في مسرحية "جسر أرتا" أو "كما أراه" لألبيرت كامو .. كان ثَمّةَ معتوهٍ طاعنِ السنِّ يتسكع طوال اليوم كأنما يتحسس الجسر بخطاه الواهنة المترددة.. ظل والأطفال يطاردونه ويرشقونه بالحجارة.. وظل بعض المارة وأصحاب السيارات يتأففون لرؤية هذا العجوز الثمل بثيابه الرثة وهو يمسح أرض الجسر ويعترض عليهم المسير ليل نهار.. لم يدر بخلدِ أحدٍ من أولئك المارة ولا الأطفال، أنه في ليلة شتوية داكنة السواد، قبل أكثر من خمسين عاما، كان مهندس شاب علي وشك التضحية بمحبوبته الجميلة، وهو يتصنع فقدانه لخاتم زفافها، بأن قدمها قربانا لآلهة الشر الغاضبة، التي طالما عكفت علي تحطيم قوائم الجسر كلما أقامها البناؤون بعد أن بذلوا فيها شق الأنفس.. كان لابدّ أن يهدأ غضب الآلهة رغم فداحة الثمن، كيما تنهض القواعد من باطن النهر، ثم ينبسط عليها الجسر ليحمل فوق ظهره أهل "آرتا" الطيبين، فيعبرون عليه مطلع كل صباح جديد إلي أحبابهم بالجانب الآخر من النهر.. لم يكن أحد يدري أن ذاك المهندس الشاب ليس سوي هذا العجوز ذو الملابس الرثة، الذي يتسكع غير بعيد من قبر محبوبته الجميلة، وهي تستلقي بقاع النهر، تحت ركامٍ من الحجارة واللعنات.. المتن: لم تفلح آلاف السنين ولم تفلح الحروب والحرائق والمجاعات في أن تعقد عقدة الدم مابيننا وبين هذه الأرض الأستوائية المعطاءة.. فمنذ القدم ظللنا يدهشنا الخريف وتباغتنا طلائعه ونسماته الحبلي بالخصب كل عام جديد.. والآن أصبحنا نندهش حتي من جريان النيل، والنيلُ يجري بين أظهرنا منذ آلافِ السنين.. ليس النيل بغريب علي هذه الأرض بأية حال، ربما غرباءٌ نحن علي أرضنا، دُخلاءٌ عليها.. ربما غداً ينكرنا أطفالنا، ويمشون علي آثارنا باللعنات والتعاويذ، غداً تنكرنا الحقول والسنابل التي تصادف أن كُتبت لها النجاة . كأني بركاب مُضَرَ وبني ربيعة وقد ألقت الألواح متعجلةً، بعد أن أودعت في زمن غابر ذراريها كالعناكب، في رَحِمِ غابةٍ إستوائية عذراء متشابكة الأغصان، تضجُ بالأمطار والعبق الإستوائي الأخاذ .. ثم ما لبثت أن قفلت عائدة إلي المضارب وخيام الصوف الباهتة المنصوبة في المفاوز والمتاهات وفي الوديان ومسالك الجن.. فالخيل تموت واقفة ان طال بها المقام في المضارب بلا قتال. هناك من حيث أتينا، تُسرج الخيول كل صباح وتُهدرُ من علي أظهرها الحقوق وتُؤخذُ الأرزاق غلابا، فقد خُلقَ الإنسان عجولا.. لا أحد هناك ينتظر خيراً تأتيه به السماء. من يوقظنا من هذه الأحلام السوداوية الفاسدة، من يغسلنا أكثر بياضاً حتي نختلط علي أجدادنا الأنقياء، نحن ثمرة الحب المحرم، فيشهدون في أسواق قريشٍ ببنوتنا وحرارة دمائنا، أو تراهم يعيدونا في ملتهم رقيقاً وخصيانا، عسانا نتقلب خلسةً في مضاربهم الوسيرة القاصية.. وإلا فكيف لنا أن ننتسب، ونحن رعاةٌ جوابو فيافي، نسكن البراري بينما تجري في دمانا لعنة الصحراء.. هجَرَنا الأنبياءُ دون أن يتركوا لنا آلهة. ملعونون نحن كأصحاب موسي، لا نصبر علي طعامٍ واحد، ولا نضرب بخيامنا في مقامٍ إلا ونهجره لآخر، كيف لنا إذن أن نتقن إنتظار الفسائل حتي تثمر ويكتمل إيناعها.. وأجسادنا الجافة كالسحالي، لا تحتمل أن تداعبها ذرات المطر الإستوائي .. كما أن بأسنا ونظراتنا الجارحة ربما تؤذي العصافير المدارية الملونة.. إن نحن بقينا ستكسر الرياح الصحراوية علي العصافير أجنحتها وتتلف أوكارها، إن نحن بقينا ستقتلنا الدهشة، تباغتنا الأمطار كل يوم، ويفجؤنا النيل علوّا وهبوطا، في تدفقه حينما نتخذ من مسالكه، كالعنكبوت، بيوتاً واهنة متأرجحة .. ها نحن نبتهل يا ربيعة، فقد غالبنا الصبر وطالت بنا الليالي والأيام ولم تعد إلينا ركابكم. ها نحن نبتهل إلي الله كي نجلب صحاري الظمأ إلي هنا.. نضرب خيامنا ونوقد نارنا، فوق شوارع الأسفلت وتحت ظلال الزيزفون والمباني الشاهقة .. نخلق لنا في المدائن الإستوائية الآمنة بيداً ومفاوز جرداء قاحلة، نتخذ فيها مضارباً للظمأ ومدافن للموءودات.. سنأتي يوماً يا ربيعة نتسلل في الغابات الإستوائية علي بعد ألف فرسخ من دار البسوس، نخفي في رحالنا وتحت ثيابنا، السيوف والخيالة، والمقاتلين الأشداء، لندرك ثأرَ كُليب، ودم عثمان. سنُهلك في مسارنا الحقول والوديان ونشعل الشجر الأخضر ناراً ما بين المضارب والمضارب، حتي تكون الطريق سالكة للمحاربين والمدلجين والصائلين.. فاموالنا غنائم للمحاربين، وريعاً لأمرائنا وخراجا لبيت المال، وأسرانا وموالينا موارداً لسوق عكاظ. سنرسل حسناواتنا السمر الفاتنات وأبصارنا مسبلةً، حتي تضيق بهنّ قصور أمير المؤمنين، ونستبقي منهن مورداً لمراقد الموءودات. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. ///////