عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. في طفولتيِ الباكرة، أصابني داءِِ الرَّمَدِ، فمُنيِّتُ بعيون حمراء قَانِية، كنتُ أنظر بها لأعين الآخرين البيضاء، فأضَمِِرُّ حسرة وتَمنِّي. كان البَيَاضُ هو اللون المُشتَهى، بَيَاضُ العيون الذي لم يمر بعينيّ يوماً وماعاد لي فيه رجاء. فتصبرتُ وقَنِعَتُ بنعمةِ الإبصارِ. الحمد لله، أن بصري الآن تَمام. أسوقُ به العربات، وأقرأ الصحف والكتب، وبه أختارُ لون القميص الذي يناسب البنطلون، وأتمتعُ بفنون ألوان التشكيل، منذ مطالع مملكة الصلحي وحتى معارِض الشباب الثائر النَّضيِر. بصري الذي أُعَايِنُ به للتلفزيون، وفي القنوات السودانية، تراني أدقق في وجوه المذيعات، في الوجوه الساعية بدأبِ نحو البياض، بياض البَشَرة الذي بات هو اللون المُشْتَهَى. إليه يتسابقن بلا رَأْفَة بأصلِ لون جِلدهن وعافيته ولا بالناظرين المساكين. مثلما العرائس في ليلة الزفاف يُروِّعنك بأقنعةِ الوجه البيضاء. وكَذَا في الحفلات، ترى المُغنيِّات الصاعدات والهابطات، وحولهن النساء والفتيات، يتدافَرن في ملحمةِ الخروج الكبير من ظلال اللون الأسود، نحو البياض المُرتجىَّ. ذاك ماكنتُ أراه في شاشة التلفزيون، وظننته مِنْ سوء الإضاءة وخلل التصوير. فخابَ ظنيِّ، بعدما تيقنتُ أن وراء ذاك السعيِّ النشط، صناعة قاتلة تتبعها تجارة رابحة، يتم الترويج لها بواسطة مذيعات- بقناعِ وجه أبيض- يستضفن خبيرات تجميل، وبطول الليل يثرثرن حول الوسائط الأنسب لكَشطِ السواد، وللإنتقال السَلِس نحو البياض. ثم رأيتُ، بعض المدافعات عن حقوق المرأة، بلا تَّرَوِّي، يمزجن عصر (الإستبياض)، بمثالب دولة الإنقاذ. وتلك غفلةِ مَنْ لم يعاين في حواشي التاريخ المُدون. فمنذ بزوغ (أسفار العهد القديم) في الشرق الأوسط، إلى صدور ( علاقات الرق في المجتمع السوداني) لمحمد ابراهيم نقد. وحتى ظهور الرقيق الأبيض في أركان العالم ثانية. يمور تاريخ شائك، مثقل بعُقدِّ جَمّة، جلية وخفية. تظللها الوان البشر، في مُجَادلة السواد والبياض، جدل السودان والبيضان، حرب الألوان، تاريخ سطوة القوة والقهر والتعدي، بمطالبه المادية والبشرية المباشرة، وبغطاء منظومته النظرية، بزخمِ لامتناه من المأثورات، تلقاها في الأديان والشعر والغناء ومنشورات مضابط الدول والحوليات الأكاديمية، وفي قصص الرحالة وأفلام السينما. وهذا قول يطول. قبل عقود من الزمان، قال الأفارقة الأمريكان (Black is beautiful)، قالوها وهم تحت وطء البيض الجائر، اللذين أقصوهم من مركز الحياة لهامشها ورديفها، ثم جعلوا يسخرون من سِحْناتهم والوانهم، بل يلعنون اليوم الذي أتى بهم لكوكب الأرض. (الأسود جميل) كان الهُتَاف الثقافي، الذي نادت به طلائع النخبة السوداء في أواخر الخمسينيات، نداء تصاعد تحت إلحاح الطَّوارئ التي تكاثرت حتى باتت مُزمِنّة. حين صار بعض السود، لايطيقون سواد بشرتهم، فجعلوا يخرجون من جِلدهم، بتبييض لونهم وتنعيم شَعرهم كإستجابة سالبة لمعيار جمالي أحادي أشاعه البيض، وإشارة رمزية لإختلال ميزان المُواطَنة. الأسود جميل، هي الوجه الآخر للأبيض الجميل، وجهان في معدن العملة العنصرية الشائنة البغيضة. هنا تحضرني، اللقطات الأولى الطريفة من فيلم (مالكوم إكس) وهو في شبابه، مثل كثير من الشبان السود، يسعى بدأبِ طريفِ لتغيير هيئته. ويحزنني مافُعِل بمايكل جاكسون ومافعله في ملامحه وحياته، ذاك الفتى الذي وُهبَ القبول في العالمين وهو لايزال طفلاً، بلونه الأسود وشعره الأجعد وأنفه الأفطس. وحين رحل، كان بلا لون او ملامح أو مذاق. مايكل جاكسون، كان قُرباناً لنذور الشرور التي إشتعلت مابين السود والبيض. للجاحظ رسالة شهيرة، كتبها أيام شَّعْواء الشعوبية، حين إحتدم صراع الأعراق في أركان الدولة العباسية، أسماها( فخر السودان على البيضان)، وهي مثل (الأسود جميل)، تشوبها عنصرية، مضمرة وجلية، وكلاهما كان حصيلة لتَضَّادِ الأعراق، وحيلة للدفع عن الذات، مِصَدّٰات تصاعدت، حين حُوصِر السواد...بالبياضِ. مِثلما البياض العربي الآن، يحاصرنا حِصار (السواد والرماد)...إنظر لهذا التشبيه!. حصارُ طال، حتى تَصبَّغَت بلونه، وجوه الكثير من النساء السودانيات.