رفض الرجل الزواج بعدأن تعاهد مع مجموعته تفرغهم للنضال السياسي والعرب كانت تقول الأبناء مجبنةُ..! ارتبط خضر حمد بالجهاد في فلسطين سنة 1945م بدافع من عروبته المتأصلة وإيمانه بالعدل..! إن شاشة العرض خاصتنا في يناير احتفالاً بالاستقلال من كل عام تبخل علينا ببقية الصورة.. كانت الطائفية هي كل شيء في نظر الحكومة وهي تريد بذلك أن تقوي من شأنها لتحقر أو تصغر الطبقة المتعلمة وكان الاستعمار يشجع الطائفية ضد بعضها البعض..! مصيره وأحمد خير يعود في إلى أن كلا الرجلين تم إزالة ذكرهما بسبب من موقفهما الرافض للطائفية المتعاونة مع المستعمر.. لم تكن كلمة سوداني معروفة أو محترمة وكم ثارت مناقشات ونشبت خلافات في المفاضلة بين الجعلي والمحسي والدنقلاوي والشايقي..! [email protected] (كانت الطائفية هي كل شيء في نظر الحكومة وهي تريد بذلك أن تقوي من شأنها لتحقر أو تصغر الطبقة المتعلمة وكان الاستعمار يشجع الطائفية ضد بعضها البعض.... وهكذا كان الاستعمار يضمن لنفسه الاستقرار فقد شغل الناس بأنفسهم عنه) مذكرات خضر حمد – الحركة الوطنية الاستقلال وما بعده 1967م) غسان علي عثمان [email protected] هو هو تركب مزاجه السياسي بوعي شاركه فيه أحمد خير المحامي، الذي تناولنا جزءاً من سيرته العطرة في تاريخ أمتنا السودانية، وفكرة المقال السابق قامت على مسئولية الكاتب في رد الاعتبار لمن غشيهم النسيان المتعمد، ومن غيبوا لصالح أخرين، ففي مطلع كل عام نجهز أفراحنا، ونشد الصيوانات نستذكر درس نضالنا الوطني ونعيد تغذية ذاكرتنا السياسية والاجتماعية بمن ضحوا لأجل بلادنا وقدموا بين يديه، وما فرطنا فيه أننا سكنا أشباحاً في ظل أعمدة الاحتفال مضاءة بنصف عين، واستولدناه جنيناً محمولاً بلا هُوية، إننا نظلم أجيالنا بهذه الذكرى الناقصة، أو على الأقل صورتها التي تركز على الفاعل محل الضوء وتخشى من إنارة مسرح الأحداث بالكامل، ولذا فقل لي بالله عليك، أين ذكرى عبيد حاج الأمين وعلي عبد اللطيف وعبد الفضيل ألماظ وخليل فرح وعشري صديق وأخرين، إن شاشة العرض خاصتنا في يناير من كل عام تبخل علينا ببقية الصورة، واليوم نريد أن نرد الاعتبار كذلك لرجل نرى سهمه في مسيرة النهضة السودانية وافر، ومساهماته حقيقية وأصيلة، ولكنه كصاحبه أحمد خير المحامي غيّب بفعل فاعل، وصودر حضوره المعنوي واقتلع من الذاكرة هو الأستاذ خضر حمد (1910- 1970م) الرجل الذي إن قررت البحث عنه في دفتر استقلالنا فوجئت بفقر المادة المتاحة بل وتوجيهها لوصفه فقط بما تقلده من مناصب وما كتبه من شعر، وهذا في عرف الكتابة التاريخية يسمى التأريخ بالظل، ومقصد مقالنا هنا إعادة تسليط الضوء على الرجل لا لكشف حضوره المؤقت بل للإجابة عن سؤال غيابه من الذاكرة وتقهقره مبعداً في أقصى زواياها، وربطنا بين مصيره وأحمد خير يعود في نظرنا إلى أن كلا الرجلين تم إزالة ذكرهما بسبب من مواقف مبدئية شكلت مشروعهما الأساس وهو موقف الرجلين من الطائفية، فأحمد خير يكتب في كفاح جيل في 1948م عن انتهازية المثقف ورضوخه المُكلف لقادة الطوائف وزعماء القبائل، وأيضاً لا يوفر خضر حمد في شأنهم مقته وامتعاضه من الدور الخائب الذي لعبته الطائفية، ولعلنا حتى يوم الناس هذا لا زلنا ندفع فاتورة المزاج الطائفي للفعل السياسي في السودان، فمن قال بإن الطائفية ماتت؟ لا، أنها لا تزال حاضرة بل طورت من وجودها الاجتماعي وتلبس رغباتها عطش دائم جعلها فقط تغير من جسدها، وتدخل في دورة حياة لا فناء فيها، فكيف نفسر وجود زعامات للطوائف في بلادنا يمارسون نفس الدور ضد وعي الأمة وبنيها، يفعلون ذلك رغماً عنهم فالإرادة الكامنة في توظيف التدين العرفاني محل قداسة وإن تلفحوا بشعارات حداثية، إن خضر حمد محارب الطائفية دفع الثمن ليغشاه النسيان، ومسئوليتنا أن نكتب لصالح الذاكرة لا أن نشبع رغبات الضرورة. النشأة والتكوين الفكري: لصالح الأجيال الجديدة يأتي لزاماً علينا أن نقف عند بعض محطات السيرة فخضر حمد المولود بمدينة الأبيض يقول عن أثر البيئة في مذكراته التي نعتمد عليها في هذا المقال/الدراسة: (نشأت فوجدت أخي الأكبر المرحوم عبد الله حمد يقرأ كثيراً، يقرأ الفقه في الجامع الكبير بالأبيض وينتهي الدرس فيدلف إلى البيت ليبدأ قراءة جديدة في فنون أخرى..يقرأ المنفلوطي وحديث عيسى بن هشام، والمقطم والمقتطف (مجلات مصرية) كل ما يقع في يده من كتب الأدب والشعر والسياسة.. المذكرات ص 15) وهنا نلمح التكوين الفكري الباكر للأستاذ خضر حمد، فيقول إنه أحب القراءة بدفع من نموذج أخيه، وأن أخاه كان لا يقرأ لنفسه فقط بل يجمع من في البيت ليقرأ عليهم بعض الروايات والكتب والمقالات، فتعلم خضر الصبي حب الغير ومساعدتهم، ويقول إنه بان ميله للأعمال العامة والمساهمة فيها، تلقى تعليمه الابتدائي في مدينته ثم تخرج في قسم المحاسبين في كلية غردون التذكارية. شغل وظيفة في وزارة المالية ليستقيل، وعن عمله في جامعة الدول العربية يقول: "في سنة 1945م كنت في إجازة بالأبيض، وجاءت الأخبار تقول إن الرئيس الأمريكي ترومان قال يجب أن يدخل فلسطين مائة ألف يهودي وكانت امريكا آنذاك كما هي اليوم (يقصد اكتوبر 1945م) تقف إلى جانب اليهود وتريد أن تغمر بهم فلسطين ليصبحوا فيها أغلبية.. أثارني هذا الحديث إلى أقصى حد وشعرت أن الدول الاستعمارية تريد أن تتصرف في البلاد العربية كما تكون قطعة من ممتلكاتها بل تريد أن تهبها لليهود وتشرد العرب من ديارهم إرضاء للصهيونية – المذكرات ص 126"، وكتب خضر حمد خطاباً إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية حينها وهو عبد الرحمن بك عزام نقتطف من رسالته ما يدعم فكرة العروبة المتأصلة في خضر حمد بل والشغل الحقيقي لأحاسيسه ونفسه حول وحدة الأمة العربية الإسلامية وكيف شكلت قضية فلسطين هماً من هموم الرجل سبق به كثير من العرب الذين ارتبطوا بالقضية في العام 1948م وحمد منهم في العام 1945م طالباً بأن يسمح له بالجهاد لصالح القضية الفلسطينية يقول: (لست من رجال السياسة ولكني رجل أعير الشئون العربية اهتماماً زائداً وقد دعاني هذا الاهتمام أن أزور بعض هذه البلاد، مصر وسورية ولبنان وفلسطين والأردن والحجاز والعراق حباً في التعرف عليها... ولست والحمد لله من ذوي الثراء حتى أجود بالمال فأفدي نفسي بمالي ولكني شاب لا يملك من خير الدنيا إلا هذا المرتب الضئيل ولذلك استخرت الله وقدرت أن أهب نفسي ومجهودي للقضية العربية وأرجو ملحاً ألا أحرم من شرف الجهاد في صفوف المجاهدين.. ص 127 – وقدم خضر حمد نفسه ب سوداني عربي عمري 35 سنة نحيف طولي 5 أقدام و9 بوصة، لا أشكو من علة، أعزب (ظل خضر يرفض الزواج حتى توفي بعلة أنه لا يريد لشيء أن يشغله عن قضيته،وقالت العرب قديماً إن الأبناء مجبنةُ) وليس لي أحد يعتمد علي في معيشته ولي أخوة تجار حالتهم المالية حسنة، إلى أن يقول: يا صاحب العزة أنني أقدم نفسي طائعاً مختاراً للجهاد في سبيل البلاد العربية والإسلام وأرجو أن أحظى بالقبول أو التوجيه الذي يحقق لي هذا الأمل وسأتخلى عن وظيفتي بمجرد وصول أمركم.. خضر حمد 15/10/1945م – الخرطوم). وتمت الموافقة على تعيين الأستاذ خضر في وظيفة محرر بإدارة السكرتارية بمبلغ 25 جنيه. وتمتد السيرة إلى أن يصبح وزير دولة ووزيراً للري والقوى الكهربائية (لم أفهم لماذا تقلد هذا المنصب؟!). وللرجل آراء طريفة في بعض قضايا المجتمع فهو يرى التنوع في بناء المدارس في ولايات السودان المختلفة بحجة (إن طقس السودان يختلف في كل مديرية عن الأخرى، وكذلك اختلف نوع المباني التي يسكنها الناس .. ووزارة التربية تصر على أن تبني مدارسها في كل أنحاء السودان بالطوب الأحمر والأسمنت المسلح وتسقفها إما بالخرصانة أو الزنك وكلاهما في الحر لا يطاق وتصرف على المدرسة الواحدة عشرات الآلاف من الجنيهات بينما القرية كلها التي عاش فيها الطالب وسيعيش فيها لا تصل تكاليفها إلى ربع تكاليف المدرسة.. ويقدم مقترحاً متقدماً بمعايير تلك الفترة إذا يرى .. يجدر بوزارة التربية أن تعلن عن مسابقة بين المهندسين ليعطوها أنواعاً من المباني التي تناسب كل منطقة، وتقلل من هذه التكاليف التي نحن في حاجة إليها لبناء مدارس أكثر – المذكرة، ص 17) وله رأي وجدناه غريباً إن لم يكن متناقضاً من روحه الديموقراطية وإيمانه بالحرية، إذ أنه يقف مع ضرورة ممارسة العقاب البدني للتلاميذ (كان الاستاذ يقوم بمهمة المدرسة والبيت فكنت لا ترى طالباً يلعب في الشارع خوفاً من أن يراه الناظر .. وكانت سياسة الضرب عند الاهمال في الدروس هي المتبعة، وشعارهم (الضرب ينفعهم والعلم يرفعهم).. وقد يختلف أصحاب النظريات التربوية ولكنه في نظرنا الأسلوب السليم – مذكرات ص 18). خضر حمد أول من أسس جمعية سياسية تحت غطاء المدارسة الأدبية وضمت هذه الجمعية (إبراهيم يوسف وعبد الله ميرغني، وأيضاً مكاوي سليمان وحسن أحمد عثمان وأحمد خير وعوض الله محمد مرسال وعبد الله خليل) وأيضاً جمعية القراءة وهذه دافعها بأن خريج غردون كان يشعر بأن تعليمه قاصر وأنه لم يحصل على التعليم الجامعي يقول: ( هذه جمعية أنشأها الأبروفيون فيما بينهم لأغراض سياسية وأدبية متعددة، كانوا يختارون كتاباً عربياً أو إنجليزياً ويجتمعون في الأسبوع مرتين كل مرة في منزل واحد منهم، ويبدأ القراءة أحدنا بعد أن يتولى آخر تلخيص ما قرأناه في المرة الماضية، وبعد القراءة تدور مناقشة فيما قرئ. وقد قرأنا بهذه الطريقة كثيراً من كتب الأدب القديم، وكثيراً من كتب السياسة باللغتين العربية والإنجليزية.. والفقرة القادمة محل اهتمام ولا بد لها.. يواصل القول: وكان مما قرأناه كتاب اللورد لوقارد المسمى Dual Mandate وهو إنجيل الإنجليز في الإدارة الأهلية وتكوينها وتطويرها وقد وضعه صاحبه وطبقت سياساته في نيجيريا، وكان الإنجليز يهتدون به في إدخال هذا النظام، نظام الإدارة الأهلية في السودان – مذكرات، ص 29). كما تجلت إصلاحية الأستاذ خضر أن كان صاحب نظرة شاملة للإصلاح فهو في نظره لا يقترن بجانب واحد من جوانب الحياة، أو أن يتركز فقط في السياسة، فنراه يعمل على تطوير مدارس وهنا دوره في ملجأ القرش، وفي 1930م صار عضوًا في لجنة المدرسة الأهلية أم درمان، وبين عامي 1941 - 1942 سكرتيرًا عامًا لحزب الاتحاديين، وعضوًا في البرلمان الأول عام 1953، وفي عام 1967 - 1969م أصبح عضوًا في مجلس السيادة، ثم أعيد انتخابه عام 1968 عضوًا للبرلمان. وسعيه لتطوير الغناء السوداني، والرياضة وفصول محو الأمية وعمله الصحفي، ولأننا هنا محكومون بحدود المقال وأغراضه فإنه من الصعب الوقوف بحزم على الرؤية الإصلاحية التي كان يملك المرحوم خضر حمد، ولذا فدعوتنا أن يملك الناس مذكرات خضر حمد لينالوا حظهم من الوقوف بتؤدة على الرجل ومشروعه. أنا سوداني: وفي يومنا هذا بتنا نشكو ونطرح بإلحاح سؤال القبيلة، وبالعودة إلى مذكرات الرجل يقول: ( تلك التفرقة القبلية التي كان يحرص الاستعمار عليها حرصه على نفسه، لقد كان الاستعمار حريصاً ان ينمي فينا روح القبلية، كما كان حريصاً على أن يلهب الحماس لها والتعصب اللعين من أجلها بين القبائل، فكم أثار هذه النعرات وأيقظ الحفائظ والضغائن التي عفى عليها الزمن.. وكان السودانيون جميعاً وفي كل المعاملات حتى في العرائض يطالبون بذكر قبيلتهم.. وطلبة المدارس يجب أن يذكروا قبائلهم، ولم تكن كلمة سوداني معروفة أو محترمة وكم ثارت مناقشات ونشبت خلافات في المفاضلة بين الجعلي والمحسي والدنقلاوي والشايقي.. وقررنا في السنة النهائية أن ندعو إلى كلمة سوداني وننكر هذه القبليات.. ويسرد تفاصيل مقابلة التحاقه بالمالية، إذ سأله المستر بلاكلي.. (خضر أفندي، جنسك شنو؟!) (يجيبه: سوداني) (المستر: أقصد قبيلتك؟) (يجيبه: لا اعترف بهذه القبليات.) – المذكرات، ص 23.. هذه حلقة أولى وسنواصل المشوار مع الأستاذ خضر حمد الإصلاحي والنهضوي والمناضل بالفكر لصالح أمتنا السودانية، فمن العار أن يظل الرجل مُغيّباً.. نواصل.