أنا والحمار بين الماء والنار بين خليفة المهدي و ودالنجومي: بعد بلوغ الخليفة حال الخلاف بين أمرائه، أمر الأمير عبدالحليم والأمير ود النجومي أن يحضرا إلى أم درمان. حيث عتب الخليفة عليهما عند وصولهما إليه. ثم صار الخليفة يرسل المراقبين لينظروا في الخلاف الذي بين ود النجومي ومساعد قيدوم. حتى قرر الخليفة إرسال يونس الدكيم أميراً عاماً، رئيساً عليهما. ليصل يونس إلى دُنقُلا، ويتلو أمر تعيينه في الجامع بعد صلاة الظهر، وقد كان في مضمونه أن يطيع ود النجومي ومساعد الأمير يونس تمام الطاعة (كالميت بين يدي من يغسله). تقدم ود النجومي نحو الأمير يونس الدكيم وسلمه سيفه ورماحه، وأخرج سكينه من ذراعه ووضعها أمام الأمير الجديد. فشكره يونس، قائلاً: بارك الله فيك. أنت يا ود النجومي من أبكار المهدي (أي من السابقين من القادة)، ومن أعظم قادتنا المنصورين. ثم تلاه مساعد وفعل مثل ما فعل ود النجومي. ثم عزل الأمير يونس الدكيم كل عمّال ود النجومي السابقين العاملين في تحصيل الضرائب والمهام الموكلة الأخرى. هذا إلى جانب تعرض البعض للعقوبة. وكانت المجاعة قد اشتدت وطأتها في العام 1305 ه الموافق 1888م. عندما اقترب قيام غزوة ود النجومي للقطر المصري. رأي والدي، الذي كان ضمن الجيش، أن يبقى بالمحس مع العوائل. ففي حالة النصر سيتحركون إلينا بمصر، وفي حالة الهزيمة يكون الرجال خفافاً للرجوع إلى المحس. اعترضت أمّي لشدة عقيدتها، قائلة لزوجها: هوي يا راجل صُد براك (ارجع لوحدك)، نحن من الله ما صادّين. فضحك والدي، وبقي بالمحس مع سعيد أخي، حتى هُزِمنا ورجعت له زوجته الثانية. وقد كان على يقين أن جيشنا سيهزم، فقد تحرك الجيش بدون مؤونة. وقد كان ذلك رأي يوسف أخي (الذي قتل في هذه الغزوة، وهو دون سن البلوغ). وقد جاع الناس في تلك الحملة حتى أكل الناس الميتة. واقعة أرقين: في تلك الظروف سافرنا مع جيش ود النجومي في إمرة عبدالحليم، حيث بتنا في شونة الحديد (ربما مكان انتهاء الخط الحديدي وقتها). ضرب النحاس عند السحر. صلينا الصبح، وقبل أن نقرأ الراتب واصلنا سيرنا. لمّا طلعت الشمس كنّا قبالة أرقين. نزلنا إلى النهر ، وجدنا النخل حِمْلة (لم تخرج رؤوس التمر من أغمادها). لكن لشدة الجوع قطعناه، ثم أخذنا الماء للعائلات بالمعسكر، ثم رجعنا لمقابلة العدو. وقد كان ترتيب الجيش هو بقاء ود النجومي ومساعده عبدالحليم بالمعسكر. السلاح الناري قبلي (جنوب ارقين) من جهة الغرب. الطوبجية (أطقم المدافع ) مع مدافعهم من جهة الشمال لمقابلة الوابورات. الفرسان والمشاة في الوسط. بدت لنا وابورات العدو والبيادة (المشاة) نحو الثانية والنصف بعد الظهر. فهجم علينا المشاة، وهجمنا عليهم فتقهقروا، حتى دخلنا مشتبكين إلى ماء النهر. وفي هذه الأثناء صوب قائدهم الانجليزي مدافعه، بعد أن تبين له أن لدينا مدافع. فهدت مدافعه مدافعنا وقتلت أطقمها، ولم ينج منهم أحد. كما كنّا نحسب أن قائد سلاحنا الناري ينجدنا، لكن أرسلت له أورطة (فرقة عسكرية) ضربته وشتت جيشه. مات البعض، هرب آخرون للمعسكر وبعضهم سلّم للأورطة، ذلك أن تلك الأورطة كانت سودانية (تشتمل على جنود سودانيين). ثم هجم فرساننا نحو الأورطة الجنوبية، لتتصدى لهم وفي نحو عشر دقائق لم يسلم رجل منّا ولا حصان، إلا القليل. وقد حملت علينا الوابورات نحن المشاة لتضطّرنا للتقهقر. رجع أحد الفرسان للمعسكر : قائلاً لود النجومي: ناسنا كلهم ماتوا، ليجد الرد الغاضب من ود النجومي : أنت مالك ما مُت (لماذا لم تمت أنت؟). رجعنا ليلاً مهزومين، وبتنا ليلتنا وقد ذهبت رغبتنا في الجهاد. وذهب بعضنا ذوي العائلات باكراً للنهر قبل مجيء الوابورات، التي وصلت في السادسة صباحاً، ومنعت الناس من أخذ الماء والتمر النيء. ارتفع سعر الماء ذلك النهار بصورة غير مسبوقة. انعقد مجلس ود النجومي الحربي في تلك الليلة. كانت الأراء بين من يريد لقاء العدو مرة أخرى ، وبين مؤيد للرجوع. إذ أن التقدم في بلاد العدو يعد ضرباً من الانتحار. أما ود النجومي ومعه بعض آخر قرروا الاستمرار. وفي صباح ثالث يوم للواقعة غادرنا أرقين بعد حرق الأثقال من خيام وسروج وأسرّة، ثم تقدمنا. في تقدمنا مررنا على مزارع فيها بامية . أكل من سبقنا البامية وورقها وفروعها، ولما أتينا بعدهم نزعنا العروق ومضغناها. ليصل الجيش ويتكامل إلى فرص، في الثالثة بعد الظهر، رغم قصر المسافة. ويوضع المعسكر على بعد أربعة أميال من النهر، خارج نطاق نيران وابورات العدو. أنا والحمار بين الماء والنار: كان عدد من أفراد أسرتي الكبيرة من الرجال لديهم إصابات مختلفة، عدا موسى أخي الذي يصغرني. ولدينا من النساء (والدتي وزوجة والدي واخواتي) نحو سبعة نساء. أقمنا بيتاً من ثياب لنسكن فيه جميعنا. في المساء نزلت إلى النهر وأحضرت الماء على حمار. وفي اليوم التالي توجهت لجلب الماء وتوجه موسى أخي لجلب التمر. راقبتُ موسى لحداثة سنه، حتى صعد إلى النخل. ثم نزلتُ إلى لماء الذي وقف دونه كثير من الناس، وقد كان هناك وابور للعدو في وسط النهر. دفعتُ الحمار ودحرجته إلى الماء رغم علو الشاطيء. وضعتُ القربتين وجلست، والطلقات تنهمر عليّ. حتى ابتلت القربتان، ملأتهما وبدأت أربطهما، فانقطع حبل واحدة. وظنّي أنه قد أصابته رصاصة، والله سلمني منها. أفرغتُ إحدى القربتين واكتفيت بواحدة. ثم بدا لي أن أربط القربة التي انقطع حبلها بتكة سروالي(رباطه) . رجعت وشرعت أملاها فتوقف الوابور عن ضربي، لكن أصابت طلقة الحمار في عرفه. حملت القربتين على الحمار وذهبت مسرعاً. سبقت موسى إلى المعسكر، فشرب الناس وبعت ستة أكواز من الماء بستة ريال، اشتريت بها لحماً جقود (لحم الجمال التي انهكت فذبحت)، وطبخت لنا أختي الكبرى الطعام من التمر الأخضر واللحم. في أثناء جلوسنا في مكاننا، ضمن معسكر الجيش، سقطت علينا قذيفة مدفع من تلك التي نصبها العدو في الشرق، فكسرت صلب موسى أخي وقتلت بنت السهوة أختي، التي كانت لحظتها في حجري ، ولم تتحرك البنت غير قفل فمها. وقد ظن كل منّا أنه أُصيب. قمتُ حركت جسمي فوجدته سالماً، وتأكد لي سلامة الجميع، ما عدا موسى والبنت. لتقول أمّي: (موسى وهبته لله). دفنّا البنت. وعندما ضرب النحاس إيذاناً بتحرك الجيش، بقيت أنا وأمّي والحسنى أختي مع موسى الجريح. أخذت قحفاً (فخار مكسور) وردتُ به إلى النهر وأتيت بالماء وسقيت أمّي وأختي، وصرت أنقط لأخي في فمه، حتى فاضت روحه. كفنتُه بقطعة من قماش الدمور وفروة من الجلد ودفنته في مكانه بعد أن وجهته نحو القبلة وودعته بشيء من القرآن. تحركتُ، وأمّي وأختي ، من المعسكر، وكنّا آخر من خرج من المعسكر. لحق بنا فارسان من العدو، فلما اقتربا، أجلستُ والدتي وبعدتُ عنها نحو الفارسين وصوبت بندقيتي نحوهما. فرجعا، وأمسكت بالبندقية نحوهما، حتى رجعا نهائياً. أخذتُ بيد أمّي ومشيتُ كمشيها الوئيد، وقد كانت ضعيفة البصر، فإذا عثرت على حجر قالت: في شان الله. رافعة صوتها بحماس. مشينا حتى ارتفعت الشمس، واشتد الحر وتعبت والدتي، حيث تركتها في قارعة الطريق في ظل جبل، ومعها الحسنى أختي. ومشيتُ حتى لحقت بالجيش، الذي نزل شمال أبي سمبل. فأخذت جملاً، ورجعتُ حتى جئتهما وأركبتُهما وقدتُ الجمل حتى أنزلتهما بالمكان المخصص لنزولنا في المعسكر، ثم أرجعت الجمل لصاحبه. في المساء ، نحو الساعة الرابعة أخذت قربتين والحمارين للنهر، لأجلب ماء الشرب. لأصل النهر بعد ثلاث ساعات (أي في السابعة م،) بسبب ضعف الحمير. وجدت الوابور في عرض النهر. ربطت الحمارين وأخذت قربة واحدة. وتدحرجت بهدؤ، حتى دخلت الماء ، فشربت وملأت قربتي، ثم ربطت القربة على جسمي وصعدت ماشياً على أربع بيدي ورجلي دون أن أقف. ولم استطع أن أسقي الحمارين، ولا أن أملأ القربة الأخري. غفلت راجعاً لأصل المعسكر قرب الفجر، حيث صليتُ الفجر، ونمت قليلاً وبعتُ من الماء بستة ريالات اشتريتُ بها لحماً وتمراً أخضر. ثم بعتُ أحد الحمارين لمن يذبحونه، بخمس ريالات. ثم رجعتُ في المساء بالحمار الآخر. والناس خائفين من الوابور الذي يقف في وسط النهر. ولم أجرأ أن أسقي الحمار في البحر، غير أني سقيته من ماء القربة في قرعة (إناء من القرع البري). وذات الحمار بعتُه في اليوم التالي بسبعة ريالات، لمن يذبحه ويأكله. وصرت آخذ القربة بنفسي وأملأها بنفس الطريقة بعد أن أتدحرج (أتدردق) فيه بملابسي، فأجد برد الماء ألذ ما يكون من تعب المشي وحر الطقس والعطش. وهكذا أحمل قربتي لأصل سحراً، وفي مرة وصلتُ المعسكر ضحي، لما قابلته في الطريق من محاولة اغتصاب قربتي، وقد ظن أهلي أني قتلتُ، ففرحوا لمقدمي. قد استمر بقاؤنا نحو العشرين يوماً المدة التي أقامها الجيش في بلانا(اسم موقع). في أحد الأيام ضاع منّي سعنٌ (وعاء من الجلد أصغر من القربة) يخص حماتي التي كلفتني بملئه ماءاً. فبعد أن ملأت السعن شعرت بتحرك الوابور، فأثبتُّ السعن بحربتي وأخفيتُ نفسي في بعض النباتات القريبة منّي. وعندما ابتعد الوابور ذهبت لآخذ السعن فلم أجده، إذ اقتلعته حركة الموج. وبحثتُ عنه حتى كدتُ أن أغرق. عندما رجعت اتهمتني حماتي ببيع السعن. واستقر رأيها أما أن أترك عائلتي وأتفرغ لبنتها أو أطلق البنت. فجاءني أحمد، أخو زوجتي مضطراً أن يبلغني بالذي استقر عليه رأي أمه (حماتي). إذ أن أمه صممت على تطليق البقيع (زوجتي). كنتُ حينها في خيمتي وقد رفض أحمد أن يدخل. وكنتُ في تلك اللحظة واضعاً رأسي على فخذ زوجتي لتخليل شعري من الغبار. وقد أضاف أحمد على شرط ضمان أن لا يتزوجها غيري أن حيينا أو متنا. رفعتُ رأسي من حجرها و قلتُ له طلقتها. فبكت وابكتني، هي بدموع عينيها وأنا بدموع قلبي. لنفترق إلى الأبد. يليه (آخر ايام ود النجومي) [email protected]