هذه مقالات متتابعة تحكي عن حياة الشيخ بابكر بدري كما رواها هو في كتابه المسمى تاريخ حياتي .. ولقد قام هذا المحرر بتلخيص ذلكم الكتاب ، وها هو ينشره للنفع العام ، في حلقات متتابعة، على غرار (بداية المجتهد ونهاية المقتصد). لعمري لن يستغني المجتهد عن قراءة الكتاب الأصل. أما المقتصد والذي لا يجد سعة في وقته، أحسب أن هذه المحررات ستعطيه الفكرة والمعلومات الكفيلة بالتعريف بالشيخ المعلم المجاهد التاجر الفقيه والسياسي ايضاً.، رحمه الله وأحسن إليه.أرجو أن يسعد القراء بهذا العمل.. رب بارك لي وأربي صالح العمل القليل.. وأنسجن بالنور دربي واحفظني لا أميل. الصادق عبدالله عبدالله [email protected] البحث عن عمل في أسوان وصلنا إلى أسوان عند الغروب. وفي صباح اليوم التالي أصبحتُ أبحث عن عمل، لقلة ما بيدي. فوجدتُ كثير من الأسري يعملون باليومية التي لا يكفي عائدها الشخص الواحد، مهما كان مقتصداً. فوقفتُ عند رجل سمكري (حداداً)، قلتُ له أريد أن أعمل معك مناصفة. فوافقني. فعكفتُ أنظر إليه كيف يفعل في القص واللحام، وأمسكت بالكاوية. ورأيته يمسك بالصفيح ويقطعه كبيراً، ثم يقص منه قليلاً قليلاً فيتأخر العمل زيادة عن تبذير الصفيح. أحضرت ورقاً مقوىً من صنادق الأحذية. صنعتُ من الورق المقوى مقاسات أقطع عليها الصفيح . فأصبحتُ أصنع أكوازاً أسرع منه . لكن رغم هذا وجدتُ أن الدخل من هذه الصنعة لا يكفي لضيق السوق، فتحولتُ لمهنة الخياطين ومكثتُ معهم بعض الوقت. ثم بلغني أن بالسوق جلّاداً سودانياً. ذهبتُ إليه واتفقتُ معه بذات النسبة التي اتفقتُ عليها مع السمكري. بدأتُ بصناعة السيور من الجلد حتى تعودت يدي ، فاقتنع بي صاحب المحل. والجلادة صنعة واسعة في أسوان، كثيرة الزبائن، متنوعة العمل، لما فيها من صناعة سروج ورسانة جمال وقلائد وأغماد سيوف وسكاكين وسياط وزينة. وقد سمح لي صاحب المحل، واسمه علي ود سعد، بأن آخذ السياط إلى منزلي أشتغلها بالليل وآخذ أجرتها. فأخذت آخذ مائة سوط وأجرتها مائة قرش، واشتريتُ لها أحسن أنواع الجلد وعلمت البنات كيف يجهزنها. ونخلصها في يومين أو ثلاثة. فتوسعنا. وبدأنا نحسن طعامنا. مر الوقت، وصار علي ود سعد يترك لي الدكان ويتفرغ لبعض مصالحه الأخرى داخل السوق. فصرتُ أدير المكان بكافة شؤونه، اتفق مع الزبائن وأحدد الأجرة. ويأتي هو في آخر الشهر وأوضح له حسابات المحل، فيعطيني ما كنت آخذه عندما كان هو يدير المكان، وهو كان يشتغل معي. فطلبتُ منه يوماً أن أعدل علاقة الانتاج التي بيننا، لكي يتفرغ هو تماماً وأدير أنا شأن المحل. فرفض. وقلتُ له أخشى أن نفترق. وبالفعل افترقنا. وذهبت لرجل آخر من أشراف بربر وحكيت له. فقام في الحال واستأجر لي دكاناً بعد قيامه بإجراءات الضمان لشخصي ودفع مبلغ التامين، ودفع أجرة شهر مقدماً. ثم أعطاني جنيهاً رأسمال، ليكون جملة ما صرفه أقل قليلاً من الثلاث جنيها. وأصبحت يومها صاحب دكان. اشتريت أدوات الصنعة ومواد التجليد. وعرفت نفسي لأهل السوق. ومن حسن حظي وردت بضاعة خاصة بالشيخ عبدالله كريم الدين. بضاعة بها كميات كبيرة من السياط وبيض النعام من السودان. فاتفقتُ مع صاحبها أن اقوم بتجهيزها وبيعها له. فاستلمتُ منه ألفي سوط وأخذت منه عربوناً جنيهين، اشتريت بها المواد. واشتريتُ من شيخ عبدالله متبقى بضاعته من بيض النعام وجلود الثعبان (الأصلة) والورل والتمساح. اشتريتها بأثمان رخيصة جداً. وجاءني الزبائن، فبعتُ بعضها وأبقيتُ البعض الآخر، تقديراً أن الشيخ سيحتاج إلى نقود، وذلك ما حدث بالفعل. ومن هناك توسعت تجارتنا، وحسنت حالنا وتوسعنا في إيجار المنازل. وقضيتُ ديني الخاص بأجرة الدكان والمواد. لما توسع عملنا أضطررنا للانتقال إلى مكان أوسع. وأصبحتُ اقوم بتسجيل الأعمال وأصنع لها جداول ومواعيد. فكلما حضرتُ في الصباح أراجع مواعيد الزبائن لنعمل على إكمال من حل أجل تسليمهم بضائعهم. ومن يأتي إلينا في الصباح ، نطلب منه أن يأتي في العصر ومعه متبقي حسابه. وكل من يأتي لطلب مهمةٍ منّا ننظر كم هو الوقت المتسع لدينا، فنضرب له موعداً حسب الوقت المتاح بعد انجاز إلتزاماتنا السابقة له. وكثير منهم يطلب سرعة الإنجاز، فأريه جدول عملي الذي أسجله بانتظام. ومن يرفض منهم كثيراً ما يضطر للرجوع لنا بسبب عدم وفاء الآخرين له بموعده. وأصبح مكاناً مكتظاً بالأعمال حتى غادرنا أسوان. أرسل لي مرة العم عبدالله بك حمزة أن أصله بالرمادي لأصنع له سروج خيله وأجدد القديم منها. فذهبتُ، وأخذتُها لأسوان لأنتقي لها الجلود الأفضل. ففعلتُ وأكملتها وأرسلتها له. وعندما جاء لأسوان ذهبت وسلمتُ عليه في مكان نزله. شرع يعطيني قيمة عمل السروج، فرفضتُ، قلتُ له دعني أساهم معك في تكاليف إعاشة إخواني من الأسرى الذين تستضيفهم. وشرحت له أني في يسر . فدعا لي بالخير، وتنبأ لي بمستقبل باهر، فشكرته وانصرفت. زواجي من حفصة: جاءت مريم من بني سويف، واجتمعت بابنتها حفصة واجتمعنا. فخطب بعض الأسرى ابنتها، وخطبتها من ضمنهم. فوافقت على زواجي منها، قائلة بابكر كان مسكها يمسكها سمح وإن طلقها يطلقها سمح. وصرفت على زواجها مائتين وسبعين قرشاً، وكان زواجاً شهيراً، مثل زواج الحاردلو ابن أحمد أبوسن الذي دعا له أعيان السودان من أقصاه إلى أقصاه. فزواج الأسرى في وقتنا ذاك ليس أكثر من أن يقدم الزوج عمامته أو ثوبه صداقاً فترده له المرأة بعد زواجها. حردت حفصة يوماً عندما تخيرت لأمّي بعض الطعام الذي صرنا نجلبه، بعد تحسن حالتنا. فتركت نصيبها منه، خلاف عادتها. فلمّا سألتُها، أجابتني أنّي أعطي أمّي الأحسن. فالتفتُ إليها وقلتُ لها إذا تذكرين أمّي بسؤ أو تطالبينني بمساواتها لك ، أو تفضيلي لك عليها، بعد اليوم فأنت طالق ثلاثاً. فلم يحدث منها بعد ذلك شيء حتى توفيت والدتي. السماح بالعودة للسودان: عاودنا الحنين للوطن عندما عرفنا أنه سُمِح لبعض الأسري بالرجوع للسودان،. فاتفقنا في مجموعة من الأسرى أن نطلب الإذن بالرجوع للسودان. واتفقنا أن نكتب طلباً لوود هاوس باشا نطلب منه تسريح السفر للسودان. كتبنا طلباً، فلما تأخر علينا الرد، قمنا بكتابة سبع طلبات بعثناها بعدد من الطرق، اثنين منها في صندوق مكتبه الخاص، واثنين عبر البوستة واثنين ناولناها باليد. فطلبنا وود هاوس باشا بالمحافظة، ليسألنا لماذا نطلب ذلك. أجابه أحد يدعى خالد، وقد كان طويلاً جسيماً، فقال له يا سعادة الباشا نحن هنا أسرى وجائعون. فقال له أنت سمين، إخدم وكُل. أجابه: نعم أنا سمين وأخدم، لكن اليوم قرشين ولا تكفي العوائل. ليردف آخر: أنه بلغنا أن أهلنا بالسودان مات الكثير منهم جوعاً ومرضاً. نريد أن نصلهم لنخلف من مات ونساعد الحي. ليجيب الباشا: الجوع موجود في السودان، فالأحسن بقاؤكم هنا. قال له خالد: إما أن تسمح لنا أو تربط لنا مرتبات أو تضربنا رصاص. غضب الباشا وقال لخالد: أنت بليد، لو نضربك رصاص كنّا قد فعلنا يوم أن أسرناك وقد كنت ضعيفاً. هل أنت خروف نسمنك لنذبحك؟. ثم قال لنا الباشا بأنه سيخبرنا بقراره بعد أسبوعين. وبعد انقضاء الأسبوعين أخبرنا أنه قد صدق لنا. وأنه سيصرف لكل واحد مؤونة من القمح ومصروفات نقدية. وأن توصلنا المراكب حتى حلفا، على أن يتحقق من العدد بنفسه، وقد فعل. وتأخرت بعائلتي لترتيب أمرها. وقد كتبتُ للزبير باشا أطلب منه تسريح من هم في معيته بسبب ما حل في السودان من جوع ومرض. فقرأ على من معه خطابي وأمرهم جميعاً بالسفر. شغلت بالي أختي أم طبول التي تزوجت في قرية الرغامة، شمال دراو. فتحركتُ لها مع أمّي وأختي والمدني زوج أختي على حمارين . وجدناها في عيش رغيد، ولمّا علمت بأنّنا أخذنا الإذن بالسفر عزمت على السفر معنا. قائلة لي تمنيت أن تزورني قبل هذا لنكرمك، ونهديك، فبيتي ملئ بالغلال والحيوانات، لكنّي لن أمكث بعدك، فأزعجك، وأجعلك موضع التقصير في واجبك نحوي طول حياتك. وكان زوجها عمّنا غانم قد تجاوز السبعين من عمره. فأخبرناه، فأطال معنا الرجاء، ولم يكن لنا بد، فصحبتنا، وقالت لزوجها لا تتعب أنا مسافرة إلى السودان، وبيتك كما هو لم آخذ منه شيء، فرجع وهو باك. ثم لحقنا باسوان وأوقع عليها الطلاق في الليل قبل سفرنا. سافرنا من أسوان بالمراكب النهرية، وقد حملنا معنا حمارينا إلى حلفا. وقد لازمتني ذكرى موسى أخي، تفزعني من النوم وتهيجني ذكراه. وقد أسرت بمصر في الخامس من ذي الحجة في عام 1306ه الموافق 1889م، ورجعت إلى صرص في أواخر رجب عام 1308 ه الموافق 1891م وقد أمضيت في الأسر بمصر مدة عامين وبضعة أشهر. يليه (زوجاتي حفصة مطلقة و البقيع معلقة)