اشتدت وطأة الأحداث السياسية في السودان هذه الأيام، إلى درجة بدأت فيه تتمايز الصفوف وتتعالى الأصوات بين دعاة الوحدة بين الشمال والجنوب كخيار لغالبية أهل السودان، انتخاباً أو استفتاءً، وبين أنصار الانفصال كاختيار لغلبة من الجنوبيين وقلة من الشماليين في استفتاء مرتقب وانفصال مرتجى بالنسبة لهم. ولم يظل جدل الوحدة والانفصال المحتدم حالياً قاصراٌ على الشريكين المتشاكسين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية)، بل بدأ هذا الجل ينداح بصورة ملحوظة في دوائر الأحزاب والقوى السياسية المعارضة، لاسيما المشاركة في ملتقى جوبا للحوار والإجماع الوطني، وتلك المشاركة في حكومة الوحدة الوطنية. وقد أحدثت دعوة سلفا كير ميارديت النائب الأول لرئيس الجمهورية ورئيس حكومة الجنوب ورئيس الحركة الشعبية الجنوبيين للتصويت لصالح استقلال جنوب السودان خلال الاستفتاء المقرر في عام 2011، معتبراً أن بقاء السودان موحداً سيجعل من الجنوبيين "مواطنين من الدرجة الثانية. وتأكيداً لدعوة سلفا كير هذه، جاءت تصريحات بعض قيادات الحركة الشعبية، مؤيدة لهذا الاتجاه، ومشيرة إلى أنه يعكس ما يدور في أذهان الجنوبيين. وعلى الرغم من أن سلفا كير نفى ما نسب إليه من تصريحات حول الانفصال. وانتقد أجهزة الإعلام، لكن كما أشرنا في مقالنا في الأسبوع الماضي إلى أن تداعيات هذه التصريحات جعلت كثير من الشكوك تحوم حول حقيقة موقف سلفا كير من الوحدة، ليس على مستوى المؤتمر الوطني، بل على مستوى بعض الأحزاب والقوى السياسية المشاركة في ملتقى جوبا. وقد استشعرت بعض قيادات الأحزاب والقوى السياسية المعارضة أن من تداعيات هذه المشاكسة المستمرة بين الشريكين أنها ستصرفهما عن تطبيق روح اتفاقية نيفاشا للسلام المتعلقة بجعل الوحدة خياراً جاذباً للجنوبيين. وذهبت بعض هذه القيادات السياسية المعارضة إلى أن استمرار هذه المشاكسة لن تجعل الانفصال جاذباً للجنوبيين فقط، بل أنها ستعمل على بث روح الانفصال، يأساً من هذه المشاكسة المستمرة، بين الكثير من الشماليين ظناً منهم – وإن بعض الظن إثم – أن الانفصال سيجعل الشمال يتفرغ للتنمية والازدهار، بعيداً عن مشاكسة الجنوبيين ومشاكلهم. من هنا نلحظ التصريحات والتحذيرات التي أطلقها بعض زعماء الأحزاب السياسية والقوى المعارضة في هذا الخصوص. وأبدى بعضهم مخاوف واضحة من تداعيات استمرار الخلاف والمشاكسة بين الشريكين (المؤتمر الوطني والحركة الشعبية) في بلورة رأي عام جنوبي يعتبر أن الوحدة هي استمرار لما يحدث في الجنوب حالياً، من تدهور أمني أقرب إلى الانهيار، ونزاعات واقتتال قبلي محموم في أكثر من منطقة من مناطق الجنوب لغياب الحكومة هناك، سلطة وأمناً، وانشغال قيادة حكومة الجنوب بعراك ومشاكسة مع شريكها في الشمال (المؤتمر الوطني)، فلذلك ربما يكون الانفصال أرحم بالنسبة للجنوبي من حاله اليوم، وبالتالي خيار الوحدة بالنسبة له لن يكون جاذباً، مثل خيار الانفصال، زد على ذلك الحجية التي يسوق لها بعض قيادات الحركة الشعبية بأن الجنوبي في ظل الانفصال سيكون مواطن من الدرجة الأولى، إذ أنه في إطار الوحدة سيكون مواطن من الدرجة الثانية. وأنه نتيجة لانشغال الشريكين بهذه المشاكسات الدائرة بينهما حالياً، غفلا عن العمل المخلص الدؤوب في جعل الوحدة خياراً جاذباً للجنوبيين في استفتاء تقرير المصير في يونيو (حزيران) 2010، حسبما ورد في اتفاقية نيفاشا. ومن أبرز هذه التحذيرات ما جاء في تصريحات السيد الصادق الصديق المهدي رئيس حزب الأمة القومي لصحيفة "الشرق الأوسط" "أن انتخاب المؤتمر الوطني سينقل الروح المعادية في مواجهاته مع الحركة الشعبية إلى المستقبل، وستشهد الأحوال في دار فور مزيداً من التدهور، وسيحدث استقطاب في القوى السياسية لأن المؤتمر الوطني نهجه نهج إقصائي، كما ستحدث مواجهة مع الأسرة الدولية لأن المؤتمر الوطني ألغى المحكمة الجنائية الدولية التي تجد سنداً كبيراً من الولاياتالمتحدة وأوروبا وأكثر من 106 دول تعترف بها وتتعامل معها"، مضيفاً "أن هذا يعني أن يدفع الشعب السوداني ثمن المواجهة مع المجتمع الدولي"، مؤكداً "أن انتخاب حزب المؤتمر الوطني السوداني الحاكم الذي يتزعمه الرئيس عمر البشير، في الانتخابات المقررة في أبريل (نيسان) المقبل، يعني انفصال جنوب السودان انفصالاً عدائياً". وكذلك حذر الدكتور حسن عبد الله الترابي الأمين العام للمؤتمر الشعبي من أنه "في حال انفصال الجنوب، فإن كل هذه الأموال التي ستصرف في الانتخابات والاستفتاء ستذهب هباء، منتقداً ما اعتبره تركيز المجتمع الدولي على حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية والمتمردين في دار فور، وتجاهل الأحزاب السياسية المعارضة. كما أعرب عن أسفه لمواصلة نهج المبعوثين الخاصين الدوليين، الذين يتعاملون في عملهم اليومي فقط مع قضية دار فور، وقال «إنهم يتعاملون مع الصراع في دار فور بشكل منفصل ويتجاهلون بقية الحالة السياسية الوطنية». أما السيد محمد عثمان الميرغني رئيس الحزب الديمقراطي (الأصل) تمسك بوحدة البلاد، وقال "إنها خط أحمر غير مسموح بتجاوزه". وحذر من "نار الانفصال التي ستحرق كل من يتلاعب بها"، مؤكداً على حق الجنوبيين في تقرير حقهم، على أن يتم ذلك في مناخ ديمقراطي حر، وليس كما هو سائد الآن"، داعياً الشريكين إلى "النظر في مآلات الخطيرة لأي جنوح نحو الانفصال، وما يترتب على ذلك من تفتيت للوطن، وتمزيق لنسيجه الاجتماعي". أخلص إلى أنه من الضروري أن ينجم عن الاجتماعات المتواصلة بين الشريكين اتفاق عملي لوقف حالة التوتر والتصعيد في القضايا الخلافية والدخول في حوار صريح بعيداً عن المجاملات ومناقشة القضايا العالقة بينهما، بُغية الوصول إلى حلول توافقية حولها. ومن الضروري النأي عن التصريحات المتضاربة، من خلال آلية توافقية لمخاطبة الرأي العام حول نتائج هذه الاجتماعات. كما على الشريكين من خلال هذه الاجتماعات السعي الحثيث من أجل تحقيق إجماع وطني مع كافة الأحزاب والقوى السياسية، حتى يتسني للجميع الانخراط في عمليات جعل الوحدة خياراً جاذباً للجنوبيين والشماليين معاً، بالإضافة إلى إحداث تقارب مع الأحزاب والقوى الوطنية، حكومة ومعارضة، في قضايا الانتخابات والاستفتاء. والعمل على تمديد السجل الانتخابي، باعتباره المدخل المهم للعملية الانتخابية كلها، خاصة وأن المؤتمر الوطني أكثر حرصاً على قيام هذه الانتخابات، وليعمل الجميع لقيام انتخابات حرة نزيهة، لأن مصير السودان كله متوقف على قيامها حرة ونزيهة. Imam Imam [[email protected]] ص الرأي – جريدة "السوداني" – يوم الأربعاء 18/11/2009