كانت منطقة جبال صعدة التي احتضنت تمرد الحوثيين في السنوات الخمس الماضية، هي مركز تأسيس الدولة الزيدية قبل أحد عشر قرناً، حين جئ بالإمام الهادي يحيى بن الحسين من مكة ليؤسس الدولة «وهي أطول إمامة في التاريخ الإسلامي إذ حكمت منذ 897م وحتى عام 1962م حين انقلب عليها قائد الحرس الملكي عبد الله السلال بدعم عسكري مصري». وأثناء هذه الفترة أصبحت محضناً للانقلابات العديدة ضد الأئمة الزيدية تأييداً لإمام زيدي جديد يدعي الأهلية أكثر من الذي سبقه. ومازالت محافظة صعدة مركز قوة للشيعة الزيدية، إذ فاز فيها اثنان من حزب الحق الزيدي في انتخابات 1993م، أحدهما حسين بن بدر الدين الحوثي الذي قاد الثورة المسلحة ضد حكومة الرئيس علي عبد الله صالح في 2004م. وبدأت الحركة الحوثية الجديدة باهتمامات فقهية وثقافية منذ الثمانينيات حين تم إنشاء «اتحاد الشباب» في صعدة من أبناء الزيديين الذين كان العلامة بدر الدين الحوثي أظهر من تولى تدريسهم الفقه الزيدي، كما قام ابنه الأكبر محمد بتدريسهم مقرراً عن الثورة الايرانية. واتضحت الاهتمامات السياسية لأسرة الحوثي الهاشمية النسب حين عارض السيد بدر الدين الحوثي بقوة فتوى المرجع الزيدي الأبرز مجد الدين المؤيدي الذي قال بأن شرط النسب الهاشمي للإمامة ما عاد مقبولاً في هذا الزمن، وقد حدث ذلك في الماضي لظروف تاريخية معينة، ويمكن للشعب اليوم أن يختار من هو جدير بحكمه دون شرط أن يكون من نسل الحسن أو الحسين «تتفق الفتوى مع مقولة الإمام زيد بن علي بجواز خلافة المفضول مع وجود الفاضل». وبدأ بدر الدين الحوثي يدافع بصراحة عن المذهب الاثني عشري وألف كتاباً يشرح فيه أوجه التقارب بين المذهب الزيدي والاثني عشري، ونظراً لمقاومة فكره بين علماء الزيدية، هاجر إلى إيران وعاش فيها عدة سنوات ازداد فيها قرباً من الشيعة الإمامية ومن فكرهم السياسي. وعندما سمح الدستور اليمني بالتعددية الحزبية في أعقاب الوحدة بين شمال اليمن وجنوبه في 1990م، شاركت أسرة الحوثي في تأسيس حزب الحق الذي صار يمثل الشيعة الزيدية في اليمن، ولكن حسين بدر الدين الحوثي الذي كان من المؤسسين لحزب الحق وفاز باسمه في انتخابات 1993م، اختار أن ينشق عنه ويكون جماعة خاصة به في عام 1997م تحت مسمى «تنظيم الشباب المؤمن» حتى يعدها لمهمة أخرى غير العمل السياسي السلمي الذي يمارسه حزب الحق. وتبنى التنظيم منذ 2002م شعاراً يردده عقب كل صلاة يحمل نكهة الثورة الإيرانية «الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام»، واعتبرت الحكومة اليمنية أن الشعار يمثل معارضة معلنة للسلطة واستفزازاً لسياستها المتعاونة مع الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، فمنعت ترديد الشعار في المساجد مما أذن ببداية المواجهة بين الطرفين. وخرجت الجماعة في مظاهرات ضخمة عام 2004م مناهضة للاحتلال الأمريكي على العراق، فواجهتها الحكومة بشدة، واتهمت الحوثي بأنه يدعي الإمامة والمهدية، وفي يونيو من نفس العام حاولت الحكومة أن تستأصل الحركة الحوثية في قواعدها بمنطقة صعدة، فحشدت لها حوالي «30» ألف عسكري وقصفت تجمعاتها بالطائرات والصواريخ والمدفعية الثقيلة. وقتل حسين الحوثي في تلك المواجهة، فتولى أبوه بدر الدين القيادة لفترة قصيرة قبل أن تؤول إلى الابن الأصغر عبد الملك الحوثي الذي مازال يتولى قيادة الجماعة. وقد قامت دولة قطر بوساطة بين الطرفين في عام 2008م عقدت بموجبها اتفاقية سلام تعهدت فيها الحكومة اليمنية بإعمار المنطقة بمساعدة من قطر، وانتقل على أثرها يحيى الحوثي وعبد الكريم الحوثي إلى قطر، مع تسليم أسلحتهم للحكومة، ولم يدم ذلك الاتفاق طويلاً. والحرب الدائرة حالياً هي سادسة المواجهات ضد القوات الحكومية منذ 2004م، تهدأ فترة ثم تشتعل مرة أخرى، وقتل في تلك الحروب ما لا يقل عن ستة آلاف شخص من الطرفين. وفي الحرب الأخيرة تدخل الجيش السعودي بقوة ضد جماعة الحوثيين بحجة أن بعض مقاتليهم وصلوا إلى الحدود السعودية، وربما دارت مناوشات بينهم وحرس الحدود السعودي، واستمر القصف السعودي بالطائرات والمدفعية الثقيلة لأكثر من أسبوع حتى بعد تأمين حدودهم، مطالبين الجماعة بأن تنسحب عشرات الكيلومترات داخل الأراضي اليمنية. وأراد الرئيس علي عبد الله صالح أن تكون هذه الحرب هي الأخيرة التي يجتث فيها الحوثيين من أرض اليمن، وتوعده الحوثيون بحرب استنزاف طويلة المدى. ويبدو التنسيق واضحاً بين عمليات الجيش اليمني في الجنوب والجيش السعودي في الشمال. وتقول جماعة الحوثيين إن ما دفعها لحمل السلاح ضد الحكومة هو ضيق الحريات ومنعهم من نشر مذهبهم الفكري، وتهميش مثقفي الطائفة الزيدية، وإهمال وفقر مناطقهم، ويطالبون باعتماد المذهب الزيدي مذهباً رئيسياً في البلاد إلى جانب المذهب الشافعي، وبتدريس المذهب الزيدي في كليات الشريعة، وبحقهم في تأسيس حزب سياسي مدني، وإنشاء جامعة معتمدة لأبناء الطائفة الزيدية. ومن الجانب الآخر تتهمهم الحكومة بأنهم يسعون لإقامة حكم رجال الدين وإعادة الإمامة الزيدية، وأنهم يرتكبون جرائم الخطف وقطع الطريق وترهيب الناس والتدخل في أعمال السلطة المحلية، وأنهم مدعومون من قبل إيران ومقتدى الصدر في العراق وحزب الله في لبنان، جامعة كل أعداء أمريكا بالمنطقة في سلة واحدة! وربما أدى ذلك مفعوله لتعطي أمريكا الضوء الأخضر للسعودية فتشن غاراتها على الحوثيين من الشمال والغرب، وقامت مصر بتحذير مبطن لإيران بألا تتدخل في شؤون البلاد العربية. ونفى وزير خارجية إيران منوشهر متكي تدخل بلاده في اليمن، وأبدى استعداده للتوسط بين الحكومة وجماعة الحوثيين، وحذَّر في نفس الوقت دول المنطقة «يعني السعودية» من التدخل في شؤون اليمن. واستطاعت جماعة الحوثيين الثبات في وجه الجيش اليمني النظامي بعدته وعتاده طيلة هذه السنوات الخمس بسبب العصبية الطائفية التي تشكل سنداً لها من قبائل المنطقة، وطبيعة جغرافية المنطقة الجبلية الوعرة التي ترتفع في بعض الأماكن لأكثر من «2500» متر مما يصعب على القوات المتعقبة أن تقتحمها، كما أن حالة الفقر وقلة الخدمات وارتفاع نسبة البطالة بين الشباب والعمال العائدين من السعودية أعطت الجماعة تأييداً عاماً وسط أهالي منطقة صعدة، ولا بد أنها تتلقى سنداً مادياً وعسكرياً من إيران سواء جاء السند من الحكومة مباشرة أو من بعض المراجع الدينية المتنفذة. ولا يبدو أن الجيش اليمني في حالة معنوية عالية حتى يحارب بجانب نظام طال بقاؤه في الحكم دون أن يحقق الكثير، وتحيط به تهم الفساد والمحسوبية من كل جانب، وهو موزع بين الحرب في جبال صعدة وبين حراسة الأوضاع المتوترة في جنوب البلاد التي بدأ أهلها يتململون من سيطرة صنعاء ويريدون الانفصال عنها. ولا تخرج حرب اليمن من حالة صراع النفوذ الذي يسود في منطقة الشرق الأوسط على المستوى الإقليمي والدولي، فإيران تريد أن تبشر بثورتها الإسلامية حتى تكون نموذجاً يُحتذى، كما تشعر أن من واجبها رفع الظلم عن الشيعة المستضعفين في السعودية والبحرين والكويت واليمن. وتشجعت إيران بعد سقوط نظام صدام حسين أن تنتقل من الدعم السياسي والمادي إلى دعم عسكري في بعض الأماكن المختارة التي توجد فيها طوائف شيعية أو مقاومة شعبية ضد إسرائيل مثل العراق وسوريا ولبنان وغزة وأخيراً اليمن، وأغراها أن سياساتها المناهضة لإسرائيل وأمريكا تجد قبولاً واسعاً في الشارع السني على امتداد الوطن العربي. وبدأت السعودية تشعر بالمحاصرة الشيعية لها من داخل أراضيها في المنطقة الشرقية ومن العراق في الشمال ومن إيران نفسها في الشرق، والآن من جنوبها في اليمن، وأن السياسة الإيرانية المصادمة لإسرائيل وأمريكا تظهر السعودية وكأنها دولة تابعة لا تستطيع أن تدافع عن حقوق العرب والمسلمين. وفي مثل هذه الأجواء المضطربة في المنطقة ما عادت السياسة الناعمة التي تتبعها السعودية بتقديم القروض والمساعدات المادية مجدية كثيراً، فأرادت أن تثبت لأول مرة أن لها سنوناً حادة يمكن أن تكشف عنها إذا دعا الحال دفاعاً عن نفسها وجيرانها، رغم عدم استلطافها لسياسات علي عبد الله صالح المستقلة، بل والمتعارضة أحياناً معها. أما مصر فقد كان موقفها معادياً للثورة الإيرانية منذ قيامها، وبدأ ذلك في عهد الرئيس السادات الذي استضاف شاه إيران بعد أن لفظته حليفته أمريكا، وسار الرئيس حسني مبارك على ذات النهج، وزاد عليه بأن دعم صدام حسين في حربه العبثية ضد الجمهورية الإسلامية في إيران. وتقف كل دول الخليج موقفاً متوجساً من إيران وقريباً من موقف السعودية ومصر، دون أن تخاطر بالدخول في مواجهة مع إيران التي أصبحت القوة السياسية والعسكرية الكبرى في الخليج. وتحاول الولاياتالمتحدة من جانبها أن تجذب الدول العربية خاصة الخليجية إلى جانبها في أية مواجهة عسكرية محتملة ضد البرنامج النووي الإيراني، ولكن السياسة الأمريكية الداعمة لإسرائيل وحكومتها اليمينية المتطرفة، تجعل التحالف معها أمراً غير مبرر أمام الشعوب العربية، ويحمل مخاطر سياسية جمة لكل من يقف في صف واحد مع إسرائيل وأمريكا ضد إيران، كما أنه ليس من مصلحة إيران أن تدخل في مواجهة مع الغرب قد تصل إلى درجة الحرب ضد برنامجها النووي، وفي ذات الوقت ترتكب أعمالاً استفزازية وتخريبية ضد بعض الدول العربية مثل اليمن والسعودية والبحرين. وقد يكون من الحكمة في هذه المرحلة أن تدخل قطر على الخط مرة أخرى حتى توقف الحرب اليمنية بين الطرفين المتقاتلين، وتصلح ما بين اليمن وإيران، وتنزع فتيل الأزمة قبل أن تتفاقم وتجر المنطقة كلها إلى حرب بالوكالة، نيابة عن الولاياتالمتحدة وإسرائيل.