عضو مجلس إدارة نادي المريخ السابق محمد الحافظ :هذا الوقت المناسب للتعاقد مع المدرب الأجنبي    القوات المسلحة تنفي علاقة منسوبيها بفيديو التمثيل بجثمان أحد القتلى    لماذا دائماً نصعد الطائرة من الجهة اليسرى؟    ترامب يواجه عقوبة السجن المحتملة بسبب ارتكابه انتهاكات.. والقاضي يحذره    محمد الطيب كبور يكتب: لا للحرب كيف يعني ؟!    مصر تدين العملية العسكرية في رفح وتعتبرها تهديدا خطيرا    إيلون ماسك: لا نبغي تعليم الذكاء الاصطناعي الكذب    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    دبابيس ودالشريف    نحن قبيل شن قلنا ماقلنا الطير بياكلنا!!؟؟    شاهد بالفيديو.. الفنانة نانسي عجاج تشعل حفل غنائي حاشد بالإمارات حضره جمهور غفير من السودانيين    شاهد بالفيديو.. سوداني يفاجئ زوجته في يوم عيد ميلادها بهدية "رومانسية" داخل محل سوداني بالقاهرة وساخرون: (تاني ما نسمع زول يقول أب جيقة ما رومانسي)    شاهد بالصور.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبهر متابعيها بإطلالة ساحرة و"اللوايشة" يتغزلون: (ملكة جمال الكوكب)    شاهد بالصورة والفيديو.. تفاعلت مع أغنيات أميرة الطرب.. حسناء سودانية تخطف الأضواء خلال حفل الفنانة نانسي عجاج بالإمارات والجمهور يتغزل: (انتي نازحة من السودان ولا جاية من الجنة)    البرهان يشارك في القمة العربية العادية التي تستضيفها البحرين    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    الخارجية السودانية ترفض ما ورد في الوسائط الاجتماعية من إساءات بالغة للقيادة السعودية    الدعم السريع يقتل 4 مواطنين في حوادث متفرقة بالحصاحيصا    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    قرار من "فيفا" يُشعل نهائي الأهلي والترجي| مفاجأة تحدث لأول مرة.. تفاصيل    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    كاميرا على رأس حكم إنكليزي بالبريميرليغ    لحظة فارقة    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    كشفها مسؤول..حكومة السودان مستعدة لتوقيع الوثيقة    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإِبْرَاهِيميَّةُ السِّياسِيَّةِ بَيْنَ التَّدَيُّنِ والذَّرَائِعِيَّةِ فِي فِكرِ التُّرابِي! .. بقلم/ كمال الجزولي
نشر في سودانيل يوم 04 - 11 - 2015

* لا بد أن الترابي رأى في المظهر العسكري للشمولية ما يعيق إقناع دافع الضرائب في الغرب بالتطبيع مع الإنقاذ .. فحلَّ مجلس الثورة!
* عِلة اجتهاد الترابي معاظلة النصوص الدينية لا لوجه الله تعالى وإنما تبريراً لترتيبات سلطوية!
* دعا الزعيم الإسلاموي لأن ينتسب المسلمون لإبراهيم، لا لمحمَّد، تقرباً إلى المسيحيين واليهود وتحسيناً للعلاقات مع الغرب!
* ليس الترابي عقائدياً بالدلالة الدينية وإنما ذرائعي على مذهب التربوي الأمريكي جون ديوي!
(1)
ما يُعرف ب "المشروع الحضاري" مصطلح دالٌّ على مخطط لعمليَّة كبرى أطلقهاالقسم الرَّئيس من حركة الإسلام السِّياسي في السُّودان، من فوق انقلاب الثَّلاثينمن يونيو 1989م، بزعامة حسن التُّرابي، وبغرض إخضاع كلِّ جوانب الحياةالسِّياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة لما يتَّسق مع رؤية هذا القسمالأيديولوجيَّة.
بمثل تلك الآمال العراض ولج قادة هذا القسم عقد التِّسعينات من القرن المنصرم،متخفِّفين، أوَّل أمرهم، من أيِّ مخاوف، حيث لم تكن ثمَّة حدود، في البداية، لثقتهم في حركتهم وترتيباتهم. لكن ما أن راح ذلك العقد ينزلق، رويداً رويداً، نحو أواسطه،حتى أخذ الخوف مِن فشل "المشروع" يدبُّ في نفوس أصحابه. فالتَّحدِّيات التيلاحت، آنذاك، في أفقه، لم تكن، أصلاً، في حسبانهم، بل، على العكس، كان قدتوطن لديهم اعتقاد جازم بأن سائر دول الغرب، والمحيطين العربي والأفريقي، دَعْ بقيَّة دول العالم، ستجد نفسها مضطرة، إن استتبَّ الأمر لنظام الحكم الجَّديد،للاعتراف به، وللتَّعامل معه، ولو من باب الأمر الواقع de facto على الأقل، وكان ذلكيكفيهم.
على أن الرِّياح غير المواتية التي قد تأتي أحياناً بما لا تشتهي السُّفن هبَّت تملأ أشرعة النظام، من كلِّ حدب وصوب، بعداء ما انفكَّ يرجُّه، ويزعزعه، ويدفع به دفعاً إلى الغرق! من ثمَّ كان لا بُدَّ لأساطينه، تحت وطأة إحساس خانق بخطر العزلة الخارجيَّة، فضلاً عن ضغط المعارضة الدَّاخليَّة، من التفكير في مخرج من المأزق الذي ألفوا أنفسهم بين فكَّيه.
(2)
اقتضى الأمر اجتراح خطة جديدة تنحو، من جهة، للتَّقارب مع الغرب، رغم كلِّالتَّنظير الذي ما فتئ ينصبُّ على التَّيئيس، بالمرَّة، من جدوى استمالته، كون اليهودوالنَّصارى لن ترضى عنك حتَّى تتَّبع ملتهم، في استخدام ركيك للآية القرآنيَّةالكريمة؛ كما تنحو، من جهة أخرى، للموادَّة مع البلدان العربيَّة، بعد كلِّ الهجاء الذي طال قادتها عبر الصُّحف، وأجهزة الإعلام، وسائر المنابر العامَّة، في ما لا يشبه سوى إعلان الحرب. لكن، على حين شكَّل التَّقارب مع الغرب همَّ الحركة الأوَّل،لم تشكِّل علاقاتها مع العرب عُشر مِعشار ذلك الهمِّ، فقد قرَّ في عقيدتها السِّياسيَّة، بتبسيط مخلٍّ، أن ترميم ذات البّيْن مع الغرب كفيلٌ وحده باستتباع ترميمها مع العرب، ضربة لازب!
وبطبيعة الحال لم تكن لتغيب عن تقدير التُّرابي، كعرَّاب للنِّظام الإسلاموي وحركته الحاكمة، صنوف المعيقات التي قد تعترض مسار تلك الخطة، وضرورة التَّحسُّب الباكر لها. ومن أهمَّ تلك المعيقات مظهرُ الشُّموليَّة العسكري للنِّظام، وقتها، والذي رأى الرَّجل، ولا بُد، أن من شأنه عرقلة مسعى أيَّة حكومة غربيَّة، إنْ رغبت، في إقناع دافعي الضَّرائب بالتَّطبيع معه، لا سيَّما في ظلِّ "ديموقراطيَّة ليبراليَّة" تقوم على "المحاسبة" عبر صناديق الاقتراع، دورة إثر دورة، كآليَّة للتَّنافس الحزبي! من ثمَّ لم يهدأ للتُّرابي بال حتَّى تمَّ حلُّ "مجلس قيادة الثَّورة" في 16 أكتوبر 1993م، وتحويل معظم أعضائه إلى ولاة، ووزراء، وسفراء بالملابس المدنيّّة!
قد يحاجج بعض الإسلامويين بأن ذلك الإجراء ترتَّب، أصلاً، على اتِّفاق مسبق بين قادة الإسلامويين المدنيِّين والعسكريِّين قبل الانقلاب! لكن سرعان ما سيتَّضح أن هذه الحُجَّة مردود عليها بلسانين، أوَّلهما زعيم بأن التاريخ المتَّفق عليه، إن كان ثمَّة اتِّفاق أصلاً، هو منتصف العام 1992م، وليس أواخر العام 1993م؛ وثانيهما أن العسكريِّين، عندما سألوا التُّرابي كم سيبقون في الحكم بصفتهم العسكريَّة تلك، حدَّد لهم ثلاثين سنة!
مهما يكن من شيئ، فقد انطلق التُّرابي، بتلك العقيدة السِّياسيَّة، يسافر، ويحاضر، ويحاور، هنا وهناك. فجاءت، في السِّياق، أبرز زياراته للفاتيكان، ولواشنطن، ولأوتاوا، وإلى ذلك محاضرته المحضورة بجامعة قالا "القلعة" بمدريد، في أغسطس عام 1994م، عن الحركات الإسلاميَّة بشمال أفريقيا، فضلاً عن لقاءاته، في باريس، بحاخامات اليهود، والتي أثمرت، بلا شكِّ، في إنجاح اجتماع السَّاعتين الذي رتَّبته له المخابرات الدَّاخليَّة الفرنسيَّة، مع مديرها فيليب روندو، بقاعة كبار الزُّوَّار بمطار شارل ديجول، في حضور محي الدِّين الخطيب، الملحق الأمني بسفارة السُّودان هناك، وعطا المنَّان بخيت، السِّكرتير الأوَّل، وهو الاجتماع الذي فتح الطريق، في ما بعد، لصفقة تسليم كارلوس مقابل صور الأقمار الصِّناعيَّة التي مكَّنت الخرطوم من تسديد ضربة ناجحة، آنذاك، لمعسكرات الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان، الأمر الذي لم يغفره جون قرنق للفرنسيِّين حتَّى بعد أن شغل منصب النَّائب الأوَّل لرئيس الجُّمهوريَّة، في عقابيل اتِّفاق نيفاشا عام 2005م. وغنيُّ عن الذِّكر، ولا بُدَّ، أن أكبر وأهم أجهزة الاستخبارات الغربيَّة لم تكن بعيدة، بالطبع، عن مشهد تلك التَّحرُّكات.
سوى أن مردود كلِّ تلك الخطوات التي اتخذت للتَّقارب مع الغرب، سعياً لفكِّ عزلة النِّظام الدَّوليَّة والإقليميَّة، لم يكن مُرضياً للكثير من أركان الحركة والنِّظام الإسلامويَّين، حيث لم يُحسب ذلك المردود، في اعتبارهم، مكافئاً لما بُذل في سبيله! مع ذلك فإن الغرب لم يرتو، على ما يبدو، بل واصل إلحاحه في المطالبة، وفق منهجالعصا والجَّزرة، بإنفاذ المزيد من تلك الإجراءات، حتَّى بلغ الأمر، في خواتيمالتِّسعينات، حدَّ المساس "الخطر" بموقع الرَّئيس نفسه، مِمَّا أفضى، عام 1999م،ضمن أسباب أخرى، مباشرة وغير مباشرة، إلى شقِّ الحركة والنظام، من فوق ما عُرف ب "مذكِّرة العَشرة"، ثمَّ إلى واقعة "المفاصلة" الشَّهيرة التي أطاحت بالتُّرابينفسه، وبأحلامه الشَّخصيَّة، إلى خارج السُّلطة!
وتلزمنا الإشارة، هنا، إلى أن التُّرابي سعى، في ما بعد، كما ولم يقصِّر بعض خصومه داخل الحركة والنِّظام الحاكم في مجاراته بالمقابل، إلى إدارة ذلك الخلاف، لا بالاقتصار على طابعه السِّياسي العملي، فحسب، وإنَّما بدلق مختلف المدلولات الدِّينيَّة على سطحه، بما في ذلك التَّكفير والتَّكفير المضاد!
لكن لئن جرى جُلُّ ذلك، مع ذلك، في مستوى "السِّياسة العمليَّة"، كما أشرنا، فإن الانقلاب الأكبر، في الحقيقة، كان قد وقع في المستوى "الفقهوفكري"، قبل تلك "المفاصلة" بسنوات، حيث أن تفاقم عزلة النِّظام، واشتداد الضُّغوط عليه، وتزايدالمخاطر الناجمة عن كلِّ ذلك، فضلاً عن شُحِّ وتباطؤ مردود التَّطبيع مع الغرب، قد أفضى إلى حَمْل التُّرابي على ظهر مغامرة "فقهوفكريَّة" غير مسبوقة بكلِّ المقاييس!
(3)
في البداية لم يكن الأمر مغامرة بهذا المعنى، بل جاء رافلاً في بردة البراءة الدِّينيَّة، من خلال خطاب راح الرَّجل يبثُّه لتقريب الإسلام، حسب ما أوضح بنفسه، إلى الذِّهن الغربي، المسيحي واليهودي، محاولاً تقديم الإسلام لهذا الذِّهن في مستوى ينفي عنه أيَّ انطباع بالتَّشدُّد في معاداة "الآخر الدِّيني"، على وجه الخصوص، وذلك بالتَّركيز على أنه جاء مصدِّقاً لما أنزل على عيسى، وموسى، وجميع الأنبياء قبلهما، حتَّى أباهم إبراهيم، حيث كان دينهم، أجمعين، هو الإسلام العام، أي الإيمان بربوبيَّة الخالق وحده، وعدم العبوديَّة لسواه.
غير أن المشكلة الكبرى التي شكلت تحدِّياً حقيقيَّاً لذلك الخطاب تمثَّلت في أن غالب الجُّمهور الذي استهدفه الرَّجل في الغرب، من مسيحيِّين ويهود، لا يعترف بالإسلام أساساً، فلا معنى للقول بأنه يعترف بموسى وعيسى، ما جعل من ذلك المدخل خطة غير ذات جدوى، أصلاً، فما الحل؟!
لم يجد الزَّعيم الإسلاموي، يومها، ما يواجه به ذلك التَّحدِّي، سوى خطة بديلة تكاد تكون بلا مثيل، ليس، فقط، في أدبيَّات حركة الأخوان المسلمين التي انحدرت منهاحركته نفسها، وإنَّما في كلِّ تاريخ حركة الإسلام السِّياسي في المنطقة بأسرها،على تنوُّعها، ناهيك عن السُّودان. مستخلص تلك الخطة، ببساطة، أنه، طالما كانالإسلام يعترف بجميع الأنبياء، في تسلسل رجوعيٍّ حتَّى أباهم إبراهيم، فلماذا يصرُّ المسلمون على الانتساب الضَّيِّق إلى محمَّد، ولا ينسبون أنفسهم إلى إبراهيم، الانتساب الواسع، الجامع لهم مع المسيحيِّين واليهود؟!
(4)
في الإطار نشر التُّرابي مقالة توجيهيَّة شهيرة من جزئين، بعنوان "مرتكزات الحوارمع الغرب"، بمجلة "دراسات أفريقيَّة" المُحكِّمة، الصادرة عن "مركز البحوثوالتَّرجمة بجامعة أفريقيا العالميَّة". ولم يكتفِ بذلك، بل امتدَّ تأثيره الذي لا يحتاج لإثبات، على صعيد الفكرة الرَّئيسة لمقالته تلك، كي يشمل الأستاذين الجَّامعيَّين: حسن مكي الذي نشر إلى جواره، في نفس العدد، مقالة أخرى بعنوان "حوار الرَّسول الكريم مع اليهود"، وأحمد علي الإمام الذي نشر مقالة ثالثة بعنوان "بشائر مستقبل العالم الإسلامي في وجه التَّحدِّيات الحضاريَّة المعاصرة".
وفي الجزء الثَّاني من مقالته المشار إليها، أورد التُّرابي المقتطف المطوَّل التالي:"غالب الأوربيِّين، وقد غفلوا عن دينهم، قد يستفزُّهم المسلم إذا خاطبهم من خلالالمشترك الفكري للأديان الكتابيَّة، لأنهم، أصلاً، لا يعترفون بالإسلام، ولهذا نرى أنيكون الخطاب مدرجاً في سياق المقارنة من خلال الحدث الإبراهيمي لأنه هو الأصلالمشترك للأديان جميعاً، ويمكن للمسلم ألا ينسب نفسه إلى محمد النَّبي، بل يمكنأن يقول، تلطفاً، إنه لا يريد أن يُسمَّى (محمَّديَّاً)، ليخاطبهم كأنه يريد التَّحدُّث عنهذا التَّقليد الدِّيني الواحد في السِّلسلة النَّبويَّة منذ إبراهيم، وأن تتابع الأنبياءجميعاً ليس إلا تجديداً في تنزيل ذات القيم والمعاني خطاباً لأقوام مختلفين، وفيظروف وابتلاءات مختلفة. إن هذا هو منهج القرآن في الحوار بين المسلمين والكتابيِّين في سورة البقرة، إذ بعد أن بيَّن العلل التي طرأت على الدِّيانة الكتابيَّة بعد الرِّسالة، ردَّهم كافَّة إلى أصول الدِّين الإبراهيمي، وهو الإسلام. ومن هذا الأساس نحن ندعو إلى أن يتحوَّل الخطاب الإسلامي إلى هذا المشترك الرِّسالي الذي تبدأ به السِّلسلة النَّبويَّة، وكيف أنه لم يقتصر على المحليَّة الجُّغرافيَّة، ولا على الجُّغرافية الزَّمانيَّة، وإنَّما تحرَّك برسالته في كلِّ الشَّرق الأوسط، من العراق إلى فلسطين، فهناك زرع أبناءه وخلافته التي حملت سنَّته، ومن ثمَّ إلى أطراف مصر، ثمَّ إلى مكَّة حيث ترك هناك تراثه وخلافته أيضاً، وبعد ذلك كان إبراهيم عليه السَّلام أوَّل من بدأ يوسِّع دعوة الدِّين السَّماوي الكتابي، لا لقومه خاصَّة مثل الأنبياء من قبله، ولكنه أوَّل نبي وسَّع امتداد الجُّغرافيا على سياق خطابه العالمي، ففتح آفاقاً عالميَّة لرسالته. إننا بمثل هذا السِّياق العلمي في الطرح نستطيع أن ندخل على الغرب الذي يتأثَّر بالعالميَّة" (ع/12، يناير 1995م، ص 18 19).
ولم تغب فكرة الإبراهيميَّة، بنفس هذه الدَّلالة، عن المحاضرة التي ألقاها التُّرابيضمن فعاليَّات المؤتمر العام لشباب الإسلامويِّين المسمَّى "الاتحاد الوطني للشَّبابالسُّوداني"، والذي انعقد بقاعة الصَّداقة بالخرطوم في، أو حوالي، فبراير/مارس1998م، بمشاركة وفود من مختلف بلدان العالم، بما فيها أمريكا وأوربَّا. ففي تلكالمحاضرة بشَّر التُّرابي بدستور 1998م، كما دعا الشَّباب للتَّأسِّي بحركة الطلبة فيباكستان وأفغانستان "طالبان"، وبحركات الشَّباب والطلاب في أوربَّا، وركَّز، بوجهمخصوص، على أطروحته المعروفة ب "تحالف أهل الإيمان"، حيث أطلق، فيالسِّياق، نداءه الشهَّير إلى الشَّباب، والذي تناقلته الصَّحافة وأجهزة الإعلام، يومئذٍ،على أوسع نطاق: "تمرَّدوا، فقد كان إبراهيم متمرِّداً"!
(5)
كان من الممكن، على أيَّة حال، استقبال كلِّ ذلك باعتباره اجتهاداً مشروعاً،ومناقشته، عقليَّاً، على هذا الأساس، في ما لو كان صادراً من التُّرابي لوجه اللهتعالى، مثلما سبق للنَّاس أن استقبلوا اجتهاد الأستاذ الشَّهيد محمود محمَّد طه،اتفقوا أو اختلفوا معه، وبصرف النَّظر عن موقف من دبَّروا لاغتياله، لاحقاً، بسببذلك الاجتهاد، وفيهم جماعة التُّرابي نفسه.
لكن عِلة اجتهاد التُّرابي الكبرى، بخلاف اجتهاد الأستاذ الشَّهيد، إنَّما تكمن فيمعاظلته المفضوحة للنُّصوص الدِّينيَّة بما يأمل أن يسدَّ لديه حاجة ملحَّة لتبريرترتيبات سلطويَّة أبعد ما تكون عن وجه الله تعالى؛ فهي حاجة يصحُّ وصفها،والحال هكذا، ب "الذَّرائعيَّة"، ليس في معناها كأداة بسيطة من أدوات المعرفة، بلكمذهب متكامل في الحياة والمعرفة يتعارض مع المُثُل والمبادئ العقيديَّة، ويكاد يمثِّلالإسهام الفكري الوضعي الأمريكي الأهمَّ خلال الرُّبع الأول من القرن الماضي،وهو المذهب الذي يدعو، حسب مؤسِّسه فيلسوف التَّربية جون ديوي (1859م -1952م)، لإخضاع النَّظريَّات والأفكار كلها إلى غايات محدَّدة، إنْ خدَمَتها يؤخذ بها، وإلا فلا جدوى من ورائها، إذ لا قيمة لأيَّة نظريَّة أو فكرة، بالغاً ما بلغتقدسيَّتها، إلا بنتيجتها العمليَّة!
التُّرابي، والأمر كذلك، ليس "عقائديَّاً"، بالدَّلالة الدِّينيَّة، وإنَّما هو "ذرائعيٌّ"،بامتياز، في معنى مذهب جون ديوي، وعلى مَن يخالفنا الرَّأي إعادة قراءة هذهالمقالة من أوَّلها!
***
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.