السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    الهلال السوداني يلاحق مقلدي شعاره قانونيًا في مصر: تحذير رسمي للمصانع ونقاط البيع    تيك توك يحذف 16.5 مليون فيديو في 5 دول عربية خلال 3 أشهر    "ناسا" تخطط لبناء مفاعل نووي على سطح القمر    ريال مدريد الجديد.. من الغالاكتيكوس إلى أصغر قائمة في القرن ال 21    وفد المعابر يقف على مواعين النقل النهري والميناء الجاف والجمارك بكوستي    الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة يكشف عن إحصائيات بلاغات المواطنين على منصة البلاغ الالكتروني والمدونة باقسام الشرطةالجنائية    وزيرا الداخلية والعدل: معالجة قضايا المنتظرين قيد التحرى والمنتظرين قيد المحاكمة    صقور الجديان في الشان مشوار صعب وأمل كبير    الشان لا ترحم الأخطاء    والي الخرطوم يدشن أعمال إعادة تأهيل مقار واجهزة الإدارة العامة للدفاع المدني    الإسبان يستعينون ب"الأقزام السبعة" للانتقام من يامال    تكية الفاشر تواصل تقديم خدماتها الإنسانية للنازحين بمراكز الايواء    مصالح الشعب السوداني.. يا لشقاء المصطلحات!    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    دبابيس ودالشريف    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشوق والريد في زمن البريد .. بقلم: السفير موسس أكول
نشر في سودانيل يوم 04 - 11 - 2015

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
(1)
دَرج ساعي البريد على أن يهبط من دراجته الهوائية الأنيقة أمام بوابة المدرسة بطريقته البهلوانية المعهودة. كان يقرع جرس دراجته مرتين بإبهامه الأيمن، ويرفع رجله اليمنى من البدال ((الدواسة)) ويخرجها الى الجهة اليسرى من الدراجة من فوقعمود الكدر ((الأنبوبة العلوية)) وبين القيدون ((الميزان)) والسرج ((المقعد)) ، ثم يقفز الي الارض برجله اليمنى والدراجة ماتزال متحركة، ويركض معها خطوتين قبل أن يضغط على الفرامل ((المكابح)) بيديه الإثنين، وتقف الدراجة حالاً، ثم يسحب التكالة من جوار الإطار الخلفي للدراجة برجله اليُمنى، ويحمل الخطابات من السرج الخلفيقبل أن يلِج الى داخل سور المدرسة، ويهرع الى مكتب المدرسين، تاركاً دراجته على حافة الشارع وهي متكئة على ((التكالة)) كإمرأة عجوز أعياها السفر.
(2)
بما إنها بداية العام الدراسي، وغبار السفر ما لبث يكسو الحقائب بعد أن وصل معظم الطلاب الى المدرسة بالمركبات السفرية والقطارات وبالبواخر النيلية من مدنهم وقراهمالنائية، لا فكاك للقلوب اليافعة والقادمة للتو من الريف والفيافي من سحر المدينة الكبيرة وشوارعها الفسيحة وحدائقها الجميلة ومحلات التجارية الضخمة ودور السينما والرياضة. لكن، وبالرغم من أن نبض وإيقاع الحياة في المدينة قد قلبا الدنيا،كما عرفناها، راساً على عقب، إلاَ أن المدينة الكبيرة لم تفلح بعد في خمد نار الشوق للأهل والأحباب والحنين للبلدة الصغيرة ودوليبها ونخيلها وجنائنها وجروفها. ووضح جلياً منذ وصولنا هنا أن اللحظة العاطفية كانت تداهمنا دائماً في الفترة مابعد وجبة العشاء، حيث يلجأ جل الطلاب إلى غرف الدراسة الهادئة ليسطروا للاهل والأصدقاء على الورق ما يجيش في دواخلهم من شوق وحنين وخواطر عن الدراسة و((الغربة)) في المدينة الكبيرة. وكنا نترك الرسائل في ((الأدراج)) لكي نسلمها لساعي البريد في صباح اليوم التالي، حيث نضرب طوقاً محكماً حوله في الممر أمام مكاتب المدرسين قبل بدء الدراسة، ونشتري طوابع البريد بأنواعها وفئآتها المختلفة، كما نشتري أظُرف الخطابات العادية أو المخصصة للبريد الجوي و((الأيروغرام)).
يتابط الساعي خطاباتنا وهو يوزع الإبتسامة بلا كلل أو ملل، وسرعان ما نشاهده من نوافذ غرف الدراسة وهو يتهادى ((سداري)) بدراجته ((الرالي)) نحو ((حي النصر))المجاور والإيتسامة لا تفارق محياه وكأن عبارة ((ابسم تبسم الدنيا معاك)) المنقوشة بخط جميل على ((جِركِس)) دراجته الهوائية هي شعاره الوحيد في الحياة. ومن بقعة ما في وسط المدينة الكبيرة تسافر رسائلنا بالبواخر النيلية والقطارات والبصات السفرية وبالدوابي الي المدن والقرى القصية، وعاجلاً او عاجلاً تنزل أشواقنا برداً وسلاماً على الأهل والاحباب كالدُعاش في صباح باكر. و إلى الأُم العزيزة نسطر الرسالة الاولى منذ وصولنا الى المدينة الكبيرة؟
(3)
والدتي العزيزة،
تحية طيبة، راجياً من الرب أن تجدك رسالتي هذه وأنت والوالد والاخت الصغيرة على أتم الصحة وعافية. وبما أن هذه هي المرة الأولى التي أغادر فيها مدينتنا الجميلة والأهل والأصدقاء، مازالت الأشواق تعصف بي بشدة لم تكن في الحسبان، ولكن، وفي آن واحد، أشعر بسعادة عارمة وأنا على عتبة تجربة مهمة في رحلتي التعليمية في هذه المدينة الكبيرة وفي بيئة إجتماعية جديدة.
لقد وصلنا هنا بعد رحلة شيقة، قضينا خلالها ليلتين ممتعتين على متن الباخرة. سأكتب لك في الرسالة القادمة عن المحطات العديدة التي مررنا بها خلال هذه الرحلة الممتعة، وعن غابة ((زرزور)) الممتدة على الشاطي الشرقي للنيل والتي كانت تذودالبواخر النيلية بالوقود ((الحطب)) في زمن مضي، وساكتب لك لاحقاً عن افراس البحر و((أعشاب النيل)) التي لازمتنا شمالاً خلال هذه الرحلة الجميلة. سأكتب لك أيضاً عن ((جلهاك)) والتي كنت اتمني أن تحل بها الباخرة خلال ساعات النهار وذلك لأن أخي ((الطبيب)) دأب على الحديث عن هذه البلدة الصغيرة بنكهة خاصة مؤخراً. وبمناسبة ذكر ((الطبيب))، لقد استلمت منه رسالة جميلة حيث ذكر انه في طريقه الى زفاف صديقه في شرق البلاد، ووعد بالكتابة باخبار سارة بعد عودته من السفر، وختم رسالته بعبارة ((ياليت كنت في جالهاك!)) المبهمة، والتي قال إنه اقتبسها من اغنية بعنوان ((من الأسكلا وحلا)) لشاعرها الشهير ((ود الرضي)).
لقد وصلنا إلى هذه المدينة المدهشة قبل الساعة الثانية عصراً. أن أجمل معالم هذه المدينة الساحرة هو الجسر العالي الذي تبحر من تحتحه البواخر قبل أن ترسو على الميناء الانيق بعد مناورات معقدة وممتعة. وبما أن محطة القطارات قريبة جداً من الميناء النهري، لقد رأيت القطار لأول مرة! إلتقطنا صوراً عديدة بجنب قطار مكتض بالركاب، وسأرسل لكم الصور بعد أن يتم ((تحميضها)) في الإستديو.
أن هذه المدينة تعتبر مفترق الطرق وتعج طرقاتها ببصات سفرية في طريقها الى ومن تندلتي، وأم هاني، والشوال، وشبشة، وجودة. هناك أوجه شبه كثيرة بينها ومدينتنا، إلا أن ميناء مديتنا أجمل لأنه إمتداد طبيعي لشاطئ جميل يمتد لأكثر من سبعة كيلومترات من ((حلة الليري)) جنوباً الى ((المطار الدولي)) شمالاً حيث النيل والدوليب والعندليب في عناق دائم.
إنتقلنا ((بحافلة)) خاصة من الميناء النهري إلى المدرسة العريقة والتي تقع بمقربة من ((حي السرايات)) العريقة، وبمقربة من كثبان الرمال ((القوز)) التي تمد منها هذه المدرسة إسمها.
مرسل لكم صورة فوتوغرافية تذكارية تجمعني فيها ببعض زملاء الدراسة، ولقد تم التصوير في ((إستديو صلاح))، اشهر إستديو في المدينة.
وإلى أن نلتقي في رسالة اخرى، لكم مني جميعاً كل الحب والمودة!
(4)
جلستْ الاُم على البساط ((البِرِش)) وقد جمعتْ احدى رجليها بينما مدتْ الاخرى. شرعتْ في إملاء رسالتها لإبن جارتها الذي إنهمك في الكتابة بينما أخذت رائحة القهوة تتسرب من ((الشرقرق)) لتضفي نكهة خاصة على هذه الرسالة الحميمة.
إبني العزيز،
لقد سعدنا كثيراً بقراءة رسالتك الجميلة. الجميع بالخير إلاّ أن الوالد إنشغل كثيراً بإجراءات الزواج. لم يشاء الوالد إقحامك في هذا الأمر ولذلك لم يكتب لك عنه. ولكن انه من حقك أن تعلم مبكراً أن الاسرتين قد باركتا زواج ((الطبيب))، ولقد تقرر أن يتم جميع المراسم هنا في الصيف المقبل.
لقد أدخل أخوك السرور في قلوبنا بقراره المفاجئ هذا. لقد ظل ((الإبن الأكبر)) وفياً ومخلصاً لنا وللاسرة منذ أن تخرج من الجامعة، وهو قرة أعيننا ونحن راضون عنه تماماً. لقد بعث ((الطبيب)) لوالدك برسالة قبل بضعة أيام بينما كان في طريقه بالقطار من زواج صديق له، ولقد ارسل ((الطبيب)) خطاب ((حوالة)) من عربة البوستة في القطار، وقد قام والدك بإستلام المبلغ من مكتب البريد هنا، وسيساعد هذا المبلغ في تلبية بعض متطلبات الزواج. أن ((الطبيب)) يتمنى أن تكون مناسبة زواجه حفل بهيج ومهرجان كبير للاهل والاصدقاء في كل بقاع البلاد بما في ذلك ((جلهاك)).
وفي الختام، نتمنى لك عام دراسىي ناجح. لابد أن تجتهد في الدراسة وأنت تعلم كيف أن الاسرة ترجو منك الكثير وكلنا واثقون في ذكائك واستقامة أخلاقك. لا تصاحب أصحاب السوء أو الذين ينسونك صلاتك وصلاتك بالاهل. كما نرجو أن تتوغى كل الحذر عند عبورك الشوارع. إتقي شر سيارات المدينة الكبيرة.
أن اختك تبلغك تحياتها، وتريد أن تكتب لك بخط يدها نشيد قالت انه تعلمته من المدرسة قبل يومين:
امي العزيزة امي...
انت كعيني وقلبي...
أنت أعز علىَ من كل أهلي وصحبي...
إن كنت يوماً مريضاً تأتي وتبكي بقربي
لقد سمعت النشيد لأن اختك كانت تقرأه بصوت عال اثناء ((إدعائها)) الكتابة، ولكن هل تستطيع هذه ((الجربوعة الجاهلة)) ان تكتب حقاً؟ سبحانه الله!
نتركك في رعايته وامانه، مع اكيد شوقنا وحبنا.
(5)
الى أخي العذيذ،
كما أخبرتك في الرسالة السابقة ان إجراءات زواج إبننا ((الطبيب)) تسير على مايرام. يبدو أن الموعد الذي توصلنا إليه من قبل قد أصبح الآن مقبول للجميع، وعليه نؤكد قيام الحفل والمراسم الاخرى في مطلع الشهر الثاني للعطلة الصيفية القادمة. لقد أرسل ((الطبيب)) خطاب ((حوالة)) وهو مسافر بالقطار من الشرق الى مكان عمله الجديد. لقد بدى سعيداً بإجراءات زواج صديقه، كما تمنى أن يخرج حفلنا في ثوب قشيب يدخل البهجة في نفوس الاهل والأصدقاء.
سنقوم في الوقت المناسب يتوزيع رقعات الدعوة بشتى الوسائل بما في ذلك كل أنواع البريد.
تحياتي وأشواقي الحارة للاسرة والجيران.
دمتم في رعايه الله وحفظه.
(6)
الى امي الحنونة،
لقد إنهمرت دموع الفرح غذيرة وأنا أقرأ رسالتك المؤثرة. لم يخالجني أي شك بأنك والوالد ستباركان هذا المشروع الذي هو حلمنا وحلم كل الاهل والاصدقاء، وهو مشروع يحسدني عليه الصديقات والزميلات.
انا سعيدة الحظ لانني نعمت بطفولة ورعاية قل ما يعيشها معظم أطفال بلادي الا في الأحلام، لذلك لا أدري كم سهرت الليالي في دعواتي وفي مذاكرة دروسي حتى ترضيا عني وانتما في أتم الصحة والعافية. لا غرو لقد سرت في اثركما عندما إتخذت من مهنة التدريس رسالتي في الحياة، وهذا بالرغم من علمي اليقين بانني سوف لن ابلغ مقامكما التربوي مهما بذلتُ من جهد. انكما النبراس الذي يضئ طريقي في هذه الرحلة النبيلة. أن سعادتي غامرة وأنا ((الإبنة الكبرى)) أشعر الآن كأنني عصفورة صغيرة أوشكت أن تطير من عش الأبوين للمرة الاولى إلى عش الزوجية. شكراً لكما إذ فرشتم طريقي بالنصح والود في كل الأوقات وبالصرامة المطلوبة عند منعطفات الحياة الحادة.
لقد أسعدني ((الطبيب)) أيما سعادة عندما عرج على المدرسة قبل بضعة أيام وأهداني كتاب ((ذكرياتي في البادية)) لكاتبه ومربي الاجيال الاستاذ حسن نجيلة. وها أنا الآن منغمسة في هذا الكتاب الذي يجب ان يقراءه كل معلم ومعلمة. لقد إندهشت كثيراً كيف أن ريف بلادي لم يتبدل كثيراً وكيف أن أهلي ((الغبُش)) لم يفقدوا مثقال ذرة شهامة أوكرم أو مرؤة.
حقاً، أن ((الطبيب)) رجل جميل الخَلق والخُلق، وغذير العلم، ووفي للأهل والأصدقاء، ولقد ترك إنطباع جميل وسط زميلاتي المعلمات، بحيث أن من الاقوال التي أصبحت ((مأثورة)) في المدرسة الآن هو أنه لو ((الطبيب)) اختار دراسة الطب البشري لكان في مقدوره أن يعالج المرضى بوسامته وإبتسامته فقط!
بالرغم من طبعه الهادي، إلا أن ((الطبيب)) إنسان خفيف الظل ومرهف الحس، ولقد أبدع في وصف ((السيرة)) بالقطار حيث خصص صديقه ((العريس)) ثلاث عربات في القطار للأهل والاصدقاء. وفي رحلة إستغرقت يوماً كاملاً، إستمتع الجميع فيها بالرقص والغناء. ومن الطرائف التي ذكرها ((الطبيب)) هو كيف كاد احد اقرباء العريس أن يفسد على الجميع المتعة اثنا الرحلة وهذا بإصراره على الغناء بالرغم من أن صوته، بحسب ((الطبيب))، يتراوح بين الصهيل والنهيق، ولم يتذكر صاحبنا ((أن أنكر الأصوات لصوت الحمير!)).
((الطبيب)) الآن في طريقه بالسيارة الى مقر عمله الجديد، والذي قال إنه لا يمكن أن يكون أجمل من ((عروس الرمال)) بإي حالِ من الأحوال، إلا أنه سعيد للغاية، وذلك لأنه سيتولى منصب نائب المدير في عمله الجديد. لكن السر الحقيقي لسعادة ((الطبيب)) يكمن في حقيقة واحدة، ألا وهي أننا سنبني عشنا الجديد في هذه ((المحطة الجديدة))! أمسكو الحشب!
سأوافيكم بإنطباعات ((الطبيب)) عن مقر عمله الجديد حالما يصلني بريده خلال اليومين القادمين. والى ذلك الحين، لكم ولأهل ((جلهاك)) حبي وأشواقي الزائدة.
(7)
الى صديقي الحميم،
تحية طيبة،
أستميحك عذراً ياصديقي لعدم تمكني من الكتابة فور وصولي الى المدرسة. لقد وصلنا هنا بعد رحلة شيقة قضينا خلالها ليلتين قمريتين على متن الباخرة ((المريخ))، ولك أن تتخيلِ كيف كانت تكون سعادتي إذا تمت هذه الرحلة على متن باخرة تسمى ((الهلال))! كما تعلم أن الوالد هو الوحيد الذي يشجع ((المريخ)) في الاسرة. على أية حال ((نظرنا وماشاقنا غير هلالو)) خلال هاتين الليلتين الجميلتين على متن ((المريخ)). ولكن لكي لا أُتهم بالتعصب الأعمى، لابد أن أقر أن الباخرة ابدعت في نقلنا في رحلة ستبقى منقوشة بلاشك في الذاكرة مدى الحياة.
بالرغم من أني قد شاهدت صوراً ورسومات للقطار من قبل، إلا أن مشاهدة هذا الإختراع الأسطوري عن كثب يفوق الوصف. لم نستطع مقاومة حب الاستطلاع، كما لم يصمد الخوف من المجهول امام سحر القطار. صعدنا سريعاً الى عربة مكتضة بالركاب وخرجنا سريعاً كالسناجيب من اخرى لا تقل إزدحاماً بركاب في طريقهم الى العاصمة ومحطات اخرى على طول الطريق الحديدي. إلتقطنا صور عديدة ونحن وقوف بجنب القطار. ياله من منظر! أتطلع لليوم الذي أسافر فيه بالقطار حتى في رحلة قصيرة!
لم تدم مغامرتنا طويلاً , وذلك بفضل السيد ((الصول)) الذي باغتنا بحضوره المفاجئ، وأمرنا بحمل أمتعتنا الى سيارة المدرسة فوراً. وفي صوت جهوري صارم، قال السيد ((الصول)) انه يفترض اننا اتينا من ((الأقاليم)) طلباً للعلم في المدينة الكبيرة، وتبرع سيادته فوراً بنصيحة مجانية لكل من ترك قريته آملاً في فرصة للسياحة فان عليه ان يصعد الى القطار فوراً وأن يسافر حيثما يشاء وبلا رجعة وغير مأسوف عليه. انها بداية مدوية، ياصاح، لهذه الرحلة العلمية في هذه المدينة الكبيرة وفي معية هذا (( الصول)) الذي يصول ويجول بصولجانه، غير آبه، على ما يبدو، بالإنس أو بالجن!.
لقد إتنظمت الدراسة في هذه المدرسة العريقة التي فاقت كل توقعاتي، والتي طالما حدثني اخي ((الطبيب)) كثيراً عن السنوات الجميلة التي قضاها هنا. وبمناسبة ذكر ((الطبيب))، سيسرنا كثيرا إذا حضرت لقضاء عطلة الصيف معنا وذلك لكي نحتفل والاهل بزواجه المتوقع قيامه خلال العطلة المدرسية. سأكتب لك لاحقاً عن تفاصيل المراسم وهلم جرا. ارجو ان تعتبر هذه بمثابة دعوة رسمية لحضور هذه المناسبة الكبيرة.
أرجو أن تحدثنا أكثر عن سير الدراسة طرفكم.
الى اللقاء مع خالص الاشواق!
(8)
الى الغالية،
لقد وصلت صباح اليوم لهذه القرية الوادعة على ضفاف النيل الأزرق. أن أي محاولة بمقارنتها ((بعروس الرمال)) فيها الكثير من الإجحاف بلا شك. لقد وجدت ترحيباً حاراً من الزملاء ، وقد قمت بزيارة المزرعة و((البيارات)) والمنشأت الاُخرى الخاصة بهذا المركز الحيوي والذي سيكون محطة كبيرة في حياتي العملية وحياتنا الزوجية. ولقد تفقدت مكتبي الذي يمكنني أن أطل من احدى نوافذه نحو النيل الازق حيث شاهدت اليوم طيور جميلة تداعب الأغصان على شاطئ النهر. والآن من الحديقة الصغيرة لمنزلنا (أجل، بيتك بعد بضع أشهر) أُشاهد الشمس بلونها القرمزي وقد بدت في الغروب كأنها بالونة كبيرة تكاد أن تهبط في وسط غابة الطلح والهشاب وراء الشاطئ على الضفة الاُخرى من النهر. ليتني أستطيع أن أصنع لك كرت تذكاري ((بوستكارت)) من هذا المشهد الجميل!
ولكن ،والأهم من كل ذلك، لقد وجدت الإجابة صباح اليوم على أهم شاغل كان يؤرق مضاجعي قبل الوصول الى هنا والمتعلق بالبريد والبوستة.
أتذكرين القصة التي سردتها لك مراراَ عن ساعي البريد الذي درج على أن يهبط من دراجته الهوائية بطريقته البهلوانية المعهودة أمام مدرستنا بالقوز الثانوية؟ أتذكرين كيف كان يقفز الي الارض برجله اليمنى والدراجة ماتزال متحركة، ويركض معها خطوتين قبل أن يضغط على المكابح بيديه الإثنين، وتقف الدراجة حالاً، ويسحب البريد من ((السرج الخلفي)) للدراجة؟ كم كان ذلك رائع! لكن، كلا ياعزيزتي، ليس هنا شئ من هذا القبيل! لعملية إستلام البريد هنا طقوس عجيبة ونكهة خاصة وعبق فريد.
لأن ((مركز أُم بنين لتحسين الماشية)) يقع على الطريق الرئيسي الذي يربط جنوبالمنطقة الشاسعة بشماله، لقد تم الاتفاق على أن يحمل أحد ((الحافلات)) السفرية البريد الى هنا. عليه ينطلق البص التجاري المحمل بالبريد صوب ((اٌم بنين)) في الصباح، وبعد عشرين دقيقة تقريباً تجتاز السيارة غابة السنط وتتجاوز الجزء الشمالي لسور ((المركز))، ويخفض السائق السرعة ويلزم بسيارته أقصي يمين الطريق. وعلى بُعد أقل من خمسين متر من ((البوابة)) يضئ السائق نور سيارته ويطلق العنان لبوق السيارة والذي هو عبارة عن نغمة ((إنت كلك زينة)) الشهيرة، ويزداد خفقات القلوبة المتيمة، ويهرع أحد العمال ليستلم البريد من سائق ((الحافلة)) قبل أن ينطلق الأخير صوب أبي حجار والدمازين بسيارته ((الزينة والعائمة كالوزينة))وسط غبار كثيف. كم أتوق لمشاهدة هذا المشهد الإحتفائي لإستلام البريد، إلا انه لابد لي أن أنتظر يوم آخر وذلك لأن البريد سيحتجب غداً بمناسبة عطلة نهاية الأسبوع!
لقد سعدت كثيراً باللحظات الجميلة والقصيرة التي زرتك فيها في مقر عملك وأنا في طريقي الى هنا. أرجو أن تبلغي تحياتي وإحترامي وإمتناني للسيدة مديرة المدرسة وزميلاتك المعلمات عل حسن إستقبالهن وعلى الكلمات الطيبات التي سمعناها منهن عبرك. لقد إزداد احترامي كثيراً لرسالة التدريس وأنا أشاهد المعلمات وهن تؤدين واجباتهن بلا كلل أو ملل وهن بعيدات مئات الاميال من الاهل والعشيرة. أنني سعيد لأنك تنتمين لقبيلة الذين لا قبيلة لهم سوى العلم والتعليم! ستتركين ،بلاشك، فجوة في المدرسة حين تنتقلين لمدرسة ((أُم بنين)) في العام المدرسي القادم! كم نسعد أن تشاركنا زميلاتك افراحنا في الصيف!
لقد سعدت كثيراً أيضاً بمواصلة الرحلة من مدرستك الى هنا بالسيارة الحكومية، إذ إستمتعت بالمناظر الخلابة والمساحات الشاسعة بمنطقة ((مايرنو)) والمناطق المجاورة للنيل الأزرق. لم نواجه أي صعوبات تذكر خلال الرحلة، سوى ثقب اصاب إطار السيارة بالقرب من قرية ((ودهاشم))، إذ تم اصلاح العطب بجهد قليل.
مازالت أنغام الموسيقى و((بف نفس)) قطار الشرق، وزغاريد ((السيرة)) تتراقص في مخيلتى، ومازال منظر نهر ((القاش)) الدفاق و جبال ((التاكا)) و((التوتيل)) وحدائق ((البان جديد)) ماثل أمامي، كما مابرح أنين ((السواقي الجنوبية)) يدغدغ مسامعي ويعبث بأوتار أشجاني. أتمنى أن تكون مراسم زواجنا حفلاً بهيجاً ومهرجاناً كبيراًيسعد الاهل والاصدقاء في كل بقاع البلاد.
تجتاحني سعادة غامرة وأنا ألحظ الامور تسير في الإتجاة الصحيح لتحقيق حلمنا الجميل، وكل شئ في هذه اللحظة يبدو كحلم جميل لا يرد المرء ان يستيقظ منه. أمسكوا الخشب!
وأخيرا، وقبل أن أخلد للنوم وأنا أترقب خطابك، كم يكون جميلاً، كما ذكرت في احدى رسائلك، إذا تم تخصيص يوم نسجي فيه أجمل معاني الشكر والوفاء ((للبريد)) و((ساعي البريد)) ونحتفل بالأخير ولو في ابيات بسيطة كالتي ترددينها كثيراً ((حملتك جوابي... ياساعي البريد...للسافر وطول في البلد البعيد...حملتك أمانة...للعايش وحيد...في عمله يكافح للبيت السعيد...للسافر عشاني...وما قاصد الغياب...عايز يبني نفسه...زي كل الشباب...ويرجع لي تاني...وينسيني العذاب)). ولكن فوق هذا وذاك، أرجو أن تعلمي، عزيزتي، أن أصدق وأنبل معاني الشوق والريد في ((بريدِك!)).
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.