شهدت الأيام القليلة الماضية حراكاً سودانياً في كثير من المنابر في الخرطوم وفي العاصمة الأثيوبية أديس أبابا حيث تفاوض الحكومة السودانية متمردي ما يعرف بقطاع الشمال حول المنطقتين أي جبال النوبة والنيل الأزرق، وهي في ذات الوقت تقود تفاوضاً آخر مع متمردي دارفور من كل الجبهات والفصائل، مع وجود ملحوظ لما يعرف بالجبهة الثورية وقوى الإجماع الوطني المزعومة، وحضور بعض الأحزاب الموالية للحكومة وجماعة ساهرون! ومع أن الوفود المفاوضة تتحدث لوسائل الإعلام عن إحراز تقدم في بعض المسائل المطروحة على طاولة التفاوض، نرى قوى التمرد تعقد اتفاقاً مع "عجائز" السياسيين السودانيين تحت اسم "ميثاق نداء السودان" وهو، بزعمهم، منفستو لتأسيس دولة المواطنة والديمقراطية بعد تفكيك نظام دولة الحزب الواحد وإنهاء الحروب والنزاعات وبناء السلام على أساس عادل وشامل. فهل يا تري هنالك ضرورة للزج بالبلاد في مزيد من الصراعات الدامية؟ ألا يمكن تحقيق قدر من الوفاق على أجندة وطنية داخل السودان وعلى ترابه بعد أن فتحت الحكومة ذراعيها لاحتضان كل من حمل السلاح ضد الدولة مع توفير كافة الضمانات التي تكفل حرية التعبير ومناقشة الأمور دون قيد أو شرط مسبق؟ وإني لأعجب لأمر السيد الصادق المهدي الذي يضع يده الآن مع الرويبضة ياسر عرمان وعملاء إسرائيل الذين التقوا موفدي المخابرات الصهيونية في أديس الأسبوع الماضي. ألا يستحي هذا الرجل أن تبلغ به البراغماتية هذا الحد من الفجور؛ خاصة وأن الحكومة السودانية قد مدت له يدها ودعته للحوار الوطني الذي يتوقع له أن يفضي إلى إجماع قومي يعبر بالبلاد إلى بر الأمان ويضع أسساً راسخة لنظام الحكم عبر دستور يتوافق عليه الجميع، حفظاً لدماء السودانيين وتحقيقاً للسلام والتنمية بأسلوب سلمي وطني بعيداً أن أية أجندة خارجية قد تضر بالمصلحة العليا للوطن طال الزمن أو قصر. ومن جانب آخر شهدت العاصمة السودانية الخرطوم مؤتمراً عربياً بمشاركة وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف. وبما أن المصائب يجمعن المصابين، فقد التقت مصالح روسيا الاتحادية مع السودان؛ إذ كان كلاهما ضحية للغطرسة الأمريكية التي فرضت عقوبات ومقاطعة أُحادية على الطرفين؛ ولذلك كان من الضروري التفكير عبر المصالح المشتركة للخروج من هذه الدوامة الشريرة التي تستغلها أمريكا وحلفاؤها للهيمنة على الشعوب والدول سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في بعض الأحايين. فقد أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من الخرطوم، أن السودان وروسيا يملكان خططاً محددة لتعزيز التعاون العسكري وأشار لافروف إلى سير العلاقات بين موسكووالخرطوم بخطى ثابتة وأن التعاون بينهما يسير إلى الأمام، مشيراً إلى انعقاد اللجنة الوزارية المشتركة بين السودان وروسيا في العاصمة الروسية الأسبوع المقبل. وهذا تطور إيجابي سوف يساعد كثيراً على توفير دعم معتبر للقوات المسلحة السودانية، كما سيعطي دعماً سياسياً لمواقف السودان، في المحافل والمنظمات الدولية، ينبغي أن يوضع في حسبان كل من يراهن على دعم الدول الغربية واللوبي الصهيوني لتفتيت وحدة السودان خدمة لمصالح باتت معروفة يجب ألا يساندها أو يدعهما أي شخص في قلبه مثقال ذرة من وطنيه وولاء للسودان. عموماً، نحن نؤيد توجه الدولة لإقامة علاقات إستراتيجية مع روسيا الاتحادية تقوم على تبادل المصالح والمنافع والخبرات وتعزز مواقف البلدين أو كما قال الأستاذ الصادق الرزيقي في مقال له في هذا الصدد (اليوم تنتبه روسيا وينتبه العالم العربي إلى أهمية الحوار وتبادل الأفكار حول المصالح التي تجمع الطرفين وأهمية تعزيز التعاون المشترك وبناء علاقات تقوم على تقديرات صحيحة وفهم متقدم للواقع الدولي). ونحن في السودان أشد حاجة لهذا التعاون من غيرنا بعد أن تكالبت علينا أذناب أمريكا وضيقت علينا الحصار رافضة مدّنا حتى بالأدوية المنقذة للحياة ناهيك عن قطع غيار الطائرات والقطارات وأبسط التقنيات الضرورية للاستفادة من مصادر بلادنا الطبيعية الكثيرة. علماً بأن روسيا تحاول استعادة دورها الريادي في المنطقة وسحب البساط من تحت أقدام الولاياتالمتحدة التي انفردت بالعالم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي إثر حقبة الحرب الباردة، حيث تسعى موسكو في الوقت الراهن عبر بذل نشاط مكثف في منطقة الشرق الأوسط والقارة الأفريقية لاستعادة نفوذها مجدداً. من المؤسف حقاً أن المعارضة السودانية لا تزال تعول على حاملي السلاح والمتمردين من أجل إسقاط النظام متجاهلة كل هذا التطور النوعي في العلاقات السودانية الخارجية، الأمر الذي يتوقع له أن يحدث تحولاً كبيراً في وضع السودان على المستويين العربي والإفريقي. عموماً على الحكومة السودانية أن تحمل الأمور محمل الجد إذ أن روسيا هي دولة عظمى لها مؤسسات عريقة وتتوفر لها إمكانيات غير متاحة لغيرها من دول كثيرة ؛ فهي تستطيع مساعدة السودان في مجالات النفط والزراعة والقدرات العسكرية والصناعات الثقيلة، وفي المقابل لها مصالح وأهداف تخدمها من أجل مصلحة شعبها؛ ومن هنا فإن من الأهمية بمكان أن يسند ملف التعامل مع روسيا لذوي الخبرة والدراية بالشأن الدولي.