا من قبة "ابوقمراية" . يزجي ويؤلف دخان مسك المدينة (غرب الجبيل) المنتثر سحابا يظلل حلقات العلماء القادمين من -أبشي – و"بلتن " وموريتانيا حواضر الفقة المالكي وعلم الكلام الاشعري والتصوف التيجاني -السنوسي على طرائق الجنيد السالك -التي هزمها ودمر ممالكها الغزو الفرنسي قبيل وبعيد مطالع القرن العشرين وقتل وشرد صفوتها فلجأ عالمها القوني الفكي جديد -والقوني أحمد الازهري والقوني "الكرسي" الفكي محمد كرسي الى النهود ببعض ما تبقى من ثرواتهم وحراساتهم ومكتباتهم فاستقبلتهم المدينة التي كانت يوما واحة للعلم ولا ظل الا ظلها بما يليق بهم من تقدير واعتبار فرفعوا فيها مع العالم عباس الفكي علي عبدالماجد من جبل أم علي القواعد من مودة العارفين وتسامح تلاقح الثقافات . وينتشر طيب النهود "العابق" ايضا من مدرسة شيخ التيجاني ومن خلوة الفكي مهدي ومن نوبات حوبات ذكر القادرية قبل وبعد "فته" الشيخ البدوي حمدالنيل ومن ظلال فروع نيم الجامع الكبير الذي بناه الخواجا كبدينو ومن رمحات لاعب الكرة محمد "درو" ودعباس "أل في الكورة أخد الكاس" ومن مفاخرات نادي الوطن بعراقته بوصفه شيخ الاندية الرياضية وبزهو نادي السلام الذي شيد بشرى بتباشير نهاية الحرب العالمية الاولى حين القت أوزارها المشئؤومة ومن نادي حيدوب الذي أتى أخيرا (1956) ولكنه أخترق الملاعب وأتى بما لم تستطعه كل الاندية في عصورها الذهبية و من مجادلات ومؤانسات الشيخ المتقاعد عمر عبدالرحمن مع بانقا مهيد في بواكير عقد الخمسين حيث أعلن لمن فاته الخبر اليقين بصوته الصارم الاجش : "نادي السلام أنا وحدي أسسته ومعي جماعة قد مضوا ولم يبق الا وأحد –بانقا مهيد". ينبعث شميم ناعم من نباتات واشجار النهود ذات الشخصيات الاعتبارية تماما كابارها واحيائها وانديتها ومساجدها ومحاكمها ومقابرها وعلى وجة خاص عشب السوريب الشهير في قصيدة تاج في ربوع كردفان –وهشاب المدرسة الشرقية ولبخ طاحونة لنقو-قريود وتوأمه في موقف عربات الابيض -الفاشر–ونيم محكمة الشيخ منعم وتوأمه في موقف عربات الاضية وتبلدية ارقد فايق وهجاليج فريق الطويشة - ينبعث منها بخور لا نظير له في الشميم الا في غابات "الدروت " في وادي البحير( بين طيبة وابوجفالة والمشابك) في موسم ربيع كردفان اذ يشفي في الحال صدور بنيها العائدين توا اليها من المهاجر البعيدة ويزيل كما تفعل مناديل الصيدليات الطبية مع الاصباغ - كل ما ران وعلق بها من ادران الغربة وسكن وسجم التوحد والاستلاب أما "حرازة سوق الدلم" التاريخية التي تقع الى شمال بيوت أل جحا والى جنوب "ردمية الخور الكبير" التي تمتد غربا الى "خور جهنم " وظهرها الى فريق الطويشة فقد انتقلت الخالق الناطق الى لوحات عبقري التشكيل ابن الابيض وامدرمان أبراهيم الصلحي في معرض كامل بلندن خصصه لتجليات وجود ومخاطبات ودلالات الذي يبدو شحوبا في شجرة الحراز فلها قصة يرويها جيل عن اخر مع سليمان بن الترزي المعروف عبدالرحمن النجومي . اذ يقال أن الجن الكلكي الذي يلبس "عراقي" قصير نصف كم يلعب في عرصاتها في الليالي المقمرة "حكو" و"شليل" و"حارة" "وتوري ورد" وان "ميس" الوريدة يقع في مدينة كنو في شمال نيجيريا كما قد أجاب لاعب من الجن على تسآل آخر اكثر منه جنا :اين الميس؟ فلما سمع يوما سليمان بن الترزي النجومي وقد كان عابرا في وقت متأخر من الليل بفناء الحرازة خطفت صعقة دهشة المفاجاءة من طول مسافة "الميس" عقله الذي فارقه منذ تلك الصيحة فراق الطريفي لجمله . -21– المدينة التي مشى في دروبها قراض القش والشيخ البدوي ولنقو ويارقو وفاطمة راشد تتمثل النهود مراة تدور باتساع طولها وعرضها مع كل راء وفقا لموقعه والعتبات التي يقف عليها ونفاذ العيون التي يتمتع بها والعقل الذي يضخ الدم في عصب حدقاته فيبصر أمامه وخلفه وتحته وفوقه فترى تلك المدينة من كل ابعاد المكان في الزمان فهي حاضرة العساكر والدقاقيم والغريسية من لدن منعم منصور الشيخ واسماعيل قراض القش وحمد علي فتين الى عبدالرحيم ابو ضقل تضرب اليها اكباد الابل من أم بل وفوجة والشريف كباشي والزرنخ وأم ضبية وغبيش واللعيت ابوحبيلات والويوي والمجرور وام قرنا شاك و ابوزبد " والدودية وأم جقرو وشق الحاف زفة وسوقا عامرا واسترجاعا لايام حمر في معارك "القرطاس والعقال" في القرن التاسع عشر* وزيارات فيها الشفاء والبركات والمعرفة لحلقات اقطاب الفقة المالكي الى جوارالبيانات المضيئة في اضرحة "السادات الاولياء* وهي ذات المدينة التي استضاءت بمشاعل اليسار الماركسي والاتحادي وازدهر فيها الذي يكتب في رسالة احمد حسن الزيات أحمد حسن عركي والشاعر تاج السر الحسن والشاعر صالح أدم بيلو ومشى في حواريها الشوام والأصوللية والحجازيين من ال حجيلان والبابطبن ولنقو ويارقو وكرياكو ورائدة التعليم النسوي في المدينة فاطمة راشد وشكري عرقتنجي الشريك لاسماعيل موسى الحدربي وأقسم بالطلاق للمرة الستين في اسواقها السادة التجار بعمائمهم الحلزونية . "وفي مدينة يدعونها "النهود" في السودان كالحلزون كان في الرؤوس عمائم بيضاء كانت الجلابيب هنا بيضاء كالشعاع يختال فيها السادة التجار" -13– الخليفة الحسن من ارتولي وتاج السر من النهود هاجر خليفة السجادة الختمية الحسن الحسين من جزيرة "ارتولي" الى الشمال من مدينة بربر منذ بدايات العقد الثالث في القرن العشرين الى رحاب النهود حيث ازدهرت فيها تجارة المحاصيل والمواشي والجلود والخردوات واحتضنت الواحة التجارية التي تلاقت في أسواقها ومواقف تراحيلها واحيائها ومجالسها وحلقات درسها وذكرها ومحاكمها مختلف الاعراق السودانية والتشادية والنيجرية والطرق الصوفية والاديان مع الجاليات المصرية والحجازية واليونانية والشامية والاتراك المسيحيين فامتزجوا وتصاهروا وانصهروا في مجتمع نهودي له قسمات وخصائص وثقافة لها اركان وبيان وصيت . مثل الخليفة الحسن الاخ الاكبر للشاعر عوض الحسين الذي هاجر الى مصر في وقت باكر (1940 ) من سني عقد الاربعين طلبا للعلم في الازهر وكان من مشاهير القصيدة الواحدة في ديوان الشعر الغنائي السوداني* حيث ذاعت وراجت وعلقت في الالسنة والقلوب رائعته الرومانسية " يا نسيم أرجوك روح لها و حييها- بالغرام البي و الشجون أحكيها " التي تغنى بها التاج مصطفى في مطلع عقد الخمسين من القرن الذي مضى. و وحري أن لا ينسى أن الخليفة الحسن الحسين ايضا اب للشاعر الحسين ( فتح الحاء وكسر السين) الذي تعرف عليه عشاق الغناء عبر " حبيبة عمري تفشى الخبر" والاخرى "أكاد لا أصدق" اللتان تعدان من خرائد الفنان عبدالكريم الكابلي ويتحدث زملاء دراسة الحسين الحسن على ايام العصر الذهبي لجامعة الخرطوم في النصف الثاني من عقد الخمسين ( 1955 -1960 ) كالكاتب والمترجم الرفيع عبدالمنعم خليفة خوجلي عن الحسين الذي يضارع صلاح أحمد ابراهيم في رصانة ومصطلح الشعر الحديث الذي تغنى بجميلات ذلك الزمن الزاهر اللاتي سار بذكرهن وماقيل فيهن كل من جمع بين التعلق بالشعر الموهوب في الجمال الذي يصرع كل ذي لب حازم واضاف الحسين الى جودة القصيد البراعة في العزف على الكمان أما الشقيق الاكبر تاج السر الحسن فقد بنى للاب مقاما عليا في معمار ديوانه الشعرى حيث يتسنى استعادة كل عالم ذلك الاب بمعارجه في عوالم التجار ومداوراتهم والاعيبهم وسكاكينهم الطيال التي فتحت عيونه على جذور النزاع الاجتماعي في بلد من اكبر مدن الغرب: " أبي يجلس في حانوت في بلد من أكبر مدن الغرب النيمة تلقي الظل على شارعنا الرحب خضراء ,والظل الازرق حدده بحر الشمس ومن الحانوت تفوح عطور الشرق الصندل والقرفة والشيح وضجيج العربان وثياب عفرها ترب الوديان صبغتها بالحمرة كف الريح" ** د-عبدالسلام نورالدين [email protected] ///////////