وزير الداخلية المكلف يستعرض خلال المنبر الإعلامي التأسيسي لوزارة الداخلية إنجازات وخطط وزارة الداخلية خلال الفترة الماضية وفترة ما بعد الحرب    روسيا ترفض لتدخلات الأجنبية في السودان ومخططات تمزيقه    البرهان يودع سفيري السودان لمصر واثيوبيا "الفريق أول ركن مهندس عماد الدين عدوي والسفير الزين إبراهين حسين"    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    السودان..البرهان يصدر قراراً    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قرن على مولد "جمال محمد أحمد" .. بقلم: عبد الله الشقليني
نشر في سودانيل يوم 25 - 06 - 2015

هو الأستاذ / جمال محمد أحمد ، قرن مضى على مولده في سرة شرق (1915- 2015 ). قرية مُعذبة في السودان الشمالي ، نستأنس بذكراها ، وقد أخلدت إلى النسيان ، فجاء بها صاحبنا وزُفتْ إلى العالم الأول مجداً .قمر التاريخ يغيب وشمس المستقبل تتحدى الأضواء .
لا نعرف لسيدنا وصفاً دقيقاً ، فهو مجموعة مُبدعين اتفقوا أن يتكوّنوا في جسدٍ واحد ، يتنازعونه بينهم منذ الميلاد (1915) في الذكرى المائة لميلاده ، إلى أن تركت الروح لهم الجسد في ثمانينات القرن الماضي ، فأضحوا تماثيل ماثلة تكاد أنت تحس فيها الحياة و عيونها مفتوحة مُبصرة ، وروح صاحبها مُحلّقة في جلال ، وأنت تقرأ ...
(1)
تدخل معبد القراءة لنص من نصوص سيدنا " جمال " ، تتوقف الكائنات كلها عن المسير والركض والطيران والسباحة ، والنبض منك يكاد يتوقف ، أما الرئتان فهما اللتان يتمددان أو يتقلصان ، لا أحد يحسهما ، والجسد رافل في نعماء السُكون الطَرِب . ها أنت قد دخلت عالم " جمال " الساحر . صدق من قال قديماً " إن من البيان لسحر ".
تبلى كل الطرائق التي ينتهجها أصحاب النقد ، حين يجدون نصاً ، سبح وتمهل في طريقه للغة المستقبل . كل كلمة تخيرها صاحبها للمكان الذي يراها فيه ، في أكمل زينتها : المبنى قائماً في أزهى عِمارة للغة ، والمعنى يخاتل ، تحسبه بين يديك ، ولكنه يتسرّب من بين الأصابع .
في سينمائية مُترفة ، تجد عينيك معه والقلب أيضاً ، يستدعيك إلى بيوت مكتبات أصحابها بين سندس الجنان الثقافية الخُضر ، مما يحسبه المتعبدون مآلهم آخر المطاف . تدخل وتجده يصحبك معه يرافقك كتفاً بكتِف ، كضيف روح متألقة ، تجد أنك لا تقرأ ، ولكن تذوب في لُجين أنفاس المُحبين حين ينطق الرب بالمحبة الكُبرى .
(2)
اعتاد الأستاذ " جمال محمد أحمد " في منتصف عُمره المُبدع ، أن يجلس مساءً عند حديقة منزله وحيداً ، يجلس إلى طاولة ويكتُب بدم الروح عالماً ليس من السهل نسيانه .القليل من الأشربة و بعض الأطعمة ما يهيئ له مؤانسة نفسه ، فينطلق يكتُب . تحس أنت في أسفاره كلها أنه يجلس ليتعبد لا ليكتب . تلمح كلماته والأحرف فرحة بين يديه ، طروب تتقافزبين صويحباتها وقد عادهُنَّ الفرح والنضار، غير ما اعتاد أن يكتُب أنداده وأبناء جيله . كل جملة لوحة ، وسيناريو لقصة تتصور أنت كيف كانت وكيف ستصير في مُقبِل الأيام .
(3)
قال كاتب وروائي عن " جمال محمد أحمد " ( هو يكتُب برؤى غير عربية ) ! ، وأنا أعجبُ، إذ أن " جمال " مُتمكن حاذق اللُغتين ، غير ما قد سلف . ولكنك عندما تتفرس حياته وتاريخه ، وتعلم أنه كان مُمسكاً بلغة أم ٍ نوبيّة محليّة ،فيها التذكير والتأنيث على طرفا تماثُل كاللغة الإنجليزية . وهي وسيلة تندُّر لأصحاب لغة الأم العربية ( العامية)" من أن النوبيين يُخلطون التأنيث بالتذكير "، ولا يعلمون أنها مثل الإنكليزية تُخاطب أنتَ الأنثى والمذكر ب ( YOU ) . ولكن الحسرة ليست في معرفة أصل اللغات وفخامتها عند النوبيين أصحاب التراث اللغوي المتقدم ، ولكن أن نستدل بلغة أجنبية هي هجين لغات ، لنتعرف على فخامة تُراثنا الذي كانت الإنسانية لديه سابقة الأمم في المماثلة بين المذكر والمؤنث .
أين نحنُ من خطاب " جمال محمد أحمد " ؟ ، وأثره في تحرير اللغة العربية من الأمثلة المعروفة ، ومن رتابة التوقُع إلى دهشة الإيقاع والتصوير لديه ، أعطى الموجز إضافة فوق نهج " الجاحظ " ، واستعان بالتأخير والتقديم ، واللعب بالمشهد ، حتى لكأنك تحس عبق المكان وروائحه .
إن هذا الإرث التراثي العظيم ، على جانب يجعلنا نُقارِن بين وبين " خليل فرح " ، حين كان الأخير ممسكاً بالعربية والإنكليزية والنوبية وعاميّة وسط السودان وباديته الوسطى ، فقد وُلِد " جمال محمد أحمد " عام 1915 ،انحدرملفوفاً في ملاءة أنثى نوبيّة في سرة شرق ، ونهض عالماً في اللغة ، اشرأب مجمع اللغة العربية في القاهرة ، وقطف ثمرته إلى حُضنه .
(4)
ليس بمقدورك أن تجد فُسحةً بين الأنا وال أنتَ ، يستصحب " سيدنا ضيفه القارئ إلى مائدة النص ، وفضاء التخيُّل ، وهو هنا لا يبتني عالماً من القص المُتخَيَّل ، ولكنه يتحدث في مقاله الذي نحن بصدده عن وقائع عاشها في برهة من عمره ، أراد أن ينقل إحساسه بالحياة في زمانه إلى القارئ ، وأدخلنا جميعاً في فتنة ، بين أن نهوى عالمه الخاص ، وقد نحته من بيئة ملوكية لن يتردد فيها الفقراء عن القَبول بالفرح الهابط كمائدة السماء ، مع انبهار الرضا وخشوع الذين يرفعون سيقانهم إذ يحسبون مرآة أنفسهم على رُخام أرض المكان كأنه الماء !
لن نستكثر النص الذي اخترنا عليكم ، فسحره أشدّ وعلى المتوشحين شال اللغة الفخمة والجزلة أو المتدثرين بإزار الإبانة الناصعة الوضوح ، سيجدون غاية مُرامهم عند حديقة " جمال محمد أحمد" اللغوية ، ففراشاتها الملونة تُفرِح الخضرة الممتدة على الأفق ...
وإلى النص لأنه أبلغ من الحديث عنه :
(5)
مشاهِد من هارفارد
بقلمالكاتب الراحل الأستاذ / جمال محمد أحمد
هارفارد و بوسطن على ضفتي نهر شارلز طرفا شارب على شفة . دخلا التاريخ معا : بوسطن على نحو سمع العالم أصداء أحداثه ، هارفارد قرية بالقرب غير ذات شأن . هارفارد مشت مع الأيام . ازدادت صيتا و فسحة ، بوسطن أعياها ثقل التأريخ ، بلت . لو لم تكن هارفارد لأضحت بوسطن مدينة يروحها عشاق الآثار والباحثون عن أنساب أهل العُلا ، المتخيرون طعامهم وشرابهم من مطاعم و مشارب في مجتمع أوصد الأبواب على نفسه وقنع بالذي كان . هارفارد باعثة الحياة فيها بأساتذتها وطلابها و زائريها . لكنهما يحتاجان لبعض ، حاجة الزوج والزوجة يعرفان انهما لا " يلفقان " ، " كارهان معا يعيشان " .
اليزابيث هاردوك
*
" بوسطن " نوفمبر 1959 م
(يقولون عن هارفارد إنها عن نفسها راضية ، وبها مزهوة . كثيرون يرمونها بهذا وهي كمن لا يعي بالقالة ماضية شأنها ، بعض الأحايين تضع في يد القائلين المُبرر . فعلت هذا وهي تحتفي بمن تخرجوا عام 1935 م منها . كان حافلا برنامج الحفاوة وشملت محاضرة عنوانها " واستوت في السماوات هارفارد " قصد الذين قاموا على الحفل أن يروحوا عن أنفسهم وأنفس زوارهم بعنوان كهذا للمحاضرة ، ولكن ما كان بد من أن يتساءل الناس ، قالوا ، أتصدر النكتة إلا عن فئة من الناس تكاد تقول لغيرها أنظروا هاهُنا نحن القلة السعيدة ، لا يرقى لقمم سعدنا إلا المصطفون . )
ماكس كنلف " هارفارد "
*
يوليو 71
في الشقة رقم 34 من الطابق الثالث والأخير في عمارة تُمسِكْ باثنتين أخريين عن يمين ويسار ،تطل كلها على بستانها الخاص وأشجارها الطوال حولها ، قضيت فترة الدراسية في هارفارد بدءا بأول الشتاء ختماً بأوائل الصيف ، مائة وخمسة وثلاثين يوماً . ما رأيت كل هذه الفسحة في شبه هذه الرقعة ، كان أفسح بيت صغير سكنته ، لا اذكرني افتقدت شيئا فيه . تدخل تجدك تواً فيه . قبالتكْ خزانة المعاطف ، للبرد والحر ، ومشاجب للطواقي صُنعت لتحمي الرأس والأذنين ، وقبعات خفيف بعضها للرذاذ ثقيل بعضها لحمأة الشمس، وأخرى للمظلة ، ومسندة لأحذية الشتاء وخفها وأحذية الصيف ، وفراغاً لغير هذه من واقيات الحر والبرد ، فمااشتهر هذا الإقليم بطيب المناخ .خزانة الصيف والشتاء هذه داخل الحائط في الصالون ، حيث مجلس أضيافك و مجلسك . خطوات قليلة عبر هذا الصالون يسار مدخلك فتحة لدهليز عرضه متر طوله أمتار معدودة . تقف لدى الفتحة وجها لوجه أمام خزانة شبيهة بأختها أكثر عرضاً و عمقاً داخل الحائط ملئت مفارش وأكياس وفوط و زجاجات كثيرة . هذه للبلاط ، تلك للحمام ، جنبها فوط أخرى صفراء صفت على بعضها لنظافة الغرف والأثاث . يسار هذه الغرفة باب يقود لحجرة نومك ، يمينها باب آخر لحمامك ، و خطوات من بعد قبالتك ، باب آخر يقود لمطبخك أعدّ ليخدم من يخدم نفسه ، على اليسار فتحة أخرى كفتحة المدخل على الدهليز تقود للمكتبة ، أفسح غرف البيت ، اقتعدتْ فيها طاولة الكتابة والقراءة مكاناً وسطاً وهي تكاد أن تملأ الحجرة طولا وتملاها عرضاً ، على يسارها رف للكتب بعرض الحائط هي خزانة ملابس سيد البيت ، وفي منحنى الحائط فراغ يبدأ عنده رف آخر للكتب . ترك هذا الفراغ في الحائط مكاناً لنافذتين تطل منهما إن شئت وترى من حيث تجلس إن شئت أشجارا طوالا تكاد أن تلامس النافذتين ، وراءهما شارع غير ضيق غير فسيح ، فساحة مرصوفة هي الأخرى يحف بأركانها الثلاثة شجر ، تطل عليها عمارات ثلاث شبيهات بأختها هذه في فرنالد درايف . أول المساء تمتلئ الساحة سيارات حين يعود المعلمون والمعلمون الزائرون وأهلوهم من أعمالهم في مدارس هارفارد العدة ، وتفرغ منها أول الصباح حين يروحون ، و عندها يتسلم الأطفال والأمهات الساحة ، وتملؤها لعب الأطفال وصياحهم ، وتتنقل الأمهات جماعات من دفء الشمس حين يشتد ذلك الدفء يستحيل حرارة ، إلى ظل الأشجار معهن أقفاصهن والإبر والخيوط ذات الألوان ، مكورة داخل أقفاصها الصغيرة .
إن اضطررت ليوم تقضيه داخل البيت لن توحش . النافذتان على يسارك عيناك لهذه الرئة الخضراء للطوابق الثلاثة هنا وأخواتها هناك عبر الطريق . تخضر الأشجار ويخضر العُشب في الربيع ، و تزهر الشجيرات فتؤنس ، أول الصيف يذوي الورق تسمعه يتساقط وتهرع عربات البلدية تجمعه من على الطريق ، والصفرة تستحيل مع الصيف الحارق سُمرة لها هيأيضا مذاقها ، كما لبياض الثلج على رؤوسها مذاق آخر تنسيك فرحتك بالبياض ، أن أوراق خضراء حية صحبتك ، زماناً ، آنستك . طبيعة رحيمة بك .
البيوت مرايا
بيوت الناس مرايا الناس . ظلها . سيد هذا البيت هو الأستاذ روبرت فتزجرالد ، أستاذ الدراسات الإغريقية والرومانية في هارفارد . ما أتيح لي أن أراه ، و لا عرفت على التحقيق إن كان واحداً ممن في الصور الفوتوغرافية الصغيرة الثلاث في المكتبة . هذا بيت لا يسكنه غير
رجل يحيا طمأنينة مُبدعة . كل ما في البيت سلام ، وبعيد ألا يكون هذا السلام إلا من صنع صاحبه . كل ما في البيت زاهد ، لكنه زهد من عرف كيف يجد السكينة داخله . لا يقول الواحد جديداً حين يقول إن لدراسات وقراءات واهتمامات الناس يداً في حياتهم التي يحيون والذي يتركونه وحاله . و صاحب هذه الدار ذهب المدى كله في هذا ، ذهبت به قراءاته ودراساته واهتماماته مدى أبعد مما تذهب بعامة الناس . ترى أثر هذا المتاع الذي يقتنيه ، لكني أحب أن أترك هذا من أجل نظرة نُلقيها معاً على كتبه ، وتحس سلامة وطمأنينة إن قاومت إغراء أن تخرج كتاباً من مكانه ، إنه هناك لغرض ، يريد أن يبقى جنب عترته ليس عدلاً قلقه . إنها كتب رجل يعني بكتبه عنايته بأعضاء جسده ، عينيه ، أذنيه ، ساعديه . لا سعد إن قلق كتاب ، عفر أو اتكأ .
في الصالون رف ، وفي المكتبة ثلاثة . كل ما في المكتبة ، غير القليل ، طبعات قديمة وحديثة لهومر و هيرودوتس و ثيودوسيس و هسيودو غيرهم من سدنة تأريخ وفكر و خيال و شعر الإغريق في الأصل وفي الترجمات العدة . وفي المكتبة أوفيدوفرجيل في الأصل وفي الترجمات .ما مللت الطواف على رفاق صاحب داري ، ليلة من ليالي في الشقة ولا يوماً من الآحاد التيقد تطول حين تفرغ العمارات من ساكنيها ، ذهبوا يريحون أجسادهم وأذهانهم المنهوكة أو يمتعون أنفسهم ويذكرون إن لها شهوات غير شهوة العلم ، في كيب كود ، مارتافنيارد أو بيوت ريف ، يقتنون . ما اختار صاحبي هذه الرفقة غيرها ، إلا قلة أثيرة ، اعتباطاً في الذي رأيت حولي من كُتب و من متاع . هذه فئة من الناس كبرت على الطموح نفسه ، سكونها كان داخلها علواً على صخب حروب المذهب والسلطان ، يستحيل لغير كبير على السلطان والجاه والمال والرفاه ، أن يغني كما فعل أفيد في " ايكولوجي "أغانيه التي جمعها عشاق الحياة ، ما كان يدرك وهو يغني بأنا نهتز لها نحن اليوم ألفا سنة من بعد ، بالذي كان يشدو به في زمان غير شاعر ، زمان ضجيج الفتوح ، بسالات الدماء ، سمو الغدر ، صراخ الساسة ، جدل الفقهاء حول شرعة الإمبراطورية ، عرق الناس تحت صخور الطرق يبنونها لسكارى الجند ، وعباقرة الحرب من القادة . شأنه شأن الأولين هومروهيرودوتس ممن اختاروا مجد الكلمة و جلسوا ، طوفوا ، يرقبون يكتبون خالد الشعر ويسجلون دقائق أفعال الرجال والنساء .
قرب هؤلاء يجلس وينام فتزجرالد يستريح لأصواتهم الناعمة تصف أقسى القلوب بأنعم النغم ، يستنيم لها ، تجيئه من وراء القرون ، أصلحت صوتها السنون ، السنون تُلامسك في حنان جدك الكبير الرحيم ، على ظهرك وصدرك و ساقيك ، تخدر كلها يلذها منامهاتنام .لنخرج منشقة فتزجرالد التي أسكن ، لدنيا هارفارد ، كمبردج ، أطلنا الوقوف عند الكتب ، والذي توحي الكتب . كفاية .
في طريقي
أنا على مسيرة نصف ساعة من صخب هارفارد . أعبر بستان العمارات الثلاث أول الصباح أدخل فرنالد درايف ، يمينها ويسارها عمارات أخرى كهذه التي في شقة منها أسكن . لكل ثلاثمن العمارات بستانها وأشجارها وشجيراتها . تنتهي كلها بعمارة مطبعة جامعة هارفارد ، ذات التأريخ الطويل ، حماها من عبدة اللوائح وسدنة الموازنات أخريات الستينات الدكتور درك بك رئيس هارفارد اليوم / كادوا بمنطقهم المالي أن يقصوا من جناحها قالوا إنها لا تنشر غير كتب العلم الخالص التي لا تنشرها المطابع التجارية ، لو لم تكن مطبعة هارفارد لماتت في أدراجها كتب من لا يكتبون لغير أضرابهم وغير طلابهم . الكتابة لطلابك وأصفيائك إثم نكير . هذه قلة . فقراء أكثرهم لا يشترون . يسار هذه المطبعة تدخل جاردن ستريت ، شارع من أطول شوارع كمبردج ، يمينك على رابية متحف النباتات ، قربه عند بييودي بيت من طوابق خمسة فيه لطلاب علم وصف الإنسان ، الأنثروبولوجيا ، كل ما يحتاجونه هنا . من خط الاستواء ومن قطب الشمال . يسارك رادكلف كلية البنات التي بدأت منذ مائة عام في زقاق قرب قلب المدينة كانت ذلك الزمان أزهر الشوارع . غير بعيد من هذه العمارة الحديثة يحيط بجوانبها كلها العليا زجاج صقيل شفاف ، منزل الطلاب الكبار في 29 قاردن ستريت منزل بابل كانت في بابل سيدة من السودان ، تعد لدراساتها العليا في الحقوق . أذكر دارها فأذكر منزلا في عين شمس أظل حافظ .
ما أعرف كيف يستطعن . قال لي أستاذها إنها تسعده بالذي تكتب . في دارها كل مساء أزواج من أمريكا اللاتينية ، وأزواج من كينيا ، أنا حين يلح بي الحنين أجدني هناك . يأكلون مما تعد لهم من طعام السودان ، يأكلون كما لو كانوا يخشون أن لن يكون طعام غدا ، يرفع للسماء ثم يسترخون . يبحثون ، يأنسون ، يجدون ، يهزلون خالد الصغير ابن سيدة الدار وحده عالم . لو كان لسيدة غيرها لما كتبت بطاقة عيد . دعك بحث في فقه قانون ، قال لي أستاذها فشر ، إنه يقرأ ما تكتب كأنه يقرأ ضوءا جديدا على موضوع الكتابة .
سأسرع بك من هنا ، لن نقف عند منازل بعض المعلمين ، لن نقف عند فندق شيراتون فأمامنا ساحة لا يسعنا إلا أن نقف عندها ، إنها ساحة كمبردج . تحدثك أشجارها عن عمرها ،وكنباتها الصغيرة يمينها آية من آيات كمبردج في المعمار ، تباهي كل واحدة أختها بتاريخها وما هي في عمر سنت بول في لندن ، لكنها واحة في الصخب الذي يمر أمامها من حافلات و سيارات ومارة . حين تجيئها تجيء طرف المدينة ، بينك وبينها دقائق تطول وتطول في الشتاء ، فالأرصفة هي هي التي وسعت الناس أخريات القرن الثامن عشر حين بنيت الكنائس . ويتراكم عليها الجليد ، فتجدك تلتقط خطوك بخفية . تقف لسيدة قادمة بعض الأحايين ، وتلف جسمك يميناً أو يساراً لغيرها ، تحس لوقتك إن كنت في عجلة من أمرك إن مشيت نحو براتل ستريت حيث الطريق أفسح ، وحيث لويب دراما سنتر . إنه لا يدعك . ما عندك معدي من أن تقف عنده ، إنه مسرح المدينة الأرقى وإليه تدعى فرق الولايات المتحدة وفرق أوربا ، وكمبردج مفتونة بكل شيء حتى تخالها دعيّة . في مسرح لوب تجيء فرق أعقد الباليه وتجيء أعقد الأوبرات ، لكنك رأيت صدر حديثي هذا الحياة التي بعثتها وطلابها الأساتذة ، فلنلق من نستطيع لقاءهم في سيرنا السريع هذا ، ونلطُف بهارفارد .
جمال محمد أحمد
مجلة الدوحة القطرية ( 1978 م 1979)
*
انتهى النص.
*
عبدالله الشقليني
25 يونيو 2015
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.