كنت قد تعرضت لمفهوم الإقصاء الاجتماعي من قبل، وهاأنذا أفعل مرة أخرى وذلك لسبب بسيط هو أن الدولة الأصولية المتحكمة في رقابنا ما زالت تعمل على توسيع الفجوة ما بين الأغنياء والفقراء... وعلى الجانب الآخر النخبة الاسلاموية ومنتفعيها وحارقي البخور يتحولون إلى فئة متناهية الصغر ولكنها تتحكم في كل شئ من الاقتصاد إلى الفضاء السياسي والاجتماعي، واضعين في الاعتبار أنهم جميعاً ينحدرون من (الطبقة الوسطى) ولكن الآن بعد التمكين و(السفح واللفح) أصبحوا من (أولاد وبنات المصارين البيض). فحالياً البترول يشهد ارتفاعاً لكن هذا الارتفاع لا ينعكس على معيشة المواطن، وإلا أخبروني عن الارتفاع الجنوني في السوق وغول السوق الذي يبتلع البسطاء من أبناء شعبي صباح كل يوم، بل هذا الارتفاع يزيد الفئات الشبعانة حد البطر ثراءً على ثراءها على حساب الملايين الجائعة. يعرف معجم كامبردج الحرمان بأنه: (فقدان الأشياء/الأوضاع التي تجعل الحياة مريحة ولطيفة). يعتبر عدد من المختصين في الاقتصاد والسياسة الاقصاء الاجتماعي مظهراً من مظاهر الإجحاف الاقتصادي/السياسي والذي من خلاله يتم طرد/استبعاد الأفراد/المجموعات من إمكانية حصولها على السلع/الخدمات/الأنشطة والموارد التي دائماً ما تكون مربوطة بأن الفرد مواطن وتتوفر له كامل حقوق المواطنة. فعلى سبيل المثال لا الحصر يعرف (ِArjan de Haan) الاقصاء الاجتماعي بأنه (المناقض/على النقيض من الاندماج الاجتماعي ... مفهوم متعدد الأبعاد .. يشير إلى الإقصاء او الحرمان في الفضاء الاجتماعي/السياسي ... وفي بعض الأحيان ربما يشير إلى وضع/حالة ... وربما يكون يتضمن العمليات والماكينزمات التي عن طريقها يتم الاقصاء الاجتماعي). من الجدير بالملاحظة أن الفقر لا يعتبر مقياس حقيقي من مقاييس الاقصاء الاجتماعي، بل هنالك البحث عن الاقصاء الاجتماعي بتجلياته المادية/الثقافية. فالأصولية الإسلاموية عملت على إقصاء مجموعات ثقافية وإثنية بكاملها في الجنوب والشرق والغرب وحتى داخل المركز نفسه. ونفس هذه المجوعات بعيدة كل البعد عن مصادر/مراكز ودوائر صنع القرار السياسي والذي في بعض الأحيان يتعلق بحياتها، مثل إقامة المشاريع التنموية، كما في حالة إقامة السدود. وليس ذلك فحسب وإنما المواطن السوداني وبسبب الفقر وإغلاق الفضاء السياسي واحتكاره عن طريق المؤتمر الوطني لا يشارك حتى في اللجان الشعبية التي هي صنيعة المؤتمر الوطني، دعك من مشاركته في القرارات الكبيرة التي تهم حياته، مثل المعارك الخاسرة التي تخوضها الدولة ضد القوميات المهمشة في الغرب، والمواطن فقط عليه خوض الحرب نيابة عن النخبة الإسلاموية، سواء كان هذا بتمويل الحرب من الضرائب التي يدفعها أو في المظاهرات التي يُساق المواطن إليها مثله مثل قطيع الأغنام، فمسكين هذا المواطن هو فداء لنظام متهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وطوال سني حكمه لم يقدم له سوى الدمار في التعليم والصحة ونظام جعله يعيش على هامش الحياة وفي وحل الطين والفقر والجوع، فالإنسان في محمية أو ضيعة المؤتمر الوطني شئ تافه لا شأن له، لا قيمة له إلا في وقت الشدة، وهي (أي هذه الشدة) حماية النظام المتهالك الذي يتفنن في قهر المواطنين العزل، كما شاهدنا ونشاهد يومياً كل الصور في الشارع السوداني والتي يطارد فيها البوليس بائعات الشاي والماء، وقمع المظاهرات التي تسيرها منظمات المجتمع المدني والأحزاب في بعض الأحيان، ولكن كم هي ضعيفة الدولة أمام الهجمات التي تسيرها حركات الهامش، وما حركة خليل ودخولها أمدرمان إلا مثالاً يوضح ضعف الدولة وهوانها ..!! أيضاً الإقصاء الإجتماعي يعني غياب الحقوق الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية والثقافية ولكن ما جدوى كلمة (حقوق) في ظل نظام مغلق على ذاته وتحول إلى (طبقة) مغلقة شبيهة بنظام الكاست (caste system) الذي تقسم مجتمع الهندو إلى طبقات. فالمؤتمر الوطني تحول إلى نظام مغلق على ذاته ولا يؤمن بحق الآخرين في الوجود ولا يرى الآخر إلا في صورته/كنسخة منه .. لا يؤمن بفلسفة الحياة المتعددة/الغنية – فهي طبقة مستبدة كارهة للحياة المتعددة الغنية – ومن أراد أن يتأكد عليه بالنظر إلى الأحياء التي لا يسكنها ولا يدخلها إلا المقربون من المؤتمر الوطني أو من كان مؤتمر وطني (كافوري على سبيل المثال). أيضاً نوعية التعليم الرديئة لعامة الشعب والدهماء منه، ولكن هم يرسلون أبناءهم إلى المدارس الأجنبية، الأمريكية منها والبريطانية، وأيضاً نوعية وجحافل العربات التي يمتطونها. فليس هنالك جدوى من الحديث عن الحقوق لإننا لم نصل بعد إلى العقد الاجتماعي الذي يساوي ما بين جميع البشر ويكسر رتابة القيم الاجتماعية بعد. أخيراً، أينما نظرت سوف ترى الإفقار الثقافي، ففي كل مدن الدنيا، المدينة تتيح لساكنيها فرصة القراءة في المكتبات العامة التي تتوزع على جنبات المدينة، لكن أصحاب المشروع (الحضاري جداً) عملوا على تصحير وتجفيف منابع المعرفة حتى داخل الجامعات لا نجد سوى كتابات الإسلام السياسي التي أصبحت جزءاً من المنهج. فالأناشيد الجميلة والشعر حلّت محلها (فلترق منهم دماء.. أو ترق كل الدماء) فهم يلقنون الأطفال منذ الروضة ومروراً بالأساس فنون الاستعداد للموت، وكأن الحياة عبء ينبغي الخلاص منها .. وهذا الحديث ليس خيالياً فبالأمس القريب شاهدت الآلاف من الناس يخرجون لمشاهدة مباراة الجزائر ومصر وهذا بالطبع شئ جميل! ولكن السؤال لماذا لا تخرج نفس هذه الجماهير حينما يموت الآلاف في دارفور والجنوب وتسحقهم آلة الدولة سواء كان بجيشها أو عن طريق الحرب بالوكالة (The war by proxy) ؟! فالروح في سودان المؤتمر الوطني هي أرخص ما في الدنيا، وحياة الإنسان غير مقدسة بالمرة ... فالاهتمام الذي لقيته المباراة والحماية التي وفرتها الدولة لم توفرها لحماية النازحين في دارفور وعلى رأسهم نساء دارفور في المعسكرات اللائي لا يقدرن على الاحتطاب في ظل الاغتصاب ..!! ما السر في إصرار المؤتمر الوطني على خلق حياة تظللها الكآبة ... وما الإصرار على أساليب القهر التي لم تؤت أكلها..؟! ولماذا الإصرار على تبديد (ثرواتنا) التي هي ليست ملكاً لنا في السفه والمهرجانات والمسيرات التي لم تقتل بعوضة ..؟! إنه الموت المجاني وبشكله الفردي والجماعي .. ولماذا الإصرار على تسليح القبائل ضد بعضها البعض والذي سوف يضعف الآخر سواء كان جنوباً وغرباً وشرقاً .. والذي هو في نهاية المطاف إضعاف لأنفسنا .. وتدمير للبيئة والإنسان معاً. لكي تضئ الفلل الرئاسية كان لا بد لقادة المؤتمر الوطني من إشعال الحرائق المتواصلة في كل أرجاء الوطن! ولكن سوف يجئ اليوم الذي ينفجر فيه بركان الظلم واللامساواة وذلك نتاج لعدد من العوامل وعلى رأسها يجئ الطغيان السياسي والبرنامج الاقتصادي الذي ولّد الفقر الفاحش وكل العتمات التي تسد الأفق، فالإنتهازية السياسية والشطارة والفهلوة سوف تعجل بهذا اليوم ... وهو لا ريب فيه. فنحن نمشي في أرض ملغومة ولا بد أن يجئ يوم وتنفجر في وجه الكل وعلى رأسهم يجئ الذين صنعوها ولغموها وهم قادة المؤتمر الوطني! فهل من عاقل يوقف هذا الطوفان !!