إيه الدنيا غير لمّة ناس في خير .. أو ساعة حُزُن ..!    خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    مشاهد من لقاء رئيس مجلس السيادة القائد العام ورئيس هيئة الأركان    (خطاب العدوان والتكامل الوظيفي للنفي والإثبات)!    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    البرهان يزور جامعة النيلين ويتفقد مركز الامتحانات بكلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بالجامعة    وزير الصحة المكلف ووالي الخرطوم يدشنان الدفعة الرابعة لعربات الإسعاف لتغطية    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. لاعب المريخ السابق بلة جابر: (أكلت اللاعب العالمي ريبيري مع الكورة وقلت ليهو اتخارج وشك المشرط دا)    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    شهادة من أهل الصندوق الأسود عن كيكل    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    بنك أمدرمان الوطني .. استئناف العمل في 80% من الفروع بالخرطوم    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منصور خالد والفجر الكاذب .. بقلم: د. حمد عبد االهادي
نشر في سودانيل يوم 17 - 10 - 2015

لا أظُنّ أن سياسياً سودانياً شغل الناس بفهمه مثل الدكتور منصور خالد ، وهو كما تقول الفرنجة : إما أن تحبه أوتبغضه ، ففي خلال مسيرته العملية و السياسية الماسية ألّب جموع المريدين و الناقمين على حدٍ سواء . ومثّل ذكاؤه و ثقافته الرفيعة بالعلوم العربية و الإسلامية مقرونة باللغة و العلوم الغربية أهم مصادر قوته ، إضافة لقلمه الجَزُل الذي رفع به شأن البعض كما حطّ غيرهم فروى سيرته الركبان و استمتع بقلمه المثقفون.
عندما كانت شقيقتي تعدُّ لمشروع بحثها في العلوم السياسية ، أقترحت عليها أن تدفع لمشرفها بتأثيرالدكتور منصور خالد في الحياة السياسية السودانية لما رأيت من أنه مشروع لبحثٍ علمي واعد لسياسي شغل الناس كثيراً بمواقفه التاريخية الراديكالية ، لخيبة أملي رأى المشرف - بقصر نظر- أن موضوع البحث ضيِّق وآثر أن تتوسّع فيه في إطار العوامل الخارجية المؤثرة في الحركة الشعبية ، و ليته ترك مشروع البحث كما هو فلربما رُفدت المكتبة السياسية في وقتها بموضوع شيّق للبحث لا سيما أن كتب تراجم السياسيين شحيحة ، كما أن توثيق معظم ساسْتِنا لمسيرتهم السياسية سار على هدى أسلافهم 1 . لا أظنّ أن هنالك أبلغ دليل علي ذلك من غياب التوثيق الذاتي لرئيس الوزراء الراحل عبد الله خليل - وللمفارقة شغل منصور خالد منصب سكرتيره الخاص في بداية حياته السياسية - الذي سلّم طواعية النظام الديمقراطي الوليد للحكم العسكري دون أن يبرر أسبابه و دفوعاته فطفقت الأجيال من بعده تضرب رمل التخمين !
رغم أن هنالك العديد مما كُتب لمحاولة سَبْر غَوْر عالم الرجل الملئ بالأسرار ، إلا أنني رأيت أن أضيف إليها لا سيما أنني شُغْفتُ كغيري بعبقري سياسي كان يرجى منه الكثير ، أضف إلي ذلك تلكم الخلفية التاريخية كما أشرت ، و مبلغ هدفي أن نحاول أن نتعرف نشأته و علي ماذا يستند فكرياً و ثقافياً ، ومحاولة معرفة الأسباب التي أدت إلي تأرجح مواقفه السياسية المثيرة للجدل .أود أن أشير أنه من الصعب بمكان أن تأخذ مسار الحياد وأنت تتلمس خطاه السياسية : فالرجل يحب بإيمان غريب ، وقد يكره حد الكفر ، يتأبطُ شراً ثم لا يلوي على أحد، يجتمع قلبه وعقله في عقيدة لا تتوفر للكثيرين ، يسير وحل الطريق ولا يبالي الزلّلَ ، لا يهتم بعزّاله ونقاده ، سكن برجه العاجي منذ شبابه وتزوج كلمات كتبه و أفكاره.
المولد و النشأة:
وُلِدَ الدكتور منصور خالد محمد عبد الماجد بحي " الهِجْرة " بأم درمان عام 1930 في بيت علمٍ و دين لإسرة صوفية معروفة تنتمي لفرع الجعليين العمراب أحفاد الشيخ حامد أبو عصا 2 ، فجده عبد الماجد العمرابي كان منارة للعلم تخرج على يديه الكثير من طالبى العلم بمسجده بسنار و سار على نهجه إبنه محمد الذي خلفه بسنار ثم انتقل بعدها لإمدرمان في عهد المهدية ، وجدّه لأمِّه : الشيخ الصاوي عبد الماجد الفَقْيه و القاضِي الشَرْعِي، وجدته لأبيه إبنة أحد ملوك العباسية في تقلي ، أُسْرت في المهدية كسْرِية فأهداها الخليفة عبد الله للشيخ محمد عبد الماجد الذي سمع قصتها فأفتى بسبق عصري بأنها حرة ، فأمهرها وعقد عليها شرعاً فولد منها خالد الذي كان أيضاً عالماً و فقيهاً في الدين و ثَمًّ تاجراً مُوسِراً . متأثراً بهذه البيئة الغنية ، درس منصور خالد أصول اللغة و الدين في بيت الأسرة ، فقرأ الكثير من كتب الفقه و اللغة كمختصر خليل ، و ألفية إبن مالك 3 كما أورد في كتاباته.
الدراسة و الحياة العملية:
بجانب تعليمه الديني و اللغوي الأُسْرِي ، تلقي منصور خالد جلّ تعليمه بأم درمان فكانت الوسطى بأمدرمان الأميرية ، و الثانوي بمدرسة وادي سيِّدنا العريقة : أيقونة التعليم الثانوي في ذاك الزمان ، انتقل منها في بداية الخمسينيات من القرن الماضي لكلية القانون بجامعة الخرطوم ، ولا بد أن تأثّره الأُسْرِي بالدين و القانون قد لعب دوراً في اختيار طريق حياته المستقبلي . بَرْق نجْمُ منصور خالد في أولى سنوات حياته الجامعية ، و خلّد أثرا ً في نفوس الكثيرين من احتكوا به في ذاك الزمان بثقافته العالية و قلمه الثرّ ، فكان أن استقطبه أهرام مؤسسات الرأي العام و الأيام للكتابة ، فكتب عن أدب الرحلات لأسفاره لأوروبا و هو بعد ما زال طالباً ، و احْتَكّ بالكثير من ألوان طيف الأجانب و الدبلماسيين الغربيين الذين كان يضيئ بهم مجتمع الخرطوم ، بعض ٌمن هذا البريق ومْض كبرق خُلّب لأعدائه لينالو منه في مقبل الأيام.
عقب تخرجه في منتصف الخمسينيات ، عمل منصور خالد لفترة وجيزة بالمحاماة ، ثم لسنتين سكرتيراً خاصاً للسياسي الضليع عبد الله خليل 4 ، زعيم حزب الأمة و رئيس الوزراء في بواكير الحكم الوطني ، أنصرف بعدها الشاب منصور خالد لبناء مستقبله الأكاديمي ، فحصل على الماجستير من جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة في عام 1961م ، عمل بعدها في منظمة الأمم المتحدة مندوباً لها بالجزائر مما مهّد له الفرصة لنيل الدكتوراة من جامعة باريس ثم عمله بمنظمة اليونسكو في ظرف سنوات.
إبَّان أحداث 1964م كان منصور خالد خارج المعترك السياسي لوجوده خارج البلاد ، لكنه كان متابعاً للأحداث و محللاً للمواقف السياسية فكتب ناصحاً و محذراً ثم ساخطاً و ناقماً على النخبة الإستقلالية المثقفة التي أسلمت زِمْامُها للطائفية و البيوت الدينية التاريخية ، فلم تستنهض الوطن لديمقراطية حقيقية مبرأة من العيوب كما حلموا ، ولم تتعلم من تجاربها ، و بلغ سكين قلمه العظم في نهاية الستينيات ، فصبّ جام غضبه جمراً علي أوراق الصحف في "حِواره مع الصفوة ". لم تمضِ شهورٌ علي آخر دعواه حتي إنقض العسكر علي الحكم الديمقراطي الهشّ كما حذّر في مايو 1969م، فكسروا إسفين سفين الحكم الذي كان يحاول النجاة في بحر متلاطم الأمواج.
إحتفاءً بمواقف منصور خالد الناقدة للديمقراطية الموؤودة ، و تقديراً لقدراته العملية والعلمية ، عَمِدَ قادة الإنقلاب بالإتصال به و سرعان ما تمت مراسيم الزواج العرفي بتعيينه و زيراً للشباب و الرياضة لسنة ، لكنه تركها زاهداً في الأجواء السياسية الملبدة بغيوم التناحر الأيدلوجي . بعد مفاصلة الشيوعيين في عام 1971م تمّ استدعاؤه مجدداً فعمل سفيراً في الأمم المتحدة ثم وزيراً للخارجية لأربعة سنوات حيث ترك أكبر أثر في تاريخه السياسي الوطني ، انتقل منها للتربية و التعليم و أخيراً مساعداً لرئيس الجمهورية . في أواخر السبعينيات دبّ الخلاف رويداً ، رويداً بينه وبين حكومة مايو ، فما فتئ لسانه و قلمه ناقداً لمسارها و أهدافها في السِرِ و العلن فكتب " لا خَيْر فِيْنا إنْ لمْ نَقْلُها" ، خرج بعدها مغاضباً و مهاجراً ، فتم الطلاق البائن بين المثقّف و السلطة .رغم بعده لم يسلم نظام مايو من لِسانه السليط فتهكم علي "فجرها الكاذب" ثم شيّعها لمثواها الأخيرفي مطلع 1985م غير نادم عليها عبر نظرته المستقبلية في " السودانُ و النَفْقُ المُظْلِم" ، ولم ينس أن يلهب ظهور من ضيعوا الفرصة تارة أخرى فلام "نُخبتها في إدمان الفشل" .
بعد الإنتفاضة الشعبية في عام 1985 م عاد للبلاد لفترة وجيزة فلم يجد سوى أسنّة قِناْن معارضة النظام البائد فتناوشته حتي لم يجد متكئا ، عاد بعدها مجددا ً للولايات المتحدة و سويسرا مستقلاً علاقاته الخارجية القديمة . بدأت إدبان ذاك الوقت اتصالات مباشرة بينه و بين الحركة الشعبية المتمردة في ذاك الحين فأبدى إعجابه بزعيمها الكاريزمي جون قرنق ، عُيّن بعدها مستشارا خارجياً لها فلعب دورا ً هاماً في بناء مشكاة اتاحت للحركة المتمردة ايصال صوتها عبر جدار الغرب الملئ بالدعم السياسي و اللوجستي ، بعد إتفاقية السلام في 2005 م عيّن في و ظيفة تشريفية كمستشاراً لرئيس الجمهورية ثم مديراً لمؤسسة الصمغ العربي لكنه إلتصق بمشاكلها المتراكمة ففضل المغادرة فكانت محطته الأخيرة في قطارعمله الوطني المتباين بكل ألوان الطيف السياسي.
المواقف السياسية:
هنالك ثلاثُ مواقف أساسية شكلت مسيرة منصور خالد السياسية وجميعها تتسم بالراديكالية و صعوبة الفهم في سِياق أحداثها التاريخية ، كان أولها عودته من فرنسا وقبوله مناصب سياسية رفيعة في إنقلاب مايو 1969م ، فالإنقلاب تمَّ على أنقاض الشرعية الديمقراطية الهشة التي كان من أبرز الناقدين لها ، و على الرغم من أن الديمقراطية الوليدة عقب ثورة إكتوبر كانت ضعيفة و مهتزة، كان الأوْلَى بالمثقفين و المتعلمين أن يدعموها بالإرشاد القويم حتى يقوى عودها و تشدّ لا أن يكونوا معولاً لهدمها ، فإنتقادات الرجل في "حواره مع الصفوة" ، شكلت بعض المبررات التي استند عليها قادة الإنقلاب في أهمية إحداث اختراق سياسي ثوري ، و ليس هنالك أبلغ من دليل عن احتفاء الثورة المزعومة بالرجل من دعوتها له للانضمام لركبها في أولى سني عهدها ، و رغم أن منصور خالد في ذاك الوقت كان قد وصل ثُريا القانون الدولي ، و عاش فترة كافية في دول ديمقراطية راسخة كالولايات المتحدة و فرنسا ، إلا أنه لم يجد غضاضة في المشاركة في نظام شمولي : عطّل الدستور و سجن السياسيين و أراق دماء المئات من المعارضين لحكمه ، ليس هذا فحسب فالإنقلاب تعرض لمحنة سياسية بعد سنتين من حكمه بإنقلاب مضاد كان نتاجه التنكيل بقادته العسكريين و قتل داعميه المدنيين في محاكمات شابها الكثير من غياب العدالة المرئية التي يعرف الرجل القانوني أهميتها في بِناء الدولة الحديثة.
لم تمضِ سنواتٍ على هذه الأحداث حتى بلغ منصور خالد أوْج مجده السياسي فمثّل السودان في المحافل الدولية ، و خلق علاقات واسعة على الصعدين المحلي و العالمي و ارتقى نجمه السياسي حتى أصبح مستشاراً لرئيس الجمهورية لكنه سرعان ما بلغ مرحلة من الغضب الصامت مع النظام الحاكم فآثر فك ارتباطه فطلّقه إلى غير رجعة ، وخرج مغاضباً إلى هجره خارجية ثانية في نهاية السبعينيات . رغم أن منصور خالد كان من أبرز السياسيين في حكومة مايو ، إلا أنه يعتبر من أبرزالمنتقدين و الموثقين لفشلها السياسي ، و شاء أم أبَى فتوثيقه للفشل بمثابة توثيق لفشل اختياره و موقفه السياسي من النظام . رغم أن الكثير من الغموض يكتنف الأسباب الحقيقية التي جعلته يفضُّ الشراكة السياسية مع النظام إلا إنه يمكن فهم بعضها بدراسة أفكار الرجل ، ففي نهاية السبعينيات إختار نظام مايو الحل السياسي لمهادنة خصومه السياسيين بما يعرف بالمصالحة الوطنية فأتت برموز الطائفية و الإسلام السياسي للمشاركة في النظام ، وجلَّ هولاء يحمّلهم الرجل وِزْر فشل التجربة السياسية السابقة فلم يهُن عليه أن يرى تاثيرهم في العملية السياسية و تمدد مشاركتهم في الحياة العامة.في ذاك الوقت كانت المصاعب الاقتصادية و السياسية تحيط بالبلاد ، وكان الطريق للتنمية يمر عبر بوابة الديون الخارجية التي عارضها الرجل ضمنياً ثم صراحة فكانت سبباً في فقدانه صولجان عرش الخارجية . عاش في ظلِّ مايو مرارة فشلها في بسط نظام سياسي بديل ، ثم تخبطها في معالجتها لمشكلة الجنوب بالنقض والتعديل. رغم كل ذلك الفشل المزمن إلا أن عقابيل المصالحة الوطنية كانت القشة التي قصمت ظهير بعير منصور خالد المايوية فخرجت و لم تعد.
بعد هذا الزواج ثم الطلاق من حكومة مايو آثر الرجل الفجور و الشقاق فاختار المعسكر المناؤي للسلطة و الوطن في ذاك الزمان فالتحق بالحركة الشعبية و جيشها المتمرد على الحكومة المركزية وهو اختيار يصعب فهمه ، فجُلَّ من التحق بالحركة الشعبية من الشماليين في ذاك الوقت انبهروا بفكرها الثوري اليساري – ولم يكن الرجل من أهل اليسار - ، وكانت الحركةُ تُبشِرُ بسودانٍ جديد لم تخفِ فيه رغبتها في مسح الهيمنة العربية و الاسلامية منه التي امتدت لقرون بينما خرج الرجل من بطانة تعتز بأصلها العربي والاسلامي الصوفي . وقتها كان الشماليون المنتمون للحركة يصنفون بتهمة الخيانة العظمى لمبادئ الوطن ، لكنه رغم ذلك أدار ظهره للناقدين و لم يرعوي لعذل الناصحين.
مَثّل موقفه الأخير أغرب مواقفه السياسية فبينما يمكن أن تفهم مواقفه الأولى بفورة وتغرير الشباب في اختيار الطريق و الهدف و الرغبة الصادقة في إحداث تغيير حقيقي نحو الوطن ، إلا أن التحاقه بالحركة الشعبية تمّ بعد أن خطّ أثر المشيب فوديه ، و كست أردان التجربة السياسية كتفيه مما يصعب معه التكهن بما كان يود أن يحققه لنفسه و لوطنه في ذاك الزمان ! لا شك أن ذلك الموقف الراديكالي يعبر عن شخصية متمردة توّاقة لكل ما هو متفرد و مثير ، ربما يضاف إلي ذلك رغبة الرجل في مساعدة المستضعفين و المهمشين نابعة من مبادئ ذاتية ، فمما تواتر عنه دعمه المتواصل للمستضعفين و مواقفه الداعمة لمفهوم إشتراكية الثروة وتطبيق أسس العدالة الاجتماعية . رغم أن التخمين بغرضه الأساسي من ذلك الارتباط الجذري يبقى غير واضح إلا أن معظم المواقف السياسية التاريخية تُبنى على جذور المبادىء الذاتية و المكونات الشخصية.
لا شك أن الحركة الشعبية قد استفادت من منصور خالد كثيرا ً، فقد خاطب المجتمع الغربي بلسانٍ عجمي ٍمبين طارحاً رؤية قائدها ، فنجح في فَكِّ عزلتها الخارجية مستفيدا من إرثه الدبلوماسي الثرّ ، وقدمها بصورة حضارية للدوائر الغربية فوجدت منصةً لتقديم موقفها السياسي فكسبت التعاطف أولاً ثَمَّ الدعم و المؤازرة لاحقاً ، ففي ظرف سنوات تحولت من حركة متمردة محلية إقليمية إلي قوة سياسية دولية . رغم أن تاثير منصور خالد في الحركة الشعبية كان جوهرياً إلاأنه ارتكب خطأ مفصليا ً موروثاً في شخصيته عندما بني جسور علاقاته مع قائدها المثقفّ الذي بادله الودّ بمثله في تلاقح فكري دون بقية أطراف عقدها القيادي . بيّنت تصاريف الدهرإنه ارتكب خطأً مبدئياً ، فعندما انفرط عقد وده فجائياً : تناثرت حبات مستقبله السياسي مع الحركة من غيرما رجعة.

الأفكار السياسية:
شَدّ ما يربك المرء في متابعة مسيرة منصور خالد العملية و الفكرية هي محاولة التعرف على مبادئه السياسية . فقد تأرجحت هذه المواقف و المبادئ فسارت من غيرما هُدىً . دلّت الحكمة السياسية على أن الحكم على المفكرين السياسيين عبر آرائهم و كتاباتهم المنشورة ، ثَمَّ مواقفهم السياسية التي تختبر إيمانهم بمبادئهم هو أضعف سبيل متاح للمحللين السياسيين.
عند متابعة الأفكار و المبادئ السياسية لمنصور خالد يصعب معرفة كنه مرجعيته الفكرية ، فالرجل يستند علي موروثٍ ديني تليد ، وتشبّع بروح الحداثة بنشأته الموسرة التي اتاحت له السفر إلي أوروبا وهو ما بعد غراً ، وتشرّب صفو سلسبيل الثقافة المحلية و العالمية فنهل فلم يرتوي ، و تنفس منابع الفكر الشرقي و الغربي حتي سرت في دمائه . عاصر بدايات الفكر الإشتراكي و الإسلامي فلم يوثق له أنه كان من حادِي ركبانها ، يصنفه اليمين من أهل اليسار الليبرالي ، ويرْجُمه أهل اليسار بجمرالانتهازية النفعية ، بينه وبين الوسطية الطائفية ما صنع الحداد ، أحبته إشتراكية مايو حتي النخاع وثم نعتته بعيد الشقاق بكل أوصاف النفاق و الخداع.
في كتاباته السياسية الأولي ، اسْتلَّ منصور خالد قلم سيفه البتّار فحَملَ علي أهل الإسلام السياسي فدك حصونهم دكاً وكشف بوار بضاعتهم وسوء مقصدهم ، ثم عطف علي رفقاء اليسار مشتتاً شملهم مبيّناً خطل فكرهم وغُثاء منهجهم ، ثم لم يلبث أن ناءَ بكلكله علي وسط الطائفية السياسية فحمل عليهم يحمّلهم جُلّ أوزار الفشل الوطني والسياسي. بعد أن إنتهى المفكر السياسي من واجب المبارزة الوطني ، برز للساحة العالمية فركب موج محاربة الرأسمالية و الإمبريالية التي أقعدت الشعوب النامية ، وإذا حسبته يسارياً إشتراكياً تعجبت من سخطه من المعسكر الإشتراكي الذي خدع شعوب العالم الثالث بتجارب عصيّة التطبيق . لم توثق بواكير كتاباته من إعجاب بالديمقراطيةّ وتطبيقاتها رغم أنه قد ذاق طعم حلاوتها في بواكير حياته الأكاديمية و العملية 5 . مجمل القول أن الرجل ثوري ، ساخط وناقم علي الفشل ، متطلع لحياة ووضع أفضل ، يبحث عن الكمال و التفرد حتي أنهكتاه . يمتاز بروح متمردة وثورية انعكست على كتاباته وليس من العسير أن تستنبط بعض المرتكزات الإشتراكية المعتدلة التي كانت فاكهة ذاك الزمان التي ربما تأثر بأفكارها عبربعض أفراد أسرته المثقفين . يستدل على ذلك البعد الفكري بمواقفه العملية التي قبلت الزواج من حكومة مايو التي قامت علي أنقاض الديمقراطية الهشة و بشرّت بإشتراكية ثورية تستنهض الوطن وتبسط أركان التغيير الإجتماعي المنشود ، ومن ثمَّ الحركة الشعبية التي قامت على مرتكزات إشتراكية لا تخطئها العين.
كانت تجربة منصور خالد في وزارة الخارجية نقطة تحوِّل في حياته ، فقد اتاحت له الفرصة قاعدة الانطلاق نحو العالمية، فخاطب العالم من منصة الأمم المتحدة وسافر إلى شتى بقاع العالم ، وتعرف على صانعي القرار في المطابخ الدولية ، وقابل ممثلي الدول الشرقية و الغربية في الداخل و الخارج ووضع لبنات مؤسسية قوية في الوزارة تعتمد على النهج والبحث العلمي والتدريب والتطوير المهني المستمر ساعدت في رسم سياساته الخارجية . لا بد أن التجربة قد بنت له صرحاً إطّلعَ من خلاله على بريق الحياة الغربية و ألقها ، وتعلقت أوتار قلبه بنعيم ورخاء الدول الرأسمالية التي ظاهرها في مطلع حياته العملية فلم يلبث أن قاد طليعة توجيه دفة النظام نحو نعيم الغرب مولياً ظهره من رهق وضيق يد الشرق.

في خريف عمره أعلي الرجل من شأن الديمقراطية رغم صعوبة تطبيقها بشفافية 6، و حسبها من أفضل النظم المتاحة التي تناسب تعدد السودان الثقافي و الإثني ، و أفضل وسيلة حكم تؤدي إلي الإستقرار السياسي و التدوال السلمي للسلطة في البلاد على المدى الطويل . خلص الرجل إلى هذه النتيجة بعد أن أفني زهرة شبابه في خدمة نظام شمولي أزال بيت عنكبوت الديمقراطية الوليدة و أدخل البلاد في بداية النفق المظلم التي وثّقها في كتاباته ، ثم بذل عصارة تجربته السياسية في مساعدة حركة ثورية متمردة كانت تحلمُ بعالم ٍ جديد ، فأفاقتها سكرة الفشلِ على ما كانت منه تُحيد !
من الملاحظ عند متابعة المواقف و الأفكار السياسية لمنصور خالد وخلافه مع ناقديه ، أنه برازيلي الطباع : يحب بقوة ويكره بمثلها ، الحياة عنده من لونين : أبيض و أسود ولا مجال للتماهي مع رمادية المواقف خلافاً لتجربته الدبلوماسية ، توّاق للمنافسة الفكرية حتى يبزُّ أقرانه في جاهلية ميّزت تلك الفترة من تاريخ السودان ، مفرطٌ في الاعْتِدادِ بنفسه وفكره في نرجسية شكلت أعماله وحواراته ، يدور قطب إهتمامه حول ثقافته و علمه وتطوير فكره فاتخذها خليلاً. عكف في السنوات الأخيرة على دراسة وتوثيق تاريخ أسرته في عودة للجذور مما أكسبه قدراً من التسامح إفتقده في مدبر الأيام.
لا شك أن المثقف و المفكر السياسي منصور خالد عبقري يمثل قلة من السياسيين جل ّ أن يجود الزمان بمثلهم ، إن اتفقنا أو اختلفنا معهم لا بد أن نقدر أنهم بذلوا ولم يبخلوا ، وأعطوا فأفاضوا ، و قدموا الكثير من التضحيات في سبيل أفكارهم ومبادئهم السياسية ، ورفدوا المكتبة المحلية والعالمية بأمهات الكتب التوثيقية والفكرية التي تترجم أفكارهم و مواقفهم السياسية ، فعلوا ذلك فبزّوا أقرانهم وتميّزوا عن معاصريهم ورفعوا سقف إنجازاتهم العملية و الفكرية مما يصعب مماثلته . يمثل نقدنا لهم أن السودان كان يعوّل علي أمثالهم أن ينتشلوا الوطن من وهدته وأن يقيلوا عثرته فيحدوا بركبه إلي الصِراط القويم لكنه إختاروا سبيل نقص القادرين عن التمام.

*******
1- شهدت الفترة من 1505 إلي 1820م توثيقاً ضعيفاً للاحداث السياسية والتاريخية في السودان رغم انتشار العلوم العربية و الإسلامية فلم نظفر منها سوى " طبقات ود ضيف الله " الذي حققه بروفسيور يوسف فضل الذي يعتريه التوثيق الشفاهي الضعيف ، ثم كتابُ "كاتِب الشُونَة" و حققه بروفسيور أحمد إبراهيم أبو شوك وهو أفضل قليلاً من سابقه في التوثيق ، بينما كان توثيق الرحّالة الأجانب أكثر دقة رغم جهلهم باللغة و الأحداث !
2- موسوعة القبائل والأنساب لعون الشريف قاسم : مادة منصورخالد وعبد الماجد العمرابي .
3- مختصر خليل: كتاب من أمهات الفقه المالكي ، ألفية إبن مالك: قصيدة معقدة تقارب الألف بيت تشمل كل قواعد النحو و الصرف ، كانت تدرّس لطلاب الخلاوى ومنْ استوعب فهمها كانت له دراية عميقة بقواعد اللغة و البيان.
4- قد لا يعلم الكثيرون أن عبدالله خليل كان من رواد ثورة عام 1924 م التاريخية التي شكلت وجدان الحركة الوطنية السودانية ، وصفه منصور خالد بأنه رجال في قلب رجل .

5- لم يتسنَّ لي الاطلاع علي الدراسة القيّمة للباحث عبد الماجد عليش عن منصور خالد التي إحتفت بها الأوساط الثقافية و السياسية ، لكنه خلُص إلى رأيٍ مشابه في وجود تناقضات للسياسي في الفكر والمنهج.
6- - منصور خالد 2004: التحول الديمقراطي الوهم والحقيقة ، سلسلة مقالات ولقاءات صحفية حول مستقبل السودان السياسي.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.;


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.