كانت النكتة تمضي طازجة وجعفر نميري طريح الفراش في مستشفي فيرفاكس بفرجينيا في آخر رحلة علاجية للولايات المتحدة قبيل وفاته بسنوات قليلة ،كان يتجاذب اطراف الحديث مع رفيقه الأمريكي الذي يرقد مريضا في ذات المستشفي وهما في غرفة الانتظار لإجراء فحص ما،ولما بدأ نميري في التعريف بنفسه وانه رئيس سابق لأكبر قطر أفريقي وأنه صديق شخصي للرئيس بوش والرئيس ريغان الذي التقاه في البيت الأبيض عام 1985،جحظت عينا الأمريكي وظن أن محدثه فيه مس من الخبل والجنون لأن هيئته العامة لا تنم عن آثار نعمة الرئاسة كما لا يوجد أي اهتمام استثنائي بوجوده أو جلبة حاشية ترافقه، فقال هامسا للممرضة،هذا الأفريقي يدعي أنه رئيس سابق وأنه صديق شخصي للرئيس ريغان أقترح احالته علي الفور الي طبيب نفساني بالمستشفي. حالة الإنكار التي اعترت المواطن الأمريكي وهو يستمع الي الرئيس نميري كفاحا في باحة مستشفي فيرفاكس بفرجينيا، هي نموذج مصغر لحالات الانكار التي احتشدت في سيرته السياسية، وظل الأستاذ مصطفي البطل مثابرا و منافحا عن قناعته الذاتية منكرا كل الروايات الشفوية عن حالات التعدي الجسدي علي مرؤوسيه ببينات ظرفية وحججا عقلية، وماتزال معركة النفي والإثبات تدور رحاها بين النخب والمهتمين والناشطين. وكان ظني ان مزاعم ضرب نميري لوزرائه لا تمثل قضية جوهرية في تاريخ حكمه السياسي لكن حولتها الثقافة السودانية التي تمجد التعلق بالأشخاص والإغراق في الشخصانية الي قضية نالت اهتماما متعاظما من الناس، ليس من باب البحث الجاد عن مراجعة الكسب السياسي للرئيس نميري، ولكن لعله من باب الفضول السياسي والكيد الإجتماعي لإثبات فروسية نميري من وجه وكذلك للتأكيد أن بعض الوزراء يستحقون الضرب من وجه آخر. ويمتد ميسم الفضول للبحث عن المفعول به لمعرفة (المضروب بالجزمة من المضروب بالبنية). وقال بعض أهل التبكيت أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب قد علا بعض الصحابة بالدرة فما بال نميري لا يفعل ذلك مع وزراءه. فتحت الشهادة التي يدلي بها الدكتور منصور خالد في قناة العربية في برنامج (الذاكرة السياسية) بابا موضوعيا لمراجعة الكسب السياسي لفترة حكم الرئيس نميري.وتحلي الدكتور منصور خالد بنزعة من الإعتدال ونبرة من الإنصاف في روايته للأحداث أثناء تلك الفترة المضطربة، وغابت عن شهادته علي نحو ملحوظ نبرة الإدانة والتقريع التي مازت كتبه التي حررها نقدا ووصفا لذات الفترة التاريخية . وقال منصور خالد إن الرئيس نميري كانت تتحكم في تفكيره السياسي روح المغامرة وحب البقاء وأنه يمضي بالأمور الي نهاية الشوط ولا يبالي. وهذا يخالف ما يعرفه الفرنجة (بالأختيار العقلاني) وهو أن يختار الفاعل السياسي تصرفاته وما ينجم عنها من آثار سياسية علي اسس من التفكير العقلاني الراشد للوصول الي مبتغياته. ولكن نميري حسب شهادة منصور غلبت علي تفكيره السياسي روح المغامرة التي يمضي بها حتي النهاية لا يلوي علي شئ. وذلك ما دفعه لإبتدار قوانين الشريعة أو ما عرفت بقوانين سبتمبر لأنه أراد أن يسحب البساط السياسي من زعماء الاحزاب اليمينية تحت مظلة الجبهة الوطنية (الترابي والصادق والميرغني) قائلا "إذا كانت بضاعة هؤلاء للشعب السوداني هي الإسلام فسأطبقه بحذافيره". ووجد منصور خالد ايضا مبررات عقلانية لقرارات نميري وهو يتصدي لرموز إنقلاب هاشم العطا قائلا:" لقد أهانوه عند اعتقاله فلا يمكن أن يضرب لهم تعظيم سلام". تعرض منصور خالد من طرف خفي الي دور البريطاني الشهير تيني رولاند في اجهاض انقلاب هاشم العطا خاصة انزال طائرة الخطوط البريطانية في طرابلس وتسليم قادة الإنقلاب، وقال إن تيني رولاند ارسل طائرته الخاصة لتقل وزير الدفاع خالد حسن عباس من القاهرة للخرطوم.مشيرا الي أن رولاند كانت لديه مصلحة راجحة في الحفاظ علي نظام نميري لأنه وكيل مشتروات السودان الخارجية. وتيني رولاند الذي توفي عام 1998 عن عمر يناهز السبعين خريفا كان يسمي ملك أفريقيا غير المتوج، لأنه استطاع منذ ان قدم الي روديسيا (زيمبابوي) وهو في عمر الثلاثين عاما أن يقيم علاقات ممتدة مع معظم زعماء القارة،.تميز دوره بالغموض لأنه ظل متورطا طيلة فترة عمله في أفريقيا في دعم الحكومات و المعارضة في آن واحد. وصفه جون قرنق من قبل بأنه تاجر مشوش لأنه عمد الي دعم حكومة نميري والحركة الشعبية في ذات الوقت، إذ طلب منه الرئيس نميري التوسط مع زعيم الحركة الشعبية جون قرنق عام 1984 الذي رفض عرض نميري حسب رواية منصور خالد بأن يتقلد قرنق منصب النائب الاول لرئيس الجمهورية وان يعين ثلث مجلس الوزراء. ولكن سرعان ما أنخرط تايني رولاند في دعم الحركة الشعبية بالسلاح.ونسبة لدوره المضطرب في تأجيج الصراعات الداخلية في أفريقيا فقد وصفه رئيس الوزراء البريطاني حينها (هيث) بانه الوجه غير المقبول للرأسمالية البريطانية لتهربه من الضرائب.فقال رولاند ردا عليه أنه لا يحبذ ان يمثل وجه الرأسمالية البريطانية في افريقيا. جمع رولاند 67% من أعمال وارباح شركته المتعددة الاغراض من أفريقيا وقد نعاه المناضل نيلسون مانديلا كأحسن ما يكون المدح لدعمه لقضية التحرر الأفريقي وتصديه لنظام الفصل العنصري كما اشاد به الرئيس كينث كاوندا لدعمه اللامحدود للأفارقة. عندما نجح في تأسيس شركته كأكبر شركة بريطانية علي الإطلاق أشتري صحيفة الأوبزيرفر ودخل في معركة خاسرة لتملك محلات هاوردز الشهيرة من محمد الفايد. وتورط رولاند في صفقات سلاح كثيرة مع الحركة الشعبية تحت قيادة جون قرنق إلا أن معظم قيادات الحركة الشعبية كانت تشكك في توجهاته لأنه استطاع في وقت وجيز أن يخترق صف القيادة العليا وربطته علاقات متميزة مع رياك مشار ولام أكول إضافة الي جون قرنق الذي لم يكن يحسن فيه الظن ويعتبره عميلا للحكومة والمعارضة المسلحة في ذات الوقت. في إستعراضه لكتاب دوغلاس جونسون عن الأسباب الحقيقية للحرب الأهلية في السودان في دورية الاقتصاد السياسي في افريقيا بلندن أتهم لام أكول تيني رولاند بالتورط في تغذية الصراع داخل صفوف القيادة العليا للحركة الشعبية. وهو ذات الإتهام الذي حمله مادوت اشيك في كتابه الذي اصدره في الولاياتالمتحدة قبل سنتين تحت عنوان:"الاندماج والانقسام في السودان.النهضة الأفريقية"، وقال إن رولاند كان يريد حكما ضعيفا في مناطق الحركة حتي يستطيع ان يتحكم في ثروات جنوب السودان. ووصف الحرب في جنوب السودان من قبل في احد وجوهها بأنها حرب أيما زوجة رياك مشار الانجليزية الراحلة وكذلك حرب تيني رولاند. وفي السودان ارتبطت حقبة الرئيس نميري ايضا بالملياردير السعودي عدنان خاشقجي والملياردير البريطاني تيني رولاند. لقد ولد رولاند في الهند عام 1917 في معسكرات الحرب من أب ألماني وأم بريطانية ولم يستطع الدخول الي بريطانيا فعاش مع اسرته في هامبورغ وانضم الي التنظيمات الشبابية لهتلر حتي ارسله والده الي مدرسة داخلية في بريطانيا. ومنها ذهب مغامرا الي روديسيا حاملا معه بندقيتين ليعمل في المناجم وتجارة المعادن فتحول الي ملك غير متوج لأفريقيا. وباع في مطلع عقد التسعين معظم فنادقه في افريقيا للرئيس الليبي السابق معمر القذافي بعد لوكربي مما ادخله في مشاكل قانونية لا حصر لها أزدادت مع تصاعد معركته الخاسرة مع الفايد بلندن فأنهارت امبراطوريته المالية التي بناها بعرق الأفارقة ونهب ثروات الشعوب ورشوة المسئولين. لعل غلبة النزعة الموضوعية في شهادة منصور خالد عن حقبة الرئيس نميري جاءت لروايته كشاهد ملك علي الاحداث التي عاصرها وكان طرفا فيها اثناء فترة عمله وزيرا للخارجية، وتلازم مع ذلك عكوفه علي تبييض مذكراته بعد ان اعتزل العمل السياسي المباشر فلم تعد هناك غبينة او شبهة انتصار لموقف سياسي،وهو كما علمنا يعمل علي تأليف كتاب عن الهرم الراحل محمد أحمد المحجوب. لقد ردتنا شهادة منصور خالد لإعادة الجدل الي صميم الكسب السياسي للرئيس نميري ماله وما عليه، وليس الوقوف علي اعتاب مرويات الصفع والضرب ومتلازمات المزاعم والادعاءات، وهذا في عرف التاريخ لا يوقظ حكمة او يثبت مظنة او يقيم اودا. لقد حاول الدكتور محمود قلندر ان يبسط تجربة نميري في الحكم والسياسة علي منصة التاريخ،كما فعل الراحل زين العابدين محمد احمد في سنوات الخصب والجفاف، ولكن سيظل هذا الملف مفتوحا للنقاش والجدل لأن معظم شهود هذه الفترة أحياء وذاكرة الشعب ما تزال متقدة ولكن لا بد أن تتوفر الجدية والمصداقية ونبل المقصد وان نبتعد عن الاغراق في الشخصانية ووكأة الكيد السياسي ومهابشات الوصم الإجتماعي. [email protected]