خلاصة قصة الاستقلال أنَ البرلمان السوداني في 19 ديسمبر1955 أعلن موافقته بالإجماع على إعلان الاستقلال، وفي جلسة أخرى بتاريخ 31 ديسمبر 1955 تمَ الاتفاق على مواصفات العلم السوداني، وأجيز دستور السودان المؤقت الذي تحكم به البلاد بعد الاستقلال إلى أن يتم إقرار الدستور الدائم. وفي 1 يناير 1956 عقد البرلمان السوداني جلسة تليت فيها رسالتين إحداهما من الرئيس جمال عبد الناصر والأخرى من السيّد / سلوين لويد وزير الدولة للشؤون الخارجية في بريطانيا أعلنا فيها اعتراف بلديهما رسمياً باستقلال السودان. وفي نفس اليوم أنزل العلمان المصري والبريطاني من واجهة القصر الجمهوري ورفع الزعيم الأزهري في محلهما علم السودان معلناً بذلك استقلال بلاده، وفي نفس الشهر من نفس السنة اصبح السودان عضواً في جامعة الدول العربية. هكذا حصل السودان على استقلاله التام بسهولةٍ ويسر، وما كان هذا ليتم لولا تفهم الرئيس محمد نجيب في مصر لرغبة أهله في السودان لاستقلال بلادهم والحفاظ على هويتهم التاريخية والثقافية مع محبتهم الشديدة لمصر وشعبها، ولو تعنتت مصر في ذلك الوقت لسالت دماء كثيرة لا محالة ولكن الله لطف. نعم، لقد كان يوم رفع العلم مؤشراً على استقلال أمة وجلاء ظالم وكسر قيد،ولكنّه قطعاً لم يكن مؤشراً لميلاد أمة كما قد يتوهم من لا يعرف تاريخ السودان عندما يرانا نحتفل بهذا اليوم البائس. والاحتفال بعيد الاستقلال لبعض الأمم سيستمر ابد الدهر لأن ذلك تاريخ ميلادها وظهورها كدول مستقلة بين دول وشعوب العالم، ولكن قصة رفع العلم في السودان في الأول من يناير 1956 هي قصة مغايرة لقصص تلك الشعوب ويجب ألا يعني رفع العلم شيئاً سوى أنَه اشارة لاستئناف مسيرة الأمة السودانية التي بدأتها قبل 7000 سنة فاعترضتها عصابة من البلطجية الانجليز الذين تخصصوا في وقف مسيرات الحضارات والشعوب القديمة، فحبسوا الشعب السوداني عن مسيرته المباركة لنصف قرن من الزمان! إخوتي وأخواتي إنَ السودان كان قبل أن تكون بريطانيا وقبل أن تكون أوروبا كلها، ومن المعلوم أنَ أرض السودان قدمت للإنسانية حضارة قبل أن تقدم بريطانيا شيئاً للعلم والعالم، ولهذا ليس من الحكمة في شيء الإحتفال بالاستقلال أبد الدهر بسبب 50 عاماً اختطفها ذلك الاستعمار اللعين من عمر أمتنا الضارب بجذوره في أعماق التاريخ الانساني. وأنا أرى في الاحتفال ابد الدهر سخفاً و جهلاً و حماقة لا تفيد أمتنا شيئاً سوى أنها تذكّر اصحاب العيون الخضر في بداية كل عامٍ باستعمارهم لنا واذلالهم لنا وتجرؤهم علينا! للأسف نذكّرهم بكل بساطة وسذاجة في بداية كل عام بهذا الحدث البائس ليفرحوا وينتشوا بتلك الذكريات أبد الدهر تشاركهم في ذلك أجيالهم جيل بعد جيل وهكذا يبدأ الانجليز عامهم!! ومن العجيب أن مصر التي كانت مستعمرة مثلنا لا تحتفل بعيد استقلالها واستأنفت مسيرتها وكأنَ شيئاً لم يحدث. ولهذا أتوجه بخاطب مفتوح لعامة أهل السودان، ولرئيس الجمهورية، ومجلس الوزراء، ولاعضاء المجلس الوطني، و الأحزاب المعارضة والموالية، ورؤساء تحرير الصحف، و جميع الصحفيين، والمثقفين، وأئمة المساجد، ولجان الجاليات السودانية بالخارج أن يتخذوا موقفاً رافضاً للاحتفال بهذا اليوم لأنّ فيه مذلة للشعب السوداني من حيث لا نشعر ولا نقصد ولا نريد! فيجب ألا نعطي بريطانيا شرف تلك الذكريات لتنتشى وتفرح بها! ويا ترى هل سترضى بريطانيا وتوافق لو احتفل السودانيون باليوم الذي قطع فيه رأس غردون؟ أم أنَها ستحتج بقوة وتحرض علينا دول الاتحاد الأوروبي كافة لأنها لا تريد أن تتذكر ذلك الحدث المر؟ أرجو ألا نكون كقوم سيدنا إبراهيم عندما حادثهم وناصحهم في شأن الأصنام: { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ } * { أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } * { قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } إنً شعار "وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ" أسوأ شعار ترفعه الشعوب لأنً التقليد يمنع التفكر والتجديد، والتفكر في هذه القضية ينتهي بصاحبه للدعوة لالغاء هذا الاحتفال، وعاش السودان حرّاً، عادلاً، سالماً، متجانساً، موحداً، مستقلا.