بقلم: دوغلاس جونسون مؤرخ بمدرسة لندن للإقتصاد والعلوم السياسية المقدمة: فى واحدة من الإصدارات التى نشرت فى الأسبوع الذى أعقب الإحتفال بمرور عام على إستقلال جنوب السودان فى التاسع من يوليو، تفحص المؤرخ دوغلاس جونسون "السياسة نحو الجنوب" التى تعهدتها الإدارة الإستعمارية البريطانية، والتى ساهمت فى إحداث الشرخ ما بين شمال السودان وجنوبه، وقد تم نشرها فى البدء فى صحيفة "ذى بايونير" العدد 7-13 من أغسطس 2010. نص الورقة: إن السياسة نحو الجنوب المنتهجة بواسطة إدارة الإحتلال المصرى البريطانى فى السودان، تم تحميلها الكثير من الجرائر، سياسيون، صحفيون، ومواطنون عاديون إدعوا مراراً أن الإدارة قد تعمدت من خلالها التعامل مع الجنوب كإقليم منفصل عن الشمال، بحيث يتم بها عزل العرب والمسلمين، وبالتالى عزل التأثير العربى الإسلامى عن الجنوب. وذلك من خلال خلق حظيرة عشائرية بالجنوب، كما أنها حافظت عليه متخلفاً. لكن ماهى "السياسة نحو الجنوب"؟، وكم كان عمرها من الزمن؟، وماذا كانت آثارها؟. . إن الحملة لإعادة فتح السودان قد تمت لتمكين مصر من إستعادة نفوذها على مستعمرتها السابقة بواسطة الجيش الذى قضى على الدولة المهدية فى 1898، والذى كان فى معظمه جيشاً مصريا معززا بفرق مشاة سودانيين بصحبة الضباط الإنجليز. وإن هذا الجيش فى وقت لاحق قد تمخض عن الكادر الإدارى الذى قام بالإشراف على إدارة البلاد، فقد تقلد الضباط الإنجليز إدارة الأقاليم بينما عمل صغار الضباط المصريين والسودانيين كمأمورين ونواب للمأمورين، وكموظفين بالخدمة المدنية (وفق مصطلحات اليوم). . فى الشمال تم تحقيق الإستقرار فى وقت قصير نسبياً، إذ تم التحول مبكرا من الإدارة العسكرية إلى المدنية مصحوبا بتعيين أعداد من المدنيين البريطانيين والسودانيين فى وظائف إدارية. لكن التحول فى الجنوب قد تطلب المزيد من الوقت وذلك لإختلاف الرؤية لدى الجنوبيين الذين لم يكونوا ينظرون للقوات الفاتحة المتقدمة كقوات تحرير، لأنهم، أى الجنوبيون، قد سبق لهم التحرر فى وقت سابق من قبضة دولة المهدى الدينية. وقد كان على القوات القادمة أن تواجه مقاومة أطول بجنوب السودان عنها فى شماله، بل أن آخر المعارك التى كان على البريطانيين خوضها فى أفريقيا قد كانت ضد النوير فى 1927-1930. وكانت واحدة من مخرجات هذه الحرب أن ظل الجنوب خاضعاً للإشراف العسكرى وللمصالح العسكرية، طوال سنوات العقد الثالث من القرن العشرين.هذا بينما فى نفس الوقت، فى الشطر الآخر من البلاد، كان السودانيون يتلقون تأهيلهم فى كلية غردون التذكارية (لاحقا جامعة الخرطوم)، لتقلد وظائفهم بالخدمة المدنية الآخذة فى الإتساع. ففى الجنوب كان القرار قد أتخذ أن قليلا من الجنوبيين ذوى التعليم المعقول، هو كل ما تحتاجه الإدارة البريطانية هناك لتقلد بعض المهام الوظيفية، إذ ظل الإنفاق على التعليم محدودا جدا. . عنصران رئيسيان كانا قد خضعا للتغيير فى القرن العشرين وتمثلا فى: التوسع فى الإدارة الأهلية، وإستبعاد الجيش المصرى من السودان. الإدارة الأهلية، أو الإدارة بالوكالة، قد تم التأسيس لها من خلال إقرار الزعامات العشائرية فى الأرياف والمحليات. وقد شمل ذلك الإقرار كافة الأقاليم الشمالية والجنوبية على السواء. فبينما كانت الشريعة معمول بها بالشمال كقانون لتنظيم الأحوال الشخصية والعلاقات الأسرية، تم إلحاقها بالأعراف والتقاليد المحلية. أما فى الجنوب فقوانين الشريعة لتنظيم العلاقات الشخصية قد كان معمول بها فى المدن التى يغلب المسلمون على سكانها، أما الأعراف المحلية والتقاليد التى تطبق من خلال محاكم السلاطين، فقد أصبحت الآن الأساس لنظم الإدارة المحلية. بموجب إقرار الإدارة الأهلية ومنذ العام 1921 قلت الأهمية لوظيفة المأمور، وأصبحت مهمته زائدة عن الحاجة، فمع إستبعاد الضباط المصريين، والذى كان قد أعقب إندلاع ثورة "اللواء الأبيض" فى الخرطوم فى العام 1924، وتكوين جيش مستقل للسودان تحت مسمى "قوة دفاع السودان" كمؤسسة كاملة الإستقلال عن مصر، ساهم ذلك من جديد فى تضاؤل مهمة المأمور إفتراضا (لكن ليس بالكامل) فى المناطق الريفية. كان جميع من تبقوا فى الوظائف سودانيين بلا إستثناء. أما الجنوبيون فقد كانوا قلة يخدمون فى وظائف إدارية صغيرة خارج المدن الرئيسية حتى وقت متأخر. . كانت إذن الإدارة الأهلية هى السياسة التى تم تعميمها على كافة أنحاء البلاد. فقد إعتمدت إدارة الأرياف بصورة متزايدة على الأعراف والتقاليد واللهجات المحلية. رغم كونه نظاما واحداً لكنه كان يقر تطوير التباينات العشائرية. فى الجنوب كان يعنى ذلك تشجيع التنمية جنبا إلى جنب مع الطقوس والأعراف، والتى فى معظمها لم تكن قد تأثرت بالإسلام. هذا النظام الذى يقوم على الإدارة الأهلية بالجنوب قد تم تدعيمه ب"قانون المناطق المقفولة"، والذى كان قد بدأ العمل به فى العام 1922. فقد إعتمدت معظم الإدارات الإستعمارية تحت التاج البريطانى على إقرار مثل هذا القانون بالمستعمرات والمناطق التى تحتاج للحماية من الأنشطة الإقتصادية، وأحيانا السياسية، التخريبية. فإن بعض المناطق الحدودية فى شرق أفريقيا قد تم إعلانها كمناطق مغلقة لمواجهة أعمال السلب والإعتداء التى كانت تتعرض لها. ففى السودان قد تم تبنى ذلك فى بعض المناطق كوسيلة لمكافحة تجارة الرقيق التى كانت مازالت تنشط فى ذلك الوقت، وخلال الأعوام التى أعقبت العام 1920، وهى التجارة التى تعهدت مصر وبريطانيا، كعضوتين فى عصبة الأمم، بالعمل على مكافحتها. لذلك فإن معظم مناطق الجنوب (بأستثناء مقاطعة الرنك)، وبعض مناطق النيل الأزرق، جبال النوبة، ودارفور قد أعلنت جميعها كمناطق مقفولة، وأن الأشخاص من خارج هذه المناطق عليهم الحصول على تراخيص إن أرادوا العبور إليها. فى الوقت الذى ظلت فيه حركة الإنتقال فيما بين المقاطعات بواسطة الأشخاص المحليين خاضعة لسلطة الإدارات الأهلية. . فى العام 1930 تم تضمين كافة أوجه الأداء الإدارى فى مذكرة سياسية تم إصدارها بواسطة السكرتير الإدارى بالخرطوم "لبناء سلسلة من الوحدات العشائرية المستقلة من خلال هيكل تنظيمى، بقدر ما تسمح به متطلبات العدالة والحكم السليم، على أساس الأعراف والعادات المحلية والمعتقدات، كان ذلك يعنى بالضرورة عملية تقليص أكبر لمهمة المأمور، وإعتماد اللهجات المحلية فى الإدارة وتطوير القوانين إعتمادا على تلك الأعراف، وتطبيقها من خلال شبكة من محاكم السلاطين والأمراء، والإعتراف بحدود للسيادة العشائرية. وكان مؤدى ذلك أيضا أن التجار غير العرب، من الأغاريق والأرمن والمسيحيين اللبنانيين كانوا يحظون بحرية وحظوظ أوسع. . إتخذت السياسة نحو الجنوب عدة تفسيرات وملامح متغايرة فى الأقاليم المختلفة، ففى بحر الغزال ذهبت الإدارة البريطانية هناك لإتباع سياسات أكثر تشددا للدرجة التى جعلتهم يعلنون بعض المناطق كمناطق محرمة (No Man's Land)، حول كافاكنجى، وذلك لإقصاء أهالى دارفور وإقصاء الشخصيات ذات الأسماء العربية. هذه السياسة المتشددة وتطبيقها الذى إعتمد على الذراع الحديدى، قد ذهبت لأبعد مما كان يهدف إليه السكرتير الإدارى، وقد كان ذلك مدعاة للصدمة لدى الكثيرين، بما فيهم إداريون بريطانيون فى مناطق أخرى من الجنوب. إن أنموذج بحر الغزال المتشدد، لطالما تم تجريده كمثال للسياسة نحو الجنوب، لكنه فى الحقيقة أبعد ما يكون كذلك. . إستمرت السياسة نحو الجنوب لمدة ستة عشر عاما متتابعة، إلى أن تم الإقلاع عنها فى العام 1946، عندما تبنت حكومة الإنتداب سياسة الحكم الذاتى وتقرير المصير لكافة أقاليم السودان، وذلك للحيلولة دون تمكن المصريين من إعادة بسط سيطرتهم على مستعمرتهم القديمة. لكن السؤال يبقى، عماذا تمخضت سياسة الستة عشر عاما تجاه الجنوب؟.. . هل تعنى السياسة نحو الجنوب، أن الجنوب قد تمت إدارته بصورة منفصلة عن الشمال؟ .. لا ليس صحيحا.. فقد كانت الأقاليم الجنوبية جزءا لا يتجزأ من النظام الإدارى الموحد بالسودان، فشمال السودان وجنوبه يشترك فى إدارتهما نفس الكادر الإدارى، ويخضعان لنفس اللوائح الإدارية. إن السياسة نحو الجنوب قد كانت إمتدادا منطقيا لمبادئ الإدارة الأهلية التى تقوم على الأعراف والتقاليد العشائرية، وإن كانت العادات والتقاليد فى الجنوب تختلف عن عادات وتقاليد المجتمعات المسلمة فى الشمال. إن تلك السياسة قد سمحت بل وشجعت على تعدد وتباين الثقافات والتقاليد العشائرية. . هل أقصت السياسة نحو الجنوب كافة المسلمين عن جنوب السودان؟ ..لا فلقد كان هناك العديد من المسلمين داخل المجتمعات المحلية نفسها بالمدن الرئيسية بالجنوب، على سبيل المثال الرنك وكدوك، وملكال، واو ورمبيك وجوبا وجميعهم لم يتضرروا من هذه السياسة. . هل كان المواطنون الشماليون جميعهم ممنوعين عن دخول الجنوب؟.. لا .. فإن الرعاة من الرزيقات والمسيرية وقبائل بنى سليم ورفاعة ظلوا يعبرون الحدود فى رحلاتهم المؤسمية، وكانوا على إختلاط مستمر مع القبائل المجاورة للحدود. المواطنون الشماليون فى الأقسام الفنية المتعددة كالسكة الحديد والبواخر النيلية، كانوا لا يزالون يعملون بالجنوب، كما لم يتم الإستغناء عن جميع المأمورين، فقد خدم إثنان من أبناء الخليفة عبد الله كمأمورين فى أعالى النيل، وإن إبراهيم بدرى المنتسب للأسرة التى قامت بتأسيس الجامعة الأهلية بأمدرمان، قد خدم كمأمور بمدينتى يرول والرنك، فقد كان الأخير يجيد التحدث بالدينكاوية، وقد تدرب على يده إداريون جنوبيون كان أشهرهم كلمنت أمبورو. كما أن تجارا آخرين ينتمون لعائلات بالعاصمة المثلثة، قد ظلوا ينشطون فى التجارة داخل الإقليم فى المدة التى كانت تسرى فيها السياسة نحو الجنوب. . هل حرصت السياسة نحو الجنوب على الفصل التام بين الشماليين والجنوبيين؟.. ريما لحدٍ ما.. فإن السياسة نحو الجنوب لم تقم ببناء مؤسسات موحدة للإداريين السودانيين، بحيث يتدربون فى نفس المؤسسات ويعملون مجتمعين فى كافة أنحاء البلاد. إن قرار حكومة الإنتداب بتقليص أعداد الإداريين الجنوبيين فى الخدمة المدنية قد تم إتخاذه فى وقت مبكر من القرن العشرين، وأن السياسة نحو الجنوب لم تفعل الكثير لتعطيل العمل بذلك القرار. . هل عملت السياسة نحو الجنوب على الحفاظ على الجنوب متخلفا؟ .. إن السياسة نحو الجنوب هى إحدى أعراض الإهمال الحكومى الإقتصادى لكافة أرياف السودان، لكنها لم تكن من مسببات ذاك الإهمال. فإن أصقاعا كثيرة بالسودان الشمالى قد ظلت متخلفة تحت سلطة الإدارة الأهلية. . عليه فإن السياسة نحو الجنوب قد شكلت ملامح مرحلة محدودة من تاريخ حكم الإدارة الأستعمارية البريطانية للسودان، وأنها ربما ساهمت فى توطيد الفوارق فيما بين إنسان الشمال وإنسان الجنوب، لكنها لم تخلق تلك الفوارق على أيه حال، كما أنها لا تتحمل كل اللوم عن الحروب الأهلية التى أعقبت إعلان الإستقلال. . حررها: دوغلاس جونسون (London School of Economics) عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.