متناقضات المثقف السوداني: عقله في الغرب وروحه في الشرق يكشف كتاب"إغواء الصفوة" الذي تضمن خلاصة الأوراق والمقاربات التي قدمتها نخبة من الأكاديميين السودانيين في المؤتمر الذي نظمه مركز التنوير المعرفي لمناقشة كتاب القس تريمنغهام (الإسلام في السودان) أن النخبة الفكرية والأكاديمية منقسمة علي نفسها إزاء تقييم أطروحة الكتاب ومدي نفاذ تأثيره علي عقلية المثقف السوداني في شأن هويته الثقافية. ومن الطبيعي وفقا لذلك أن يثور السؤال التالي:هل استعظمت صفوتنا تأثير كتاب القس ترمينغهام علي جدليات الهوية الثقافية لأهل السودان؟. يقول الدكتور عبدالله علي إبراهيم في تقديمه لكتاب إغواء الصفوة" كان شاغلي هو السؤال: كيف صار كتاب هذا المبشر المسيحي عن الإسلام هو المرجع العمدة في هوية السودانيين المسلمين الثقافية؟". ويستدل د. عبد الله علي إبراهيم بقوله" وبدا لي أن رواد الحركة الوطنية واليساريين قد راقهم فيها الفصل بين الإسلام الشعبي والرسمي". ويشير الي ان هذا الفصل سوغ لهم شجب طبقة العلماء المتهمة بممالاة الإستعمار والشطط والهوس الديني. وعلي عكس الدكتور قيصر موسي الزين الذي بخس علمية وموضوعية الكتاب لغلبة المحمول الأيدلوجي للكاتب فإن الباحثين د. أحمد الياس ود. علي صالح كرار يقرظان الكتاب ويعدانه محاولة صائبة من حيث التوثيق التاريخي ورصانة المنهج العلمي والبحث الموضوعي. نقاد آخرون يرون أن كتاب تريمنغهام ليس له هذا التأثير العميق علي الثقافة السودانية كما استعظمته بعض النخب خاصة في موضوع الهوية الثقافية. وفي هذا الصدد يقول الناقد والأديب عبدالمنعم عجب الفيا " البعض أعطى هذا الكتاب قيمة لا يستحقها والمآخذ عليه كثيرة و هو على أية حال معروف في نطاق ضيق جدا وأغلب المثقفين الفعالين لم يطلعوا عليه. أما كون أنه مثل هاديا للقائلين بآفروعروبية الثقافة السودانية فهذا أبعد ما يكون. وأبلغ رد على هذا الزعم هو ان الكتاب صدر سنة 1946 وأن الوعي بالآفروعروبية أو السودانوية قد بدأ في التبلور مع حركة 1924 وكتابات حمزة الملك طمبل بجريدة حضارة السودان سنة 1927 إلى جانب صدور مجلتي النهضة والفجر في بداية الثلاثينات حيث ظهرت أقلام تعمل على بلورة هذا الوعى أمثال محمد أحمد المحجوب وأولاد عشري الصديق وعرفات محمد عبد الله والتني وآخرين. وإذا كان هنالك كتاب هادي لمفهوم الغابة والصحراء فهو كتاب الطبقات لود ضيف الله". وهنا يستبين الفرق بين تيارين أحدهما يري أن كتاب تريمنغهام هو عمدة في الحديث عن الهوية الثقافية، وتيار آخر يعترض علي تضخيم أهمية الكتاب في التأثير علي جدل الهوية ويرد الأصل الي الطبقات. ولعل اللافت للنظر ان تريمنغهام اعتمد علي كتاب الطبقات كمرجع أساسي خاصة في الأثر الوثني وتأليه الأولياء والصالحين في الثقافة السودانية خاصة وأنه ترجم لأكثر من 260 ولي وشيخ، وعده كتابا في التراجم وليس التاريخ. وعلي ذات منهج الإستدراك علي بعض المزاعم التي وردت في الكتاب يوضح الدكتور عبد الله علي إبراهيم أن زعم تريمنغهام علي أن المسيحية كانت دينا اجنبيا ولم تتوغل في وجدان المجتمع السوداني كما فعل الإسلام قول مرجوح لأن الدراسات اللاحقة علي كتاب تريمنغهام والكشوفات الأثرية أوضحت أن المسيحية لم تكن دين الصفوة فقط. في الفصل الأخير من الكتاب يتناول القس تريمنغهام تأثير التغريب علي السودان. وقال إن مقصده هو تسليط الضوء علي التغييرات التي حدثت في الحياة الثقافية والإجتماعية للسودانيين بتأثير الحضارة الغربية. وتناول في تحليله ستة ملامح عدها الأهم في صياغة التحولات نحو التقدم و الحداثة وهي: الإحتلال البريطاني وتطور التعليم وأثر التحول الإجتماعي والفكري والإقتصادي كما ناقش أيضا دورالمرأة والصحافة في صنع التغيير في السودان الحديث. زعم الكاتب أن الإحتلال البريطاني هو الحكم الوحيد في تاريخ السودان الذي اعتني بتنظيم الإدارة والحكم ورفاهية الشعب، وذلك مقارنة بالأنظمة الإستعمارية الأخري التي حكمته من أجل استغلال ثرواته المادية مثل الرقيق والعاج والذهب. وكما ذكرت في الحلقة السابقة من سلسلة هذه المقالات فإن بريطانيا حسب زعم القس تريمنغهام كانت تعتبر شعب السودان مستغلا ومتخلفا وليس شعبا وضيعا لذا فهو قابل للتطوير. وكانت فلسفة الحكم غير المباشر تتجه الي إدماج النظام القبلي والأهلي المتوارث الي حكومات محلية من خلال تنظيمات المجالس البلدية. وافق البريطانيون علي تبني أهم عاملين جلبهما العرب الي السودان وهما نظام التكافل الإسلامي والنظام القبلي العربي. واعترف القس تريمنغهام بفشل النموذج الإستعماري البريطاني في أحداث تغيير جوهري في حياة السودانيين، وقال إن المسئول البريطاني في السودان تربي علي نمط تعظيم الجانب المادي للحياة، وكان يعتقد جازما أن نشر الأسلوب المادي الغربي علي السودانيين يعني نقلهم تلقائيا الي مستويات وآفاق جديدة من الحضارة والتمدن. ولكن بقي جوهر الثقافة السودانية بعيدا عن التأثير الغربي وانتهي مشروع التغريب البريطاني الي إحداث تنمية غير متوازنة، وحتي النظام الدنيوي الذي قدم من مصر بمسحة إسلامية أقبل عليه السودانيون بشغف. ولكن النتيجة النهائية للمثقف السوداني كما ذكر القس تريمنغهام هو أنه أنتهي الي تشويش عقلي وروحي لوراثته عالمين متناقضين وأستشهد تريمنغهام ليبين هذا التخليط بكلمة الأستاذ إبراهيم أحمد في كلية غردون عندما قال " إن الثقافة التي ستلبي حاجاتنا هي توليفة من الثقافة الشرقية التي تستمد روحها من الدين الحقيقي والثقافة الغربية التي ستساعدنا في السير نحو التفكير العلمي والإنجاز العملي". كان جيل الرواد الوطنيين ينشدون التعلق في شأن مستقبل البلاد الثقافي التوليف بين ثقافتين شرقية روحية وغربية مادية تقدمية، وهو ما رفضه القس تريمنغهام وعده نوعا من التشويش والتخليط الثقافي لأن المثقف السوداني يكون مشدودا لعالمين متناقضين، وبالتالي فإن عملية التغريب التي تعرض لها اصابت القشور ولم تمس الجوهر. وكان يأمل أن يركز الإستعمار البريطاني علي تحويل ما اسماه البعد الفكري والأخلاقي الذي ترتكز عليه عملية التطور والتحديث. ويتنقد القس تريمنغهام نتائج عملية التحديث بقوله "إن التدريب العلمي عرض عقول السودانيين الي دمار دائم ولكنه ترك أرواحهم جائعة، وقد تعلموا كيفية أداء أداء العمل الكتابي أو الفني وليس كيف يعيشون". وبهذا يقرر تريمنغهام أن عملية الإستغراب لم تؤثر كثيرا علي السودانيين لطبيعة النظام الاجتماعي للإسلام الذي بطبعه مقاوم لنزعة التحرر الإجتماعي، لذا فإن أي تكيف للمثقف السوداني مع معايير الحياة الغربية يعتبر تكيفا سطيحا وليس حقيقيا. ونفي تريمنغهام الحس الوطني والقومي عن الشعب السوداني، ولكن هذا ما كذبته الأيامبعد عشر سنوات فقط من تحرير كتابه بإعلان الإستقلال من داخل البرلمان. يستنكف القس ترمينغهام علي المرأة السودانية الأخذ بأسباب النهوض المدني والحضاري مشيرا الي أثر العادات والتقاليد الإجتماعية وكذلك الدين وغلبة المجتمع الذكوري زاعما أن النظام الإجتماعي لأهل السودان مبني علي أنانية الرجل. وزعم أن الإرساليات ساهمت بقوة في ريادة تعليم المرأة وهو بذلك يغمطحقا تاريخيا موثوقا للشيخ بابكر بدري في ريادته لتعليم البنات في السودان وهو دور نهض به المجتمع أولا ومن ثم تبعته الحكومة لاحقا. يستشهد تريمنغهام بكلمة ألقاها أحد نظار قبائل شرق السودان علي نحو شيق أمام أفراد قبيلته وهو يحثهم علي تعليم المرأة فقال: "أليست المرأة هي التي تقوم بعبء معظم المعارك والمشاجرات؟ إذن كيف تستطيع المرأة غير المتعلمة أن تنقل لزوجها الغائب تفاصيل هذه المعارك وأسرار حياتهم في القرية". وقال ترمينغهام إن المثقف أو الأفندي تتجاذبه طريقتان أمام أختيار زوجته فإذا تزوج المتعلمة خاف من أن تطالبه بحياة جديدة أكثر تحررا، واذا تزوج المرأة التقليدية اغرقته بأحدايث القيل والقال والنقاش عن الحلية الجديدة، وأنتهي الي أن المثثف في ذلك العهد يريد أن يتزوج أمرأة لعوبة وأما تلد له الأطفال. يعترف القس تريمنغهام في خاتمة كتابه بأهمية الصحافة في حياة المثقف السوداني ويعتبر أن للصحافة مكانة بارزة في السودان أكثر من بعض الدول الإسلامية الأخري، وذلك رغم أنتقاده الصريح لصحيفتي (النيل وصوت السودان) في ذلك العهد حيث اتهمهما بتضيق مساحة الحرية لأنهما منبرا معبرا عن توجهات الطائفة الدينية للختمية والأنصار وبالتالي نشأت الصحافة السودانية في عهدها الأول وهي مقيدة لأنها يجب أن تراعي الخط الديني للطائفتين. وعاب علي الصحافة السودانية في عهدها الباكر تأثرها بأتجهات الرأي في الصحافة المصرية. وكشف أن نسبة توزيع الصحف عام 1942 كانت 1200 نسخة لصحيفة النيل و800 نسخة لصحيفة صوت السودان وذلك في الوقت الذي كانت فيه نسبة الأمية نحو 98% أي أن من يقرأون ويكتبون لا يتعدون نسبة 2% من السكان ورغم ذلك تواظب هذه الفئة المتعلمة علي مطالعة الصحف وتدفع قرشا صاغا لإقتناء نسخة من الصحيفة رغم الضيق الإقتصادي آنذاك. ويبقي السؤال هل زادت نسبة توزيع الصحف بصورة طردية بزيادة عدد السكان وتوسع قاعدة المتعلمين منذ ذلك الوقت 1942. أخشي أن تكون الإجابة بعد أجراء الدراسات محبطة مقارنة بنسبة التوزيع في مطلع الأربعينات. هل ذلك بسبب أن الصحف فقدت دورها التنويري وتحولت الي سلعة استهلاكية تهتم بقضايا النخبة في العاصمة والحضر فقط أم أن تعدد وسائط ووسائل الإعلام وانتشارها قد قلص هذه النسبة؟. خلاصة القول في الفصل الأخير لكتاب القس تريمنغهام أن التغريب فشل في أحداث التغيير والتحول الإجتماعي المنشود وسط الطبقة المثقفة وأصبح أثره سطحيا وليس جوهريا لسيادة التقاليد و النظام الإجتماعي الإسلامي الذي يقاوم الثقافة الدخيلة كما أن التغريب أصاب القشور والسطح ولم يصب الجوهر والروح لأن قواعد التعليم والتدريب الحديثة نقلت الأدوات ولم تنقل روح التغريب التي ترتكز علي تغليب النشاط الماديوالتفكير العقلي المجرد مقابل توجهات المثقف السوداني وتطلعه نحو ثقافة الشرق التي تبحث عن الأمن الروحي وليس الإشباع المادي. [email protected]