تتمركز الحركة الحوثية الزيدية الحديثة، التي يتزعمها حالياً الشاب المحارب عبد الملك بدر الدين الحوثي (36 سنة) في محافظة صعدة، التي تقع في الجزء الشمالي الغربي من الجمهورية العربية اليمنية على مقربة من حدود منطقة عسير في المملكة العربية السعودية. وعُرفت منطقة صعدة تاريخياً بأنها البؤرة التي تحتضن حركات التمرد ضد الأئمة الحاكمين في صنعاء لتخلع الحاكم القديم وتأتي بحاكم جديد تمرد على سلفه، وقد قتل الكثير من الأئمة الزيديين عبر مئات السنين على يد هذه الحركات المتمردة التي قادها طالبو الخلافة في صنعاء. وعُرفت قبائل المنطقة من حاشد وبكيل وخولان وسنحان في محافظات الشمال الغربي (الجوف وصعدة وعمران وحجة) بشجاعتهم وشدة بأسهم وشراستهم في القتال وحبهم لاستباحة المدن التي يدخلونها عُنوة تحت الدعوة لإمام جديد. فما قام به الحوثيون بعد ثورة فبراير 2011 الشبابية التي شاركوا فيها ضد الرئيس علي عبد الله صالح، من الانقضاض على السلطة الجديدة برئاسة عبد ربه منصور هادي بناءً على المبادرة الخليجية هي تراث زيدي عريق منذ نشأة الإمامة على يد الإمام الهادي يحي بن الحسين في نهاية القرن التاسع الميلادي. والزيدية هم فكراً أقرب المذاهب الشيعية لأهل السنة، فهم لا يسبون الصحابة ويجوزون إمامة المفضول مع وجود الفاضل ( تصح عندهم خلافة كل من أبي بكر وعمر وعثمان مع أن الأفضل هو علي بن أبي طالب)، ولا يعتقدون في التقية بل يدعون إلى الخروج علانية على الحاكم الظالم، ولا يؤمنون بتحريف القرآن ولا بالتفسير الباطن له، ويتفقون في مسائل الأصول مع أهل السنة. ومن أشهر علمائهم محمد بن إسماعيل الصنعاني صاحب كتاب "سبل السلام" ومحمد علي الشوكاني صاحب كتاب "نيل الأوطار" المشهور، وكلاهما تدرس مؤلفاتهم في أعرق الجامعات الإسلامية السنية. الأب الروحي للجماعة الحوثية الحديثة هو بدر الدين بن أمير الدين بن حسين الحوثي (1926-2010)، يُعد من أبرز المراجع الفقهية للزيدية في منطقة صعدة التي عمل فيها سنوات طويلة في مجال التدريس والوعظ وإمامة الصلاة، وهو والد كل من حسين الحوثي ويحي الحوثي وعبد الملك الحوثي القائد الحالي لإنقلاب الحوثيين أو جماعة أنصار الله. أُعجب الشيخ بالثورة الإيرانية فسافر مع ابنه الأكبر حسين (1959-2004) إلى طهران وعاش فيها عدة سنوات، ثم إلى لبنان حيث التقيا بزعماء حزب الله الذين افتتن بهم الشاب حسين وعزم على محاكاة تجربتهم في اليمن، ويقال أن حسين نال درجة الماجستير في العلوم الشرعية من السودان! ساهم حسين في تأسيس حزب الحق ذو الميول الشيعية وترشح باسمه في دائرة صعدة سنة 1993 وفاز بالمقعد البرلماني، وعندما سافر إلى صنعاء ذهب معه أخاه الأصغر عبد الملك (1979 ...) ليكون حارسه الخاص وسكرتيره الذي يعينه في أعماله البرلمانية. وتعرف الشاب عبد الملك عن كثب في تلك السنوات (1993-97) على السياسة اليمانية وبعض شخصياتها وحيلها وتعقيداتها، وعندما أشعل الحزب الاشتراكي اليمني عام 1994 بقيادة علي سالم البيض الحرب على صنعاء بقصد فصل الجنوب المضطهد انحاز له حسين الحوثي بل إن بعض الحوثيين حاربوا لجانب البيض وبقوا بالجنوب إلى اليوم، فجرّ عليه ذلك الموقف غير الحكيم تهمة تأييد الانفصال مما أدى إلى حرق أوراقه السياسية عندما هُزم البيض في تلك الحرب ولجأ إلى دولة الإمارات. وبنهاية الدورة البرلمانية ترك حسين حزب الحق ولم يترشح مرة ثانية في انتخابات 1997، وتفرغ لتأسيس "حركة الشباب المؤمن" (أصبحت فيما بعد أنصار الله) التي اتبعت تدريبات وتكتيكات حزب الله اللبناني. ولكن مقعد صعدة لم يخرج من الأسرة فقد فاز به أخوه يحي الحوثي (1961 ...) في انتخابات 1997 وانتخابات 2003 ولكن تحت لافتة حزب المؤتمر الشعبي العام الذي يترأسه علي عبد الله صالح، مما يدل على براجماتية قُحة تشبه السياسة السودانية! ودخلت الحركة الحوثية بقيادة حسين عند مطلع القرن الحادي والعشرين في تعبئة شعبية ومظاهرات احتجاجية ضد حكومة علي عبد الله صالح بسبب الأوضاع البائسة في منطقة صعدة من فقر وقلة في الخدمات وتمييز ضد أهلها وضد مذهبها الزيدي، وذلك بدعم بعض العلماء والمدرسين السلفيين في المنطقة بواسطة الحكومة اليمنية والسعودية. وتعاطف الناس مع حسين لأنه يدافع عن قضيتهم ويقدم لهم بعض الخدمات مثل توفير مياه الشرب النظيفة وادخال الكهرباء في المدينة وإقامة بعض المدارس للأطفال. وأصبح الشعار الذي أطلقه حسين للحركة الحوثية " الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة لليهود، النصر للإسلام" يجد قبولاً واسعاً وسط شباب المنطقة.أعتقلت الحكومة مئات المتظاهرين في صنعاء من أتباع حسين، وأوقفت مرتبات المدرسين الذين يعملون معه ثم أرسلت قوة لاعتقاله متهمة إياه بمحاولة الانقلاب على النظام الجمهوري وإعادة الإمامة الزيدية بدعم إيراني. وتطورت الاحتجاجات الشعبية إلى اشتباكات مسلحة في سبتمبر 2004، قُتل فيها حسين الحوثي بالقصف الجوي ورفضت الحكومة تسليم جثته لأهله وما تسلموها إلا بعد ثورة 2011. وتولى عبد الملك الحوثي قيادة الحركة الحوثية بعد مقتل أخيه بوصية منه. واستمرت الحرب سجالاً بين الحكومة والحركة الحوثية لعدة سنوات عبر معارك متقطعة: كانت المواجهة الثانية في (مارس-مايو 2005)، والثالثة (نوفمبر-يناير 2005-2006)، والرابعة (يناير-يونيو 2007)، والخامسة (مارس-يوليو 2008)، والسادسة (أغسطس 2009- فبراير 2010). وصحبت الأخيرة اشتباكات مع حرس الحدود السعودي قتل فيها عدد من جنودهم. واُتهمت الحركة الحوثية بأنها تتلقى دعماً عسكرياً مقدراً من ايران لتستمر كل هذه المدة في الحرب ضد الحكومة اليمنية، وهذا اتهام تعضده مؤشرات عديدة. وجاء في احصاءات غير رسمية أن صراع الحوثيين مع الحكومة تسبب بمقتل 20 ألف جندي و 10 ألف جندي معوق ومقتل 30 ألف من المدنيين ونصف مليون من المهجرين والنازحين. ولابد أن مثل هذه الضحايا الكثر ستوغر صدور كثيرين من أهل المنطقة ضد الحكومة التي تأتي بجنودها من صنعاء وما حولها لتحارب أبناءهم في عقر دارهم. ولم تستطع الحكومة أن تسحق الحركة كما لم تستطع الحركة هزيمة القوات الحكومية. وفي تلك الظروف المضطربة اندلعت ثورة الشباب ضد حكومة علي عبد الله صالح في فبراير 2011 بقصد إسقاط النظام كما سقط في تونس ومصر، فوجه عبد الملك أتباعه بالمشاركة في الاحتجاجات مع كل المكونات الشعبية بما فيهم خصومه التقليديين حزب المؤتمر اليمني للإصلاح، وذلك بعد أن بدأ له أن الثورة قد تنجح في إسقاط حكومة علي عبد الله صالح. وشاركوا في مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد في مارس 2013 وتوصل إلى وثيقة اتفاق عام، وانتزعوا اعتذاراً رسمياً من الحكومة المؤقتة عن حروب الجيش لهم في صعدة، ووقفوا مع الحراك الجنوبي برفض فكرة تقسيم اليمن لستة أقاليم وطالبوا معهم بدولة اتحادية من اقليمين فقط الشمال والجنوب، كما رفضوا المبادرة الخليجية ولم يوقعوا عليها بحجة أنها لا تحقق مطالب الثوار. ويبدو أن علي عبد الله صالح اتصل بقيادة الحركة الحوثية في هذه المرحلة أو قبلها بقليل عندما شهد تأييدهم الواسع في الشارع اليمني بعدد من المناطق، وكأنما أُبرم تحالف عسكري سياسي بين الطرفين ليقوم صالح بتوجيه كبار الضباط الموالين له بعدم مواجهة الحوثيين وفتح المجال لهم لاستلام المواقع العسكرية والأمنية في معظم المناطق والمعسكرات، ويقتسمان السلطة بعد ذلك. فقاد عبد الملك الاحتجاجات الشعبية ضد الحكومة المؤقتة برئاسة عبد ربه منصور هادي لأنها ضعيفة وغير منسجمة ولا تمثل طموحات الثوار، ولقي هذا الطرح الثوري تأييدا واسعاً من الجماهير، ولكنه بدأ يتغير عندما صار جلياً أن الحركة الحوثية تريد السيطرة على كافة اليمن بعد أن زحفت من مناطقها التقليدية في صعدة وحجة إلى عمران ثم صنعاء إلى إب وذمار والحديدة والبيضاء إلى مأرب وعدن. وأحسب أن الهجوم على الجنوب كان هو السبب الرئيس الذي حفز المملكة العربية السعودية للتدخل العسكري المباشر بعاصفة الحزم ضد سيطرة الحوثيين على اليمن، وفعلت ذلك دون سند من مجلس الأمن أو قرار مسبق من الجامعة العربية، ولم يسبق للسعودية أن أقدمت على مثل هذا العمل الخطير. ولعلها وجدت نفسها مضطرة بعد أن تمدد النفوذ الإيراني من حولها إلى كل من العراق وسوريا ولبنان، فلا يمكن أن تقبل بأنيأتي إليها من اليمن ليحيط بها أيضاً من الجنوب والغرب، ويتحكم في أهم ممرين للتجارة الدولية من حولها مضيق هرمز في الخليج الفارسي وباب المندب على مدخل البحر الأحمر، وذلك بعد أن أصبح واضحاً أن مظلة التأمين الأمريكي ما عاد يعتمد عليها لكل دول الخليج العربي. (ونواصل إن شاء الله في حلقة قادمة). عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.