هذه مقالات متتابعة تحكي عن حياة الشيخ بابكر بدري كما رواها هو في كتابه المسمى تاريخ حياتي .. ولقد قام هذا المحرر بتلخيص ذلكم الكتاب ، وها هو ينشره للنفع العام ، في حلقات متتابعة، على غرار (بداية المجتهد ونهاية المقتصد). لعمري لن يستغني المجتهد عن قراءة الكتاب الأصل. أما المقتصد والذي لا يجد سعة في وقته، أحسب أن هذه المحررات ستعطيه الفكرة والمعلومات الكفيلة بالتعريف بالشيخ المعلم المجاهد التاجر الفقيه والسياسي ايضاً.، رحمه الله وأحسن إليه.أرجو أن يسعد القراء بهذا العمل.. رب بارك لي وأربي صالح العمل القليل.. وأنسجن بالنور دربي واحفظني لا أميل. [email protected] إلى أم درمان: ثم الكاملين وفي الطريق أصابتني حمى ورعاف، فأجرت جملاً بأربعة ريالات من رجلٍ اسمه الناير. وفي منتصف المسافة أقمنا اسبوعاً في قرية في الطريق بها بيت الناير، فشفيت من الحمى والرعاف. ولما كنتُ لا أستطيع دفع الأجرة، قلتُ للناير لا أريد أن أركب. فصفعني حتى برقت عيني. فسابّته مريم حتى أوجعته سبّاً، وهددته بأهلي في أم درمان. ولما تحركت القافلة تبعتها أقفو أثرها، وأصلها بعد أن تنزل بعد مدة، ذلك لضعفي. وفي المرحلة التي منها ندخل إلى أم درمان، جاءني الناير وطلب منّي العفو، فعفوت عنه. وطلب أمان الله ورسوله ألّا أوذيه، قلتُ له عليك أمان الله ورسوله. قال إنه سمع أن خليفة المهدي نبه أن من يصفع أحداً تقطع يده. دخلنا أم درمان في الخامس عشر من صفر الخير عام 1309 ه/(1892م). نزلنا عند الشيخ بانقا موسى ، لدى زوجته ابنة عم زوجتي حفصة.. وفي الصباح جاء الناير يطلب رياليه. فتوجهتُ إلى السوق كي استلف الريالين. ومررت على الكثيرين، ممن أعرفهم، دون نيل مرادي، والناير لا يفارقني. فقلتُ للناير فلنذهب معك للبيت لكي أخلع لك جبتي لتبيعها، خذ منها ريالين وجئني بالباقي. وأثناء محاورتي للناير ، جاءني المدني، زوج أختي، أخذت منه الريالين وأعطيتهما للناير. وقد أخبرت المدني بما حدث لي مع الناير. فقال لي أنه لم يطلب العفو إلا بعد أن عرف عقوبة فعله، وأقسم المدني عليّ أن أشتكي الناير. فمشيتُ للمحكمة، التي يرأسها الطيب ولد العربي، فأدخلني الطيب إلى غرفة وأخبرني بالعقوبة التي ستنزل على مثل هذه الحالة. وذكرني أن أبي كان لا يضر أحداً. وإذا قدمت لنا هذا الرجل سنحبسه ونقطع يده، فيأتم أطفاله وهو حي. سامحه لله كما يفعل أبوك. وعدته بذلك، لكني خفت من المدني، فأخذت حارساً من حرّاس المحكمة وذهبت للناير، الذي وجدته نائماً فأيقظته. وأخبرته أنّي شكوته، وهذا مندوب المحكمة معي. نزل الناير، جزعاً ووضع يديه في التراب، وقال لي: يا بابكر تعطيني أمان الله، الذي ينزل به الكفّار من الجبل وتشتكيني أُسجن وأُقطع. قلتُ له يا الناير، أنا في بيتك تضربني، وهنا مررتُ بي كل السوق، حتى استلفت لك الأجرة. أعطني الريالين وأعطي الحرس قرشين. أخرج الناير تسعة ريالات، قائلاً هذه أجرة الجمل كلها، خذها، وأتركني لله وأولادي الصغار. فوالله لم آخذ منها غير الريالين. ثم رجعت إلى المنزل الذي نزلنا فيه. بعد اسبوع قضيته بام درمان ، توجهتُ للكاملين، حيث أمّي مع سعيد أخي. فهو ولدها الكبير. وكنتُ آمل من سعيد تزويجي بكلتوم أرملة ود النجومي. وقد وجدت منزل أمّي يحتاج لإصلاح. وفي يوم السوق اشتريت معدات صناعة جلود واتخذت مكاناً في السوق أمارس حرفة التجليد التي تعلمتها في دراو. وفي المساء كانت حصيلتي أربعة قروش. اشتريتُ بها عنقريباً (سرير من الخشب بنسيج بحبال من السعف)، كما اشتريتُ رغيفاً ورأس خروف نيفة (مشوي). أعطيتها لوالدتي وأعطيتُ سرير أمّي القديم المكسور للحسنى أختي لتنام عليه، وقد كانت الحسنى تنام على برش (حصير) . وقد صرتُ أجلد في البيت ويوم السوق أذهب للسوق، حتى اشتريت لأمّي شاة لتحلبها، ونصف أردب من الغلال. ثم أصلحتُ من سور البيت وسقفته بالنال (نوع من النبات) بحيث يوفر لها الحماية من الشمس ومن المطر. ودعتُ أمّي لأعود إلى أم درمان، فدعت لي بدعوات صالحات تذوقت حلاوة إجابتها في فمي. وصلت لأم درمان ونويتُ أن أمارس حرفة الصناعات الجلدية بالسوق، إلا أن زوجتي منعتني، فلقد أهدي لها من أهلها غلال والمنصور ود أبو كوع القادم من مومبي بالهند أعطاها ثياباً باعتها فصرنا نتصرف منها. في وظيفة كاتب بالجزيرة خرجت كاتباً لمختار محمد قريش الرباطابي، المندوب بالجزيرة، فدلفتُ إلى الكاملين وأخذتُ أمّي والحسنى أختي بمركب إلى مدني. كما أرسلتُ للسهوة اختي برفاعة، والتي أعلم أن زوجها المدني غائب، أن تلحق بنا بمدني. تركتُ أسرتي بمدني بعد أمّنتُ لهم منزلاً، وتوجهتُ إلى بلدة الكريبة، التي هي مركز مندوبية الجزيرة. كنت أعود لأمّي الحبيبة كل ليلة جمعة وآتيها بهدية وأرجع منها مسروراً بدعائها لي. وفي هذا العام 1309 ه(1892م)، حدث بأم درمان ما عرف بحركة الدناقلة. حيث قُبض على كل الأعيان منهم في كل من مدني، جزيرة الفيل ، رفاعة والكاملين، في يوم واحد وساعة واحدة بحركة منتظمة حتى لا يفر أحد من مكانه، فينجو من القبض. وقد مرّ علينا من نعرفهم من أقارب المهدي في دفعة تربو على المائة وكلهم في القيود. زرتهم، لمعرفتي بهم منذ نشأتي في رفاعة، بكيت لحالهم من الذل بعد رغد العيش، أيام دولتهم بحياة المهدي. حيث كانوا في المنازل الكبيرة والخيل والحشم، كانوا يتوسطون لأغراض الناس. فذكرت أيام بؤسي عند أم موسى في دراو بمصر وقلتُ هكذا حال الدنيا. وقد أعطيتهم ماكنت أقدمه لأمّي في ذلك الاسبوع. ثم نقلتُ للعمل في الرضمة قرية الرجل الكريم يوسف ود الزين العركي. الذي يمثل السوداني البسيط في طبعه، السخي في ماله، العظيم في مروءته. هناك تم تعييني لجمع الضرائب والزكاة لقريتين في تلك الأنحاء. كانت زكاة الفطر في ذلك العام تقدر بقرشين على الشخص الواحد. طلبتُ الرجال ليُقسموا على المصحف، ليوضح كل واحد عدد أفراد أسرته الذين ينفق عليهم. فلمّا أتممتُ الكشف شعرتُ بأن عدد الناس الذي تم تقييده في القوائم لدينا، أقل مما هو منظور من حركة الناس داخل القرية ومرافقها. فأعملت فكري كي آخذ زكاة الفطر على حقيقتها. جلست ُعلى إنفراد، حيث مر بي صبي في نحو الثامنة من عمره. سألته عن اسمه واسم أبيه، ثم من هم أخوانه. فحسب لي أسماءهم حتى بلغ ثلاثة وعشرين شخصاً. في حين أن أباه قد سجل عدد ثمانية أسماء فقط. فصرفت الصبي وبعد مدة طلبت والده. تأكدتُ منه، وقلتُ له إنك رجل غني، وزكاة الفطر يتوقف علي أدائها كاملة قبول الصوم، وهي في السنة مرة. وفطرة بيتك التي تلزمك هي كذا. والتي لا تتجاوز ثمن خروف تذبحه لضيفك. ادفعها وابرئ ذمتك. أبدى الرجل اعتراضاً، قائلاً إنت حلفتني المصحف. قلتُ له نعم، وقرأت عليه قائمة أسماء أفراد اسرته. سألني من أملاك هذا، فقلتُ له جارك فلان. قال كم هو كتب: قلتُ خمسة. قال أمسك بقلمك لأملي عليك أسرته. فأملاني عدد خمسة عشر اسماً. طلبت جاره وكررتُ الطريقة. وتابعت ذلك كلما أنجزت مراجعة اسرة أحدهم، حتى انت قلتُ إلى الأخرى، حتى كتبت منسوبي القرية على حقيقتهم، وحصلت منهم مبالغ لا يأملها المندوب. وكررت طريقة أخرى مماثلة في تقدير العشور (تقدير قيمة العُشر ) على المحصولات. جاءني يوسف أخي أثناء مهمتي تلك من كركوج. فقد أرسله أبي ليزورنا ويتعرّف على أحوالنا. وكان يوسف في حالة رثة. ولم يجد عندي غير أربعين قرشاً وعمامة غزلت لُحمتها وسُداها (الخيوط العرضية والطولية) من ليف العُشر. وقد كنتُ معجباً بها، لأنها مثل الحرير. يليه: التجارة بين سواكنوأم درمان: