لم يكونوا ماركسيين.. الحلقة الثانية عشرة "وكيف ينتهي التاريخ إذا كانت روحيته في الكائن" هايدغر عندما دعي الأستاذ محمود أمين العالم ليتحدث في ندوة عن أزمة الماركسية، تحدث بمزيج من المرارة والسخرية قال "العالم": لنعترف أن معرفتنا الحقيقية بالماركسية هي معرفة محدودة مسطحة هشة، ولا شك أنها امتداد لمعرفتنا النظرية العامة التي تتسم بالمحدودية والتسطيح والهشاشة. فما أشد ضعف وتخلف الفكر النظري عامة في ثقافتنا العامة. تحقيق: خالد فتحي :علاء الدين محمود المعرفة بالماركسية نلتقي لنتناقش حول أزمة الماركسية فكرا وتطبيقا، ونحن جميعا، وبغير استثناء وبدرجات متفاوتة نسبيا، لا نملك المعرفة الحقيقية العميقة بالماركسية. ليس الأمر مجرد عيب ذاتي فينا، في مثقفينا. فقد يكون بينهم من عرف الماركسية معرفة نظرية طيبة، واستوعب مراجعها الأساسية، إنما هو عيب موضوعي كذلك، فماركس لم يترجم ترجمة كاملة شاملة في لغتنا العربية، أي أنه حتى اليوم لم يدخل في ثقافتنا العامة فضلا عن أنه لم يجد طريقه بشكل موضوعي في إعلامنا، وتعليمنا ومدارسنا وجامعاتنا وحتى مجلاتنا وكتاباتنا العلمية إلا في صورة عكسية أو ضدية في أغلب الأحيان. لقد حوربت كتبه وصودر في أغلب الأوقات المترجم منها طوال السنوات السبعين الماضين. ولهذا لم يتم حوار فكري حقيقي علني مجتمعي حول الماركسية مما كان من الممكن أن يغني ثقافتنا وينمي معرفتنا الموضوعية والنقدية بها، ولعل اغلبنا قد اكتفى أو لم يجد أمامه إلا بعض ما ترجم من كتب ماركسية اغلبها ترجمة ركيكة، أو تبسيطات وملخصات مرت على المصفاة السوفييتية الإيديولوجية. ولهذا، فلنعترف أن معرفتنا الحقيقية بالماركسية معرفة محدودة مسطحة هشة، ولا شك أن هذه المعرفة المحدودة المسطحة الهشة بالماركسية هي امتداد لمعرفتنا النظرية العامة التي تتسم بالمحدودية والتسطيح والهشاشة. فما أشد ضعف وتخلف الفكر النظري عامة في ثقافتنا العامة. لست أتحدث عن المعرفة النظرية في حدودها الفردية، وإنما في أفقها المجتمعي عامة، أفق الثقافة السائدة، أن الفكر النظري لم يتح له التطور والتعمق في مجتمعنا وثقافتنا سواء في ظل الاحتلال البريطاني منذ 1882 حتى 1952، أو منذ 1952 حتى الآن، لقد غلب الفكر العملي البرغماتي، أو الفكر النظري الانتقائي أو التوفيقي. واليوم نحن نلتقي لنتساءل عن حقيقة الماركسية وعن مصيرها وعن أزمتها، وعن دلالتها في مجتمعنا وفي عصرنا. وتساؤلاتنا واجاباتنا ستكون بالضرورة محدودة بحدود معرفتنا بالفكر الماركسي كما ذكرت من قبل،ولهذا قد يكون من المفيد أن نحدد أولا بعض المعالم الأساسية للماركسية حتى يستند حوارنا ونقاشنا على أسس واضحة، مهما كانت هذه الأسس محدودة ومجزأة. أزمتنا أم أزمة فكر ولهذا قد أحرص على أن أقول منذ البداية وقبل دخولنا في الموضوع، إننا أحوج ما نكون إلى توافر ترجمة عربية صحيحة كاملة لمؤلفات ماركس، فضلا عن العناية بدراستها دراسة معمقة في ضوء خبراتنا الخاصة فضلا عن مختلف الخبرات العلمية العالمية حولها التي توافرات طوال السنوات الماضية. الماركسية ليست كل ما قاله ماركس، فلقد عالج ماركس قضايا متعددة وبمستويات مختلفة وعبر مراحل زمنية ومتنوعة ولم تتشكل ما نسميه بالماركسية دفعة واحدة، بل تمت وتحددت عبر خبرة طويلة من المعرفة الفلسفية والعلمية والممارسات النضالية والعملية. وقد نتبين في بعض مفاهيمها اختلافات في التركيز على بعض الجوانب أو في بعض الدلالات ولهذا فقد تكون النظرة التأريخية والموضوعية لماركسية ماركس، هي متابعة تطوره الفكر لا من حيث ما جاء في كتاباته ومواقفه فحسب، بل من حيث علاقة هذه الكتابات والمواقف بالسياق الاجتماعي والتاريخي والثقافي الذي نشأ وعاش فيه وتأثر به. فبهذا تكون دراستنا ماركسية حقا للماركسية، فماركسية ماركس هي ثمرة أوضاع تأريخية واجتماعية وفكرية محددة إلا أن ما يسبغ عليها صفة النظرية، أي اعتبارها ماركسية لا مجرد كتابات ماركس، بل هو ارتفاعها من مستوى القراءة الوصفية للواقع الآني في عصره، إلى التحديد العلمي والفلسفي والتوجيه العملي المستخلص من هذا الواقع والذي يصلح ان يكون رؤية شاملة، وفاعلية مؤثرة في حركة الواقع في عصره، وفي تغييره تغييرا جذريا ذا طابع إنساني مستقبلي شامل. واقع مشابه ولعل كلمات "العالم" المريرة تلك تنطبق بشكل كبير على مستوى المعرفة بالماركسية في السودان ووسط الشيوعيين السودانيين منذ أمد بعيد على الرغم من أن الماركسية قد ألهمت المثقفين السودانيين تماما وشغفوا بها، وربما من ذلك يصبح من الغريب جدا التعجل إلى التخلص من أفكار ماركس لدى الكثير من قيادات الحزب الشيوعي، ولكأن القوم يقومون بنفي أمر هو غير موجود وغير ممارس، وكان الغريب فعلا التصدي للحديث حول الجمود في أفكار ماركس وانجلس على نحو ما فعل محمد ابراهيم نقد والتعامل مع ذلك وكأنه واحد من أزمات الحزب الشيوعي، لقد القوا برايات لم يرفعوها هي الرايات الماركسية. ماركسية الحزب الشيوعي كتب عبد الخالق محجوب في (الماركسية وقضايا الثورة السودانية): أن من بين القضايا التي طرحت نفسها مرارا خلال هذه السنوات والتي ظل حزبنا يستكشف فيها طرقا وأشكالا تحوله إلى قوة جماهيرية مؤثرة قضية ما يسمى ب"المستوى الفكري للأعضاء" أي ضعف معارفهم الماركسية، نتصدى لهذه القضية بوصفها قضية التعليم الحزبي وفي هذا المضمار وصلنا إلى المعالم الرئيسية التالية: أولاً: لقد قدمت الماركسية في الفترة الأولى لبناء حلقات الحزب الشيوعي وتنظيماته الأساسية كعموميات بواسطة الكادر المثقف الشيوعي في احتكاكه المباشر بطلائع الجماهير الثورية وفي مقدمتها كادر الطبقة العاملة، وكان هذا هو الشكل الوحيد لاقتراب الماركسية من طلائع الشعب والطريقة الوحيدة للتعليم الماركسي في الحزب الشيوعي السوداني ومن هذه الحلقات بدأ تعليم الماركسية للأعضاء الوافدين بتبسيط العموميات اعتمادا على الكتب الماركسية المترجمة. ثانياً: بتزايد علاقات حزبنا بالنضال الجماهيري وتصديه لحل قضايا ملموسة بدأت المطالبة من قبل أعضاء الحزب "بإيراد أمثلة من الواقع" توضح العموميات الماركسية التي تدرس وكانت هذه المطالب تعبيرا عن: حقيقة أن تقديم العموميات الماركسية وحدها ما عاد يكفي، وما عاد الطريق الأوحد لتعليم الماركسية في حزبنا. "ب" أن هناك حاجات متزايدة تواجه أعضاء حزبنا لقيادة النضال الشعبي قيادة ملموسة، وايجاد الحلول للقضايا بتطبيق الماركسية على ظروف بلادنا. ثالثاً: بانحسار السلطة السياسية الاستعمارية تدفقت الكتب الماركسية المترجمة إلى بلادنا وأصبح التعليم الحزبي القائم على مجرد تبسيط هذه الكتب لا يفي بالحاجة، فالكثير من أعضاء الحزب الشيوعي وخاصة في المدن يستطيعون الوصول إليها والتعرف على ما فيها، ولهذا بدأ الإقبال على التعليم الحزبي بالطريقة القديمة يتراجع، وكان على حزبنا أن يرفع من مستوى هذا التعليم إلى مستوى تقديم الماركسية مطبقة على ظروف بلادنا وقد أدى ضعف هذا العمل إلى الأزمة المستمرة في ميدان التعليم الحزبي، والذي أصبح يتميز بالتقطع ثم الذبول أخيرا، ويقول عبد الخالق أن التعليم الحزبي كوسيلة للتكوين الإيديولوجي للأعضاء ما وجد سبيله للتنفيذ. وبالرغم من أن الحزب الشيوعي استطاع في هذه الفترة انجاز أعمال لا بأس بها في حقل تطبيق الماركسية سواء كانت في ميدان بناء الحزب أو في دراسة اقتصاديات البلاد. فإن هذه الأعمال لم تأت بالنتيجة المطلوبة في تنمية مستوى المعرفة الماركسية بين حزبنا في ثبات وبأقصى درجات الفائدة. عبد الخالق الماركسي لقد أسهم عبد الخالق محجوب إسهاما كبيرا في محاولة قيادة الحزب وفق فكر ماركسي تشبع به، وربما كان لمدخل عبد الخالق إلى الماركسية عبر الفكر والثقافة عامل كبير في فهمه العميق للماركسية كفكر نقدي وكأداة للتغيير، ويقول جان ماري فنسان: إن الماركسية طرحت في الأساس كحركة فكرية نقدية وكأداة لتغيير العالم وهي على تناقض مع الاطلاقات الإيديولوجية والشمولية التي تدعي شرح كل شيء، وتدل على حركة الفكر أكثر مما تدل على قوانيين ثابتة، وسار عبد الخالق بعيدا عن التعاليم الجاهزة في نسختها السوفييتية وكان يحذر كثيرا من السير في هذا الطريق، ومن نفض الكتب القديمة ومن أن تتحول أفكار ماركس إلى إيديولوجية جامدة، وذهب عبد الخالق إلى أن النظرية الماركسية- تلك النظرية السياسية التي نشأت خلال تطور العلم والتي تقوم على أساس اعتبار السياسة والنضال من أجل الأهداف السياسية علما يخضع للتحليل. ويقول عبد الخالق: "وكشخص وضعته ظروف الحياة لا كزارع أو صاحب أملاك - بل كمتعلم نال من بعض التعليم المدرسي، كان لا بد لي –كغيري- أن أقوم بجهد لأنال شيئا من الثقافة ينفعني في تطوير فكري وتوسيعه. ولم أكن أهدف إلى أي ثقافة ولكن الثقافة التي تعطي تفكيرا غير مضطرب أو متناقض للظواهر الطبيعية والاجتماعية... إن النظرية الماركسية تمتاز بالتناسق ولأول مرة تضع قيماً عالية للأدب والتاريخ والفن والفلسفة مما كنا نعتقد أيام الدراسة إنها بطبيعتها لا يمكن أن تكون لها قيم أو تستعملها قواعد وإلا فقدت طبيعتها. إني كفرد يحاول تثقيف نفسه وجدت في النظرية الماركسية خير ثقافة وأنقى فكرة. إن تجربتي البسيطة توضح أنني لم اتخذ الثقافة الماركسية لأنني كنت باحثا في الأديان، ولكن لأنني كنت وما زلت أتمنى لبلادي التحرر من النفوذ الأجنبي - أتمنى وأسعى لاستقلال بلادي وإنهاء الظروف التي فرضت علينا منذ عام 1898، أتمنى واسعي لإسعاد مواطني حتى تصبح الحياة في السودان جديرة بأن تحيا - ولأنني أسعى لثقافة نقية غير مضطربة تمتع العقل وتقدم البشرية إلى الأمام في مدارج الحضارة والمدنية." حزب فقير لقد كان لهذه الفقر المعرفي بالماركسة في الحزب الشيوعي نتائج مباشرة على العمل القيادة والعمل الجماهيري، وعبد الخالق يقر في ما سبق عرضه فقر الحزب الشيوعي بالمعرفة الماركسية لأسباب عدة، ويقول عبد الخالق: إن التعليم الحزبي كوسيلة للتكوين الإيديولوجي للأعضاء، وعلى الرغم من ذلك هنالك من يتحدث عن الحمولة الإيديولوجية الثقيلة التي أرهقت ظهر الحزب، لقد استمر ذلك الفقر في فهم الماركسية ودراستها كما أشرنا حتى إلى مرحلة ما بعد عبد الخالق محجوب. ويقول عبد الله علي إبراهيم: إن الحزب "تقحم في ظل "راشد"، عبد الخالق محجوب، وقائع السودان بقدر ما استطاع باجتهاد سماه "ماركسية مبدعة مطبقة في ظروف السودان". ولكن خلفاءه انشغلوا عن ذلك بمنازلة قاسية للنظم المستبدة منذ 1971 وتأخروا في مادة التطبيق المبدع للماركسية. فمعارضتهم لتلك النظم دائرية: تبدأ بالنظام المستبد وتنتهي عنده لا يزينها نظر أبعد إلى منزلة النظام البغيض في العالم، ويقول: ولم أجد عبارة شافية في طلاق المقاومة عن النهضة في ممارسة الحزب الشيوعي مثل التي جاءت في الماركسية وقضايا الثورة السودانية وهو التقرير المجاز في المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي في 1967. ويكاد التقرير أن يكون شكوى كظيمة من أن الحزب لم يتمتع بفسحة مستقرة من الوقت لتعميق الماركسية بين صفوفه أو العناية بتربية عضويته (من طلائع ثورة أكتوبر 1964 كما سماهم) بعبارة أخرى. فقد نهض الحزب مباشرة "وسط ضجيج الحركة الثورية" حتى أن مثقفيه أنفسهم تلقوا عموميات الماركسية وهم في خضم الصراع ضد الاستعمار بصورة أصبحت وحدة تفكيره قائمة علي البرنامج السياسي لا الأساس الإيدلوجي. وقوَّت هذه الناحية في تكوينه اتجاهات يسارية حالت دونه ودون أن يكتشف طرقاً متعددة للعمل السياسي، في ظروف صودر فيها ذلك العمل، غير المنشور والإثارة و"النشاط الإثاري العملي". وترتب علي هذا أن انقطعت اتصالاته اليومية بالجماهير وأخفق في أن "يرتبط بالحياة في اكثر من أفق". والشاهد هنا تعليق التقرير السلبي لمقاصد مقاومة الحزب الجرئية لنظام الفريق عبود (1958-1964). فقد وصفها بأنها كانت تقليدية جرت في إطار الجو العام الذي كان حبيس "الخلاص من الديكتاتورية العسكرية والرغبة في التخلص منها وحسب". وزاد التقرير بقوله إن الحزب واجه النظام كديكتاتورية عسكرية ولم يواجهه كنظام طبقي أداته العسكرية. والمواجهة الأخيرة هي ما يعتد به الماركسي لبلوغ التغيير الاجتماعي المفضي للبعث الوطني. فالمقاومة الضريرة احتطابُ ليل". أزمة مستلفة ورأينا كيف أن المؤتمر وقبل أن يعقد مؤتمره الخامس في عام 2009م قد تبارى قادته في تصريحات متوفرة تعلن موت الماركسية ونعيها، وحقيقة أن قيادات في الحزب استلفت أزمة انهيار المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفييتي وجعلت منها ازمة الحزب الشيوعي السوداني، وتباروا في تفسير ما حدث ولم يخرج لا محمد إبراهيم نقد ولا الشفيع ولا من تبقى من أعضاء "اللجنة" من ما هو شائع ومتاح جدا وملقي على أرض معركة الهجوم على الماركسية. لقد "حاصر الجمود أفكار ماركس" إذن فليسقط ماركس، وهذا الجهد "الفقير" كان يهدف حقيقة إلى تصفية الحزب عبر إعلان نهاية صلاحية نظريته "الماركسية"، وهذا العمل -وكما رأينا- ليس وليد مرحلة ما بعد 1971م، بل كان امتدادا لمن أرادوا تصفية حساباتهم مع عبد الخالق محجوب من الذين انقسموا وانضموا إلى السلطة في عام 1971م لتدور دورة التاريخ ويعود بعض من ذلك التيار الى صفوف الحزب مرة أخرى. ومن أثار تلك التصريحات التي قال بها قادة الحزب متأثرين بالأفكار التي أعلنت نهاية التاريخ، ظن الكثيرون أن الحزب في طريقه إلى مدابرة الفكر الماركسي والتخلي عن النظرية الماركسية إلى غير رجعة في المؤتمر الخامس للحزب. وقال عبد الله: أن مؤتمر الحزب القادم ربما قرر طلاقه مع الماركسية طلاق بينونة، فقد بشرت بهذا الطلاق جماعة غير واضحة الحجم والأثر بعد في المناقشات العامة التي جرت بمثابة تحضير للمؤتمر، بل إن مشروع اللائحة المقدّم له نزع الماركسية من فراداتها كأيدولجية الحزب الوحيدة وشملها ضمن عقائد أخرى يهتدي بها في نظره وممارسته. أهم من ذلك كله أن بعض أميز كادر الحزب قد خرج عنه في 1995 في خضم تيار سُمي "حق" نادي بغير مواربة بأن الماركسية نظرية قاصرة فات زمانها ومات مغنيها. وأردفوا أن المعاني المتفق عليها في الحزب حول البعث الوطني ونصرة المستضعفين لن تقوم لها قائمة ما أنفك يستظل بالماركسية. ويقول: "فمما يستوجب الخشية أن يستسهل الشيوعيون رمي الماركسية في سلة مهملاتهم بالنظر إلى تهافت تطبيقها في حقولها الأوربية البكر تهافتاً يجعل تخلي الحزب الشيوعي السوداني، وهو عيشة في سوق الغزل، ضربة لازب. بل تجد من غير الشيوعيين من يستكثر على الشيوعيين، أو على البعض منهم، التمسك بها ما يزال، بينما استدبرها مَن هم أعرف بها في بئياتها الأوربية الأصل. فمثل هذا التوقع الشيوعي، أو التوقع منهم، قد يعفيهم من التفكر في التنصل من الماركسية بصورة مسؤولة. وهذا التنصل عظيم الخطر بالنظر إلى التأثير الغالب للماركسية في السودان، دون سواها، في بلورة المشروع السياسي الفريد لمستضعفي السودان منذ منتصف الأربعينات سواء من جهة التحرر الوطني أو التغيير والعدالة الاجتماعيين. ولسنا نريد لعصفنا الفكري هذا بالطبع أن يمنع طلاق الشيوعيين المتوقع من الماركسية بل غايتنا منه ألا يقعوا في أبغض الحلال بضربة لازب بدون إعمال ذكي للعقل والعاطفة معاً. هز الشجرة في رأينا- في هذه الورقة- أن الحزب الشيوعي في واقع الأمر ليس بصدد اطراح الماركسية في مؤتمره القادم. الأحرى أنه قد تخلي عنها، منذ عهد طويل، سوى الذكرى منها أو صداها الحاكي. وهذه هي الزاوية الأخرى التي نستقدمها لدائرة النقاش حتى لا يظن من تهيّأوا لهجر الماركسية في المؤتمر الخامس أنهم يأتون بجديد. وعليه فالشيوعيون إن اسقطوا الماركسية كأيديولجية لحزبهم في المؤتمر الخامس، فهم ما زادوا عن فقدان شيء لم يوظّفوه على رأي الأمريكيين. فقد بدأ لي الحزب الشيوعي منذ عهد بعيد حزباً انشغل بمعارضة نظم ديكاتورية بلغت سنوات حكمها نحو 40 عاماً منذ استقلال السودان لنحو نصف قرن. وقد أحسن الحزب مقاومة هذه النظم وضحّى تضحية مشهودة. غير أنها مقاومة يحسنها أي أحد غيره وبغير حاجة للماركسية. فقد قل في الحزب تباعاً الاسترشاد بالماركسية حتى تتأسس مقاومته للنظم الطاغية على هدي ماركسي يستنطق هذه النظم منشأها الطبقي والعرقي والبطرياركي ليوطن تكتيكاته للمقاومة بين المستضعفين، بشكل رئيسي، بالنظر إلى استطاعتهم ومصلحتهم، وليضمن إن هزّ الشجرة أن تسقط الثمار في عبه لا كيفما اتفق. وهذه آفاق البعث الوطنى التي رنا لها الشيوعيون وعجموا كنانتهم وتخيروا لها الماركسية سهماً لا يخيب. ولما غطت المقاومة على هذه الآفاق تحول الحزب الشيوعي إلى حزب معارض ذي همة مميزة بالفعل ولكني كسبه من المعارضة مثله مثل كل حزب آخر" ولكن الحزب وفي مؤتمره الخامس أعلن تمسكه بالماركسية وهذا ما سنتناوله في الحلقة القادمة.. "وجاء الخامس". عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.