(قراءة في مأزق الإسلامويين: محاولة استكشافية لعقول متنازعة بين شد الماضي وجذب الحاضر)! عيسى إبراهيم * القارئ العزيز نواصل ما بدأنا من نقد واستعراض لكتاب الأخ العزيز (المهندس) عبد المنعم مصطفى "الاسلام والدولة – مقاربة منهجية"، وكنا قد وقفنا في الحلقة الماضية عند التساؤل الموضوعي: لماذا ينصرف الكاتب أو كاتب التقديم عن انتهاج الديمقراطية، أعظم ما أنتجته الانسانية في سيرها المضني بين الدماء والدموع للوصول إلى بر أمان في نظام الحكم، وخلفت لنا ميراثاً ضخماً من التجارب المرجعية والمعلومات المفيدة، وقد اكتملت الديمقراطية من حيث الشكل أو تكاد، وبقي أن تكتمل من حيث الموضوع، واكتمالها في اعتقادنا يأتي من استصحابها الاشتراكية في نظام سياسي واحد، يعملان سوياً لاستكمال تحرير الانسان اقتصادياً، ليكون حراً بلا قيد من الحاجة إلى تكيفه المعيشي، ولتولد من تزاوج الديمقراطية والاشتراكية العدالة الاجتماعية المنشودة؟!. المواطنة؟! في حديث الكاتب عن المواطنة قال: "إن أكبر تحدٍ يواجه النظام السياسي القائم على أساس الاسلام هو التصور الحديث والمعاصر للمواطنة"، وهو هنا يقرر ان المواطنة هي افراز لتصور حديث ومعاصر ل "المواطنة"، ونعى على الفقهاء السابقين دورانهم حول تخريجات مؤلفات التراث عن عهد الذمة، وعهد الذمة (في رأي الكاتب) في زمانه مثل أسمى ما توصل له العقل الفقهي والتجربة الانسانية في المخالف في الدين والعقيدة، والكاتب يتعامى عن عهد الذمة الذي يفرق بين "المسلم" و"الذمي"، ويتعامى عن عتاب سيدنا عمر واستنكاره لأحد ولاته الذي اتخذ كاتباً ذمياً مبرراً ذلك (حينما سُئل من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب) بقوله: "يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه"، فانتهره عمر رضي الله عنه وهم به وقال: "لا تكرموهم إذ أهانهم الله، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله، ولا تأتمنوهم إذ خونهم الله عز و جل" (السنن الكبرى للبيهقي 20196)، وفي رواية أخرى قرأ عمر: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ". يتغافل الكاتب أيضاً عن آية الجزية التي سمحت للكتابيين بمساكنة المسلمين بأحد ثلاثة شروط: أن يسلموا، أو يدفعوا الجزية "عن يدٍ وهم صاغرون"، أو يقاتلوا حتى يرضوا بأحد الشرطين. يقول الكاتب: "اتجه المفكرون – مع قيام الدولة القومية في القرن السادس عشر وانهزام الكنيسة أمام المد المعرفي التنويري – لتصورات عالية في مثاليتها في المواطن، وشروط المواطنة، طوروها من إرثهم الاغريقي – الروماني. بحيث أصبحت شروط الذمي والمعاهد ينظر إليها بأنها غير كافية وتصنف الآخر الكتابي كمواطن من الدرجة الثانية وتخرج غير الكتابي تماماً من المعادلة"، ويريد الكاتب من المسلمين اليوم أن يدققوا في السيرة وفي أولى وثائقها، وهي صحيفة المدينة، وأن يقوموا بتطوير رؤيتها فكرياً وعملياً، إذ يعتبرها الكاتب وثيقة لمواطنة متعددة الأعراق والأديان، ولا يبرر لنا كيف كان ذلك بمعايير ذلك الزمان؟!، وفي رأيه أنها أول وثيقة من نوعها في التاريخ تؤسس للمواطنة (أيضاً لا يبرر الكاتف الكيفية التي جعلت صحيفة المدينة تؤسس للمواطنة)، وأن ما حدث ليهود بني قينقاع وقريظة وخيبر كان بسبب تحريضهم ضد الدولة، وتمت معالجة تلك الخيانة (كما يقول الكاتب) بالعرف السائد وقتها، فأسقطت عنهم الحقوق والواجبات التي حظوا بها كمواطنين في الدولة!، وهنا نشاهد بوضوح كيف وقع الكاتب في براثن المصطلح الحديث ومحاولته المضنية لاسقاطه على الماضي، مع تغافله وتعاميه عن النصوص القرآنية والتراثية التي تقرر بوضوح التفرقة بسبب الدين بين المسلم والذمي!!. عودة لكاتب التقديم وعدنا في كتابتنا الناقدة لتقديم حيدر الخليفة أن نعود لاحقاً لتناول التقديم حيث قلنا هناك: " أمر آخر نؤجل تناوله الآن حتى نفرغ أولاً من نقد متن الكتاب، ثم نعود لاحقاً لمناقشة كلمات وردت في التقديم تقول: "كما أنه ينفي (يعني القلب الخاشع في الصلاة) تفريط المنكرين والداعين لاسقاط الحركات بأي حجة كانت، لأن تحقيق علم الظاهر شرط لنيل علم الباطن، وان الوصول إلى الحقيقة يستوجب حفظ الشريعة" (المصدر: صفحتا 5 و6 من التقديم).."، وها نحن نفي بوعدنا ونقول: لا شك أن كاتب التقديم يعني الأستاذ محمود محمد طه فهو الوحيد الذي ورد عنه - كذباً وزوراً وبهتاناً وافتئاتاً – أنه أسقط الحركات في الصلاة حين قال بأصالته في صلاته، والطريف في الأمر أن للاستاذ محمود كتاباً في هذا الشأن بعنوان "من دقائق حقائق الدين" وجهه إلى الشيخ أبو زيد محمد الأمين الجعلي الذي أهداه كتاب "العبادلة" للشيخ محي الدين بن عربي وفطن الأستاذ محمود إلى مقصد الشيخ أبو زيد من اهدائه الكتاب حيث ورد في كتاب ابن عربي كثيرا حثه على ضرورة القبض على ميزان الشرع، فقال موجهاً كلامه للشيخ أبو زيد الجعلي: " ظننت أنك لا بد ترمي من وراء تقديم هذا الكتاب لصديقك القديم إلى معنى معين .. فأنت لا بد مشغول، كثيرا أو قليلا بما تسمع عني .. عساك تريدني أن أطلع ، بشكل خاص ، على ما ورد في صفحة 33 من كتاب (العبادلة) هذا ويجري النص هكذا:- (ومع هذا النزوع والطموح فهو بحكم التوفيق خاضع للحق لائذ بميزان الشرع من مغبة الانحراف وضلال الطريق)، وقد كرر هذا المعنى كثيرا في كتاب (العبادلة) وفي غيره من الكتب، وألح على ضرورة القبض على ميزان الشرع والعض عليه بالنواجذ في كل حال فزيادة على ما في العبادلة من ذلك يروي عنه ابن العماد قوله:- (رأيت في واقعة وأنا ببغداد سنة ثمان وستمائة أن السماء قد فتحت، ونزلت خزائن المكر الإلهي مثل المطر العام، وسمعت ملكاً يقول: ماذا نزل إليه من المكر؟ فاستيقظت مرعوبا ونظرت في السلامة من ذلك فلم أجدها إلا في العلم بالميزان المشروع . فمن أراد الله به خيرا وعصمه من غوائل المكر فلا يضع ميزان الشرع من يده .. (ويحقق خضوعه لهذا الميزان مع نزوعه وسبق روحه إلى آفاق العلا، ما نقله عنه الشعراني في اليواقيت المكية 246 حيث يقول: إياك أن ترمي ميزان الشرع من يدك في العلم الرسمي، بل بادر إلى العمل بكل ما حكم وإن فهمت منه خلاف ما يفهمه الناس. مما يحول بينك وبين إمضاء ظاهر الحكم به فلا تعوِّل عليه، فإنه مكر إلهي في صورة علم إلهي من حيث لا تشعر، واعلم أن تقديم الكشف على النص ليس بشئ عندنا لكثرة اللبس على أهله وإلا فالكشف الصحيح لا يأتي قط إلا موافقا لظاهر الشريعة، فمن قدم كشفه على النص فقد خرج عن الانتظام في سلك أهل الله، ولحق بالأخسرين أعمالا) انتهى كلام الشيخ الأكبر، وانتهى كلام محقق كتاب العبادلة .. ". ** يواصل الأستاذ في خطابه للشيخ أبو زيد ليقول: علام يقومُ أمرُنا وأبادر فأطمئنك على أمرين هامين: أولهما أني لم أضع ميزان الشرع من يدي .. وثانيهما أني لم أبن شيئا من أمري على كشف يخالف ظاهر النص . أول ما تجب الإشارة إليه ، هو أن أمرنا هذا يقوم على يقين لا يتزعزع بأن الإسلام عائد ليدخل في حياة الناس ، فينظم أمر معاشهم ، وأمر معادهم ، ويبعث (لا إله إلا الله) في صدور الرجال ، وصدور النساء ، بعثا قويا، خلاقا ، يعيد صياغة الأخلاق ، وصياغة الأفكار ، كالعهد بهذه الكلمة لدى أول نزولها ، على نبينا الكريم ، في القرن السابع الميلادي .. ومما لا شك فيه عندنا أن الإسلام لا يعود إلا بفهم جديد لنصوصه القديمة ، في القرآن ، وفي الحديث .. وهذا الفهم الجديد لا بد أن تصحبه غرابة تشبه الغرابة التي صحبت أول مجيئه .. فلقد وردت الإشارة إلى هذا الأمر في الحديث الكريم .. (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ .. فطوبى للغرباء!! قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها!!) ** الشرعُ شرعان، والنَّصُ نَصَّان ولقد يحسن بنا ، في مقامنا هذا أن نطلعك على رأينا في ما هو الشرع؟؟ وما هو النص؟؟ فالشرع عندنا شرعان: شرع كان عليه النبي ، في خاصة نفسه ، وشرع كانت عليه الأمة .. فأما الشرع الذي كان عليه النبي ، في خاصة نفسه ، فهو معروف بالسنة .. والسنة ، عند الفقهاء ، هي عمل النبي ، وقوله ، وإقراره .. فانتهى بذلك الأمر عندهم بألاّ فرق بين السنة والشريعة .. فشريعة النبي هي سنته .. والأمر عندنا بخلاف ذلك .. عندنا أن النبي كنبي قد كلف بشرع لم تكلف به الأمة .. ولقد قال في أمر نبوته، وأمر رسالته للأمة: (أدبني ربي فأحسن تأديبي ، ثم قال: خذ العفو ، وأمر بالعرف ، وأعرض عن الجاهلين ..) فصدر هذا الحديث نبوة ، وعجزه رسالة ، والفرق بين النبوة وبين الرسالة كالفرق بين النبي والرجل من سائر أمته .. وعن هذا الفرق الشاسع وردت الإشارة بقوله: (نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم ..) وهذا يعني أن شريعة الرسالة تختلف ، اختلاف مقدار، عن شريعة النبوة (عن السنة) .. شريعة الرسالة تنزّل من شريعة النبوة لتخاطب الناس على قدر ما تطيق عقولهم ، ولتكلفهم بالقدر الذي يستطيعون التزامه ، من غير مشقة ، ولا عنت ، ولتحل مشاكلهم التي تواجههم ، في معاشهم ، وفي معادهم ، حلا يحفز تقدمهم ، من غير أن يشتط عليهم ، أو يتوانى بهم .. ثم يواصل الأستاذ في خطابه للجعلي ليتحدث في عناوين عن شريعة النبوة وشريعة الرسالة، ومثاني القرآن، وأمة المؤمنين وأمة المسلمين، والاسلام اسلامان، والاسلام رسالتان، والرسالة الأولى كالثابتة، والرسالة الثانية متحركة، والصلاة وسيلة الحركة في المراقي، وانما يبعث الاسلام ببعث الصلاة، ويجب اتباع النبي في أعماله وفي أحواله، ثم يصل الأستاذ محمود في خطابه للشيخ الجعلي إلى ختام خطابه للشيخ الجعلي ليقول عن زبدة الموضوع في رد حاسم: ** لم ألق ميزان الشرع من يدي فأنت ترى إذن أنني لم ألق ميزان الشرع من يدي، وإنما فهمت الشريعة في مستواها الجماعي، وفي مستواها الفردي .. فأنا صاحب شريعة فردية، اقتداء بالنبي، وتأسيا بحاله، وأنت ترى أيضا أني لا أتبع كشفا يخالف ظاهر النص، وإنما فهمت النصوص على مستويين على نحو ما أوردت لك في هذا الكتاب .. أما بعد فإن هذا القول غريب، ولم يقل به أحد من الأمة، من لدن نزول القرآن، وإلى اليوم .. ولكنه صحيح .. وهو حق .. بل ليس غيره حق اليوم .. وغرابته توجب على العلماء التزامه، على أيسر تقدير إلى أن يبين لهم حقه من باطله، لأن الغرابة أصل في عودة الدين بمقتضى حديث المعصوم، الذي كثيرا ما أشرنا إليه في كتابنا هذا: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا، كما بدأ، فطوبى للغرباء!! قالوا: من الغرباء، يا رسول الله؟؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها .. أو قال في رواية أخرى عن الغرباء: هم فئة قليلة مهتدية، في فئة كبيرة ضالة) .. ثم أما بعد، فإن هذا الكتاب قد طال، ولا يزال في النفس شئ يتوق إلى أن يقال، ولكن لا بد من قبض عنان القلم خوف الإملال .. وأنت مدعو أيها الصديق العزيز، إلى مراجعة كتبنا، وبصورة خاصة (الرسالة الثانية من الإسلام) فإنك لا بد واجد فيها القول الثابت، الذي به تطمئن القلوب، وتقر الأعين . وفي الختام لك مني جزيل السلام. أخوك المخلص محمود محمد طه *** ونحن بدورنا ندعو كاتب التقديم الأستاذ حيدر التوم الخليفة، والقراء الأعزاء، في حالة طلب الزيادة من كتاب "من دقائق حقائق الدين" أن يذهبوا لموقع الفكرة الجمهورية على الشبكة العنكبوتية؛ شبكة الانترنت: : (www.alfikra.org) ملف الكتب، والاطلاع على الكتاب المشار إليه: "من دقائق حقائق الدين".. هل يمكن تجاوز الفكرة الجمهورية؟! هذا السؤال في غاية الأهمية، وينبغي التوقف عنده ملياً، هل يمكن تجاوز الفكرة الجمهورية؟!، هل يمكن لعاقل أن يقفز على الفكرة الجمهورية متجاوزاً لها قبل استيعابها وابداء الرأي في طرحها؟!، والاجابة يمكن أن تكون بالايجاب، نعم!، يمكن تجاوز الفكرة الجمهورية!، شريطة مناقشة أفكارها المطروحة ودحضها!، وإلا فاتباعها (حين يبين عدم المقدرة على دحضها) أولى من تجاوزها، أو (على أقل تقدير) استصحابها حتى يظهر ما هو أولى منها بالاتباع إن كان هناك ما هو أولى في مجالها الذي طرقته وتناولته!. * [email protected]