مجلس الأمن يعبر عن قلقله إزاء هجوم وشيك في شمال دارفور    أهلي القرون مالوش حل    مالك عقار – نائب رئيس مجلس السيادة الإنتقالي يلتقي السيدة هزار عبدالرسول وزير الشباب والرياض المكلف    وفاة وزير الدفاع السوداني الأسبق    بعد رسالة أبوظبي.. السودان يتوجه إلى مجلس الأمن بسبب "عدوان الإمارات"    السودان..البرهان يصدر قراراً    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    أزمة لبنان.. و«فائض» ميزان المدفوعات    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا "أدروب" يوجه رسالة للسودانيين "الجنقو" الذين دخلوا مصر عن طريق التهريب (يا جماعة ما تعملوا العمائل البطالة دي وان شاء الله ترجعوا السودان)    شاهد بالفيديو.. خلال إحتفالية بمناسبة زواجها.. الفنانة مروة الدولية تغني وسط صديقاتها وتتفاعل بشكل هستيري رداً على تعليقات الجمهور بأن زوجها يصغرها سناً (ناس الفيس مالهم ديل حرقهم)    اجتماع بين وزير الصحة الاتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    شاهد بالفيديو.. قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل يكشف تفاصيل مقتل شقيقه على يد صديقه المقرب ويؤكد: (نعلن عفونا عن القاتل لوجه الله تعالى)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    حملات شعبية لمقاطعة السلع الغذائية في مصر.. هل تنجح في خفض الأسعار؟    استهداف مطار مروي والفرقة19 توضح    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خواطر حول شاعرية أبي نواس وثقافته .. بقلم: صلاح الدين التهامي المكي
نشر في سودانيل يوم 20 - 12 - 2015

كانت المعارف و سائر العلوم في الزمن الذي عاش فيه الشاعر المبدع ابي الحسن بن هانيء الملقب بأبي نواس تنضوي كلها تحت لواء الفلسفة وكان علماء ذلك الزمن يجنحون نحو الموسوعية وليس التخصصية التي أصبحت سمة العلم في عصرنا الحديث. نرجع لأبي نواس و شخصيته المثيرة للجدل بلغة هذا العصر. أعتقد أن الخيال الشعبي الذي يميل للمبالغة وينزع نحو الأسطورية فعل فعلته في شخصية أبي نواس وصورته النمطية التي تبلورت عبر عصور التاريخ الأدبي والتي تتبادر الى الأذهان كلما ذكر هذا الشاعر، وهي شخصية رجل الدنيا المنصرف بكلياته نحو اللهو والعبث. هناك جانب آخر من شخصية أبي نواس لم يغفله معاصروه ومن أرخوا لشخصيته و هو جانب الرجل المثقف صحيح أنه كرس موهبته الشعرية الضخمة للخمر ووصفها والتغني بها فكانت مدار حياته ومثارإهتمامه و كرس لهاالكثير من أشعاره وكان على قصر عمره الذي لم يتجاوز الخمسين الا بقليل فياض الانتاج غزيره، كان مثل جرير يغرف من بحور الشعر وليس مثل الفرزدق ينحت من صخور الشعر. سأحاول في هذه العجالة أن أميط اللثام عن هذا الجانب من شخصية الحسن ابن هانيء لم يحفل به كثيراً المتقدمون والمتأخرون وهو جانب الرجل المثقف الذكي الألمعي الملم بجوانب من ثقافة عصره الأدبية والعلمية والطبية.
المعارف الدينية
اما عن ثقافته الدينية قال ابن المعتز في (طبقاته) : " كان أبو نواس ٍ عالماً فقيهاً عارفاً بالأحكام والفتيا، بصيراً بالاختلاف، صاحب حفظٍ ونظرٍ ومعرفةٍ بطرق الحديث، يعرف محكم القرآن ومتشابهه ، وناسخه ومنسوخه."
المعارف اللغوية و الشعر و العروض
لا نعرف على وجه التحديد كيف كون ابي نواس ثقافته العلمية وان كنا نعرف كيف كون ثقافته الأدبية و اللغوية والشعرية و كيف أنه حينما طلب العلم وهو فتى يافع يتيم قابل ,أستاذه الأول والبة بن الحباب ثم العالم النحوي اللغوي المشهور خلف الأحمر والذي نصح الفتى بتلك النصيحة التي تناقلها الرواة وتداولها كتاب السير الأدبية لطرافتها وهي التوصية بحفظ كمية ضخمة من أشعار الأقدمين يقال إنها عشرة ألاف بيت من الشعر ثم نصحه بنسيانها حينما قابله المرة الثانية و كيف فعلت تلك النصيحة فعلها فأخرجت لنا تلك العبقرية الشعرية أوساهمت في اخراجها من مكامن قوتها . خلف الأحمر كان كما تدل على ذلك قصائده رجل قوي العارضة ذو بأس وهو القائل يصف كيف يهابه الأعداء:
يرون الموت دوني و صلَ صفا لنابيه ذبابُ
من المتجردات بكهف طود عِرامٌ لا يرامُ لها جنابُ
أبى الحاوون أن يطأوا ثراه ولا تسري بعقوته الذئابُ
إذا ما الليل ألبسه دجاه سرى أسمى تصيح له الشعابُ
لم تكن المعارف بالقدر من التنظيم والمؤسسية والبيروقراطية التي هي عليه اليوم. كانت المعارف متاحة و لكن ببعض الشروط . نستشف ذلك من بعض القصص التي تواترت عن ذلك الزمان علها تلقي ضوءاً كاشفاً ومنها قصة الشاعر بشار إبن برد ومنعه من الدخول لمقابلة الخليفة و كيف طرد ابو العلاء المعري من مجلس الشريف المرتضي ببغداد حينما تجادلا حول المتنبيء. وكان ولاة الأمر يحتجبون وكذلك كان العلماء يحتجبون كان البعض لا يسمح له بالدخول بتاتاً فيعود أدراجه من حيث أتى يجرر أذيال الخيبة. الحجاب بلغة عصرنا هو الدخول المسيطر عليه وينطوي على معايير إنتقائية تشكل أسس القبول أو الرفض. الحجاب لا يزال قائماً في عصرنا ولكن تحت مسميات أخرى. الحجاب هو المعادل الموضوعي لما يسمى اليوم أسس القبول أو معايير الإنتقاء
فحولته و جزالة شاعره
قد يختلف الناس حول مجونه وطريقة حياته البوهيمية المنصرفة نحو اللذات و شرب الخمر ونهجه الذي إنتهجه في الحياة والذي يتعلق في المقام الأول بهويته الشخصية لكن لا يختلف اثنان حول موهبته الأدبية و شاعريته التي كرسها لوصف الخمر ومجالس شربها , وبعض الأغراض الأخرى مثل المدح، الهجاء، الرثاء ، الغزل و كان يدعو لتجديد موضوع القصيدة العربية و ليس شكلها أو مبناها. يتضح ذلك من قوله
صفة الطلول بلاغة القدم فأجعل صفاتك لإبنة الكرم
لقد بدت موهبة الشاعر وفحولته وجزالة شعره وقوة نظمه ظاهرة في مقابلته الأولى للخليفة العباسي محمد الأمين هارون الرشيد وفي تلك القصيدة المشهورة
يا دار ما فعلت بك الأيامُ ضامتك والأيام ليس تضامُ
وإذا المطي بنا بلغنا محمداً فظهورهن على الرجال حرامُ
رفع الحجابُ لنا فلاح لناظرٍ قمرٌ تقطع دونه الأوهامُ
فالبهو مشتملٌ ببدر خلافة لبس الشباب بنوره الإسلامُ
أصبحت يابن زبيدة ابنة جعفرٍ أملاً لعقد حباله إستحكامُ
فسلمت للأمر الذي تُرجى له وتقاعست عن يومك الأيامُ
فهل تقاعست الأيام عن يوم الأمين وهل رأى الشاعر بعين بصيرته مصرع الأمين؟
لم يكن لقاء الخليفة العباسي مع الشاعر الموهوب أبي الحسن بن هانيء لقاءاً عابراً بل إذدهرت بين الإثنين عرى علاقة وطيدة وصداقة وتواصل كانت مقابلة مؤثرة شأنها شأن بعض مقابلات الأعلام مع بعضهم البعض لها ما بعدها وقد تكون لها أيضاً أهميتها التاريخية.
تقافته العلمية و الطبية
وإذا كنا نعلم الكثير عن ثقافته الدينية واللغوية فنحن نعلم النذر اليسير عن ثقافته العلمية والطبيةولعل عمل ابي الحسن ابن هانيء وهو فتى يافع كصبي عطار في البصرة قد يكون المفتاح لسبر أغوار هذا الجانب الخفي من حياته القصيرة المفعمة بالأحداث الجسام. أبي الحسن بن هانيء صبي العطار الموسوم بالذكاء اللماح والمبشر بالمستقبل الواعد ربما كانت فترة عمله كصبي عطار من أخطر مراحل حياته التعليمية بالطبع لم يكن ذلك الصبي الذي يحمل في عقله وقلبه جينات الكائنالمثقف المشغوف بطلب العلم كأي صبي عطار آخر تماماً مثلما لم يكن أبي العتاهية مثل أي صانع جرار فخار آخر ومثلما لم يكن المتنبيء مثل أي ابن سقا آخر يبيع الماء في سوق الكوفة.
ولا يخفى على أحد العلاقة بين مهنة العطارة من جانب والكيمياء والطب من الجانب الآخر. وربما أفاد الفتي الذكي اللماح شيئاً ما من هذه التجربة العملية المثيرة و ربما سمع العطارين يتكلمون عنمعارفهم وتجاربهم وطرائق عملهم فإستقر في نفسه شيءٌ من هذا أو ذاك فنهل من ذاك المعين بذكائه وحساسيته المعهودة وعرف شيئاً من المعارف والتقنيات التي كانت متوفرة في ذلك العصر السحيق, كذلك توجد في أشعار ابي الحسن بن هاني أشارات و شذرات متفرقات تتناثر هنا وهناك في ثنايا قصائده كما تتناثر ذرات الذهب في عروق الذهب، يمكن أن يُستشف منها شيئاً حول هذا الأمر. ومما لاشك فيه أن مهنة العطارة كانت مرتبطة بعلم الكيمياء القديم ولعل العطارين كانوا هم الكيمائين الأوائل أو الرواد الأوائل لمهنة الصيدلة وهي مهنة كما يعلم الجميع تُعنى فيما تعنى بالسم والترياق وما إليه.
كان الشاعر مفتونا بالخمر وما بها من الحبب، بصوتها وهي تفور في الدن وقد شبه ذلك الصوت بأنة المريض بلونها وبكوبها الذي حبته "بأنواع التصاوير فارسُ" و كثيراً ما اعلن الشاعر انحيازه للخمر في صراعها المزعوم مع الماء الذي هو سر وجود الحياة أنه العنصر الأولى – أو ما يطلق عليه بالانجليزية – proto- type وهو عنصر متوفر في الطبيعة بينما الخمرة مادة مصنوعة أو مركبة فيها شيء من الجهد الإنساني ويزعم الشاعر أن بينهما شحناء أو بغضاء لاختلاف التركيبة الكيمائية لكل منهما. هذه النظرة للخمر تدل أن الشاعر كان ملماً بعلم الكيمياء والذي كان في بداياته الغضة الأولى وكانوا يسمونها الخيمياء كان الكيمائيون الأوائل يكرسون جل اهتمامهم في ترتيب العناصر من حيث شرفها وسموها وكانوا مهتمين كذلك بالبحث عن الإكسير وحجر الفلاسفة. يدلُ هذا أن الكيمياء في نشأتها الأولى كنت متأثرة بالسحر متعلقة بالأوهام مما حدا بابن الروميالى وصمها بالفشل حين قال "كالكيمياء التي قالوا ولم تصبِ" لكن ، وخلافاً لما ذكره ابن الرومي وكان صحيحاً في وقته، فإن الكيمياء وسائر العلوم نجحت حينما نفضت عن كاهلها غبار الدهور وسارت في الإتجاه الصحيح مستندة على أسس عقلانية راسخة.
حفلت أشعار أبي الحسن ابن هاني بالكثير من المفردات والمصطلحات العلمية والطبية. و قد شبهَ في عدة مناسبات صوت الخمر وهي تفور في الدن بأنة المريض، أنظر اليه حيث يقول عن الخمر
أنت زماناً كما أنَ المريضُ، وما
تُشفى فدافع عنها الخالق الباريء
و
وتحدث أبي الحسن بن هانيء عن كون الخمر داء و دواء أنظر اليه حيث يقول
دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ
وداوني بالتي كانت هي الداءُ
و تقنية أخذ الدواء من الداء هي تقنية طبية قديمة قدم التاريخ الطبي. لكن أبي الحسن بن هانيء يريد أن يلعب بالداء والدواء فيجعل الدواء داء و الداء دواء
وحينما يسأل أبو نواس صديقه عيسى بن جبريل عن الخمر يجيبه الأخير:
سألت أخي عيسى وجبريل له عقلُ
فقلت الخمر تعجبني فقال كثيرها قتلُ
فقلت له فقدر لي فقال وقوله فصلُ
وجدت طبائع الإنسا ن أربعة هي الأصلُ
فأربعةٌ لأربعةٍ لكل طبيعة ٍ رطلُ
في هذه الأبيات إشارة لطبائع النفوس والأشياء أو ما يسمى العناصر الأربعة: الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة. وقد أولى فلاسفة الإغريق إهتماماً كبيراً بمسألة العناصر الأربعة وكانوا يرون أن الجسم الإنساني مكون من نظائر لتلك العناصر وبالتالي فإن طبائع الأشياء هي أيضاً طبائع الإنسان الترابية والمائية و الهوائية و النارية وقد أثرت تلك الفكرة على الفلسفة و الطب وعلم الفلك والكيمياء في العصور القديمة وحتى مطالع العصر الحديث تأثيراً ضخماً وهذا يدلنا أن أبي الحسن بن هانيء لم يكن ملماً بثقافة عصره الفلسفية والطبية فحسب بل سعى لتوظيفها أدبياً و شعرياً فنتجت عنها تلك الأشعار الخالدة التي تأخذ بمجامع القلوب. وكما أراد ابو نواس أن يلعب بين الخمر والماء والداء والدواء يريد أيضاً أن يلعب بطبائع الأشياء. تشير المراجع العلمية أن أول من وضع نظرية العناصر الأربعة هو الفيلسوف الإغريقي إمبيدوقليس ( 490 / 430 ق.م) وتبناها فيما بعد كل من أفلاطون وأرسطو ومن الطريف أن أمبيدوقليس هذا كان يعتقد أن العناصر الأربعة ذات طبيعة بسيطة، دائمة وغير قابلة للتغيير، وأن أي تغيّر في الطبيعة هو نتيجة مباشرة لتمازجها وانفصالها، فقد اقترح إيمبيدوكليس وجود نوع من القوى المحركة، التي تقوم بعملية المزج والعزل، وهي الحب والبغض، الحب يفسّر تمازج أشكال مختلفة من المواد، والبغض يفسر السبب في انعزالها.
كثيراً ما يتحدث أبي نواس من منطلق ثقافته العلمية والكيمائية عن التفاعل والمزج والتمازج والتنافر بين عنصر الماء من جهة وعنصر الخمر من الجهة الأخرى و يزعم الشاعر منتصراً للخمر على الماء أن بين الإثنتين شحناء أي بغضاء. كان ابو الحسن يلعب بين الخمر والماء فيا له من لاعب و يالها من لعبة أزلية و يقول منشداً
بَينَ المُدام، وبَينَ الماء شَحناءُ، تَنْقَدُّ غَيْظا، إذا ما مسَّها الماءُ
حتى تُرَى في حوَافي الكأس أعيُنُها بِيضاء وليس بها منْ عِلَّة ٍ داءُ
لاحظ المفردات و المصطلحات الطبية : (علة و داء أعين بيضاء أي مصابة ببياض العين)
هل في شعر ابي نواس أصداء مما ذكر فيلسوف الإغريق من الحب و البغض بين العناصر كشرط لازم للإتحاد أو التنافر بينها أم أنه مجرد توارد خواطر وقع الحافر على الحافر كما يقول الأدباء وإنكان الأمر كذلك فإنه لا مستغرب ولا مستبعد، فالناس كالناس والأيام واحدةٌ على رأي أبي العلاء المعري. ويقودنا هذا الى السرقات الأدبية و التي كان أبو نواس ضحية لها و هي ما تواتر عبر قرون التاريخ الأدبي العربي من قصص المجون التي كان يضعها البعض و ينسبونها لأبي الحسن ابن هانيء و السرقة الأدبية هي أن تنسب عملاً أدبياً لغير مصدره الحقيقي بغض النظر عن من هو السارق. و أستبعد أن تصدر تلك البذاءات من الحسن بن هانيء و هو من هو ومن أعظم الشعراء الذين أنجبتهم النهضة العربية الإسلامية. كان مثقفاً أديباً أريباً لا يتواصل إلا مع صفوة الصفوة وليس مع السوقيين أو الأوباش فتصدر عنه مثل تلك البذاءات المنكرة.
فتفشت في عروقهم كتفشي البرء في السقم
نواصل إستقراء شعر أبي نواس من منظور ثقافته الطبية والعلمية ونرى كيف يصف تغلغل الخمر فينفوس شاربيها بتفشي البرء في السقم وهو تشبيه رائع فالبرء يتفشى في السقم بتؤدة و هدؤ دون جلبة أو ضوضاء. وكماأشرنا سالفاً فإن ابي الحسن بن هانيء مولع بإستخدام المفردات الطبية وبكثافة وتوظيفها أدبياً في شعره، لكنه هنا وكعادته يتلاعب أيضاً بالعرضي والجوهري والحادث والأصلي. فحال الإنسان قبل شرب الخمر هو العنصر الجوهري والأصلي و ما الخمر أو تعاطيها سوى حادث عرضي من حوادث الدنيا العارضة فكيف جاز لأبي الحسن ابن هاني تفضيل العرضي والحادث على الجوهري والأصلي تماما كما فضل الخمر على الماء الذي فيه سر الوجود و إكسير الحياة وليس للحياة إكسير غيره وربما يريد الشاعر أن يقترح أو يوحي الينا بأن وجودنا معطوب و يحتاج لتدخل من نوع ما وأن الخمرة هى الدواء. يقول الشاعر في معرض تفضيله الخمر على الماء و أنها أعلى منها مرتبة و تسبقها في ترتيب عناصر الوجود حسب شرفها وسموها
َرقَّتْ عَنِ الماء حتى ما يلائمُها

لَطافَة ً، وَجَفا عَنْ شَكلِها الماءُ
فلَوْ مَزَجْتَ بها نُوراً لَمَازَجَها

حتى تَوَلدَ أنْوارٌ وأَضواءُ
يقول النواسي أن الخمرة أشرف من الماء في ترتيب عناصر الوجود و أنها تتفوق على الماء لطافة ولكنه يريد أن يمزج الخمرة مع النور الذي يلائمها حتى تولد أنوارٌ وأضواءٌ فيا له من توليد رائع للمعانيونقلة كنقلة الفراشة بين أفانين الزهر ولعلها شطحة من شطحات الخيال العلمي والأدبي الذي قد نحتاجه أحياناً للخروج من رتابة هذا العالم المحسوس وفيه أيضاً تلاعب بحقائق الحياة والطبيعة فالخمر مهما قال فيها أبو نواس و أطنب في مدحها أقرب الى عنصر الماء من أي عنصر آخر. كانت العرب تقول أعذب الشعر أكذبه أي أكثره جنوحاً نحو الخيال. ولعله من نافلة القول التنبيه مرة أخرى لإستخدام الشاعر لمفردات علم الكيمياء مثل المزج و التمازج و التوالد الخ
أنظر اليه يُشَبِه العداء الكامن في قلب أحدهم بكمون النار في حجره
وابْنُ عمّ لا يُكاشفُنا،

قد لبسْناهُ على غَمَرِهْ
كمنَ الشّنْآنُ فيهِ لَنا،

ككمُونِ النارِ في حجَرِهْ
وغنيٌ عن الذكر بيان أن القوة أو الطاقة الكامنة هي باب في علم الفيزياء أو الميكانيكا يطنب في وصفه علماء العصر الحديث و يدبجون الصفحات في توضيح تفاصيله وخصائصه
أما طريقة الحياة اللاهية الماجنة والنهج الذي إنتهجه أبو نواس فيرجع كما أسلفت لهويته الشخصية ، لروحه الشاعرة و هي تتفاعل مع عالمها الخارجي والبيئة المحيطة بها كما عبر عنها أبو نواس وآخرون في ذلك العصر العباسي عصر تلاقح الثقافات والحضارات. ويمكن أن نفهم سيرة حياة ابي نواس من منظور الصراع التقليدي بين الطبيعة والثقافة، الأولى تريد أن تعبر عن نفسها بقوة في هذا العالم تبغي الانطلاق و الانعتاق والثانية تضع القيود المادية والمعنوية وتحجم الطبيعة بالتهذيب والتشذيب، بالمنع تارة و بالتنظيم والتقنين تارة أُخرى وذلك حفاظاً على النفس الإنسانية من مهاوي إطلاق العنان للشهوات وعواقب الافراط. حياة الشاعر هي إنعكاس لهذا التفاعل بين هذين القطبين. وربما كان أبي الحسن بن هانيء متنازعاً عليه بين متطلبات الاستجابة لشهوات النفس الجامحة المتطلعة للإرتواء من ملذات الدنيا والنهل من معينها الذي لا ينضب وبين مقتضيات التوافق مع الثقافة الغالبة أو كان متنازعاً عليه بين طريقة حياته تلك و بين الثقافة العلوية الرسمية المهيمنة بفضل بمرجعياتها الدينية الراسخة ومعاييرها الأخلاقية الصارمة ( والتي إنتصر لها الشاعر في نهاية المطاف بدليل توبته اللاحقة) كانت حياة اللهو والمجون (و التي كان ابو الحسن بن هانيء من الداعين لها و المبشرين بها) حاضرة بقوة ويجد أهلها الملاذ والبيئة الحاضنة في أقبية الأديرة و مجالس الراح والريحان والقيان وحلقات الأنس ومجالس الطرب تكاد أن تعلن عن نفسها وتتلمس طريقها نحو القبول والاعتراف المجتمعي بها. وجد أبو الحسن بن هانيء و رفاقه من العصبة المجان كما كان يحلو له أن يسميهم وجدوا العزاء في تلك الحياة البوهيمية ( إذا جاز التعبير) والتي ربما كانت تعبر نوعاً ما عن الحياة الجديدة التي بدأ يعيشها المجتمع العربي الاسلامي في ظل الثراء و االنعمة المستجدة ومن فتح الأمصار وتحول الدولة العربية الى امبرطورية كبرى تمتد حدودها من التركستان الى المحيط الأطلنطي. وكانت بغداد بأديرتها في قطربل و ذات الأُكَيراح ( دع البساتين من وردٍ و تفاحِ و أعدل هُديتَ الى ذات الأُكَيراح) ودير عبدون و الكُنيسَةَ (ذات الظل و الشجر) وغيرها كثير من مواقع اللهو و القصف هي البيئة الحاضنة لتلك الحياة يتسع صدرها الرحب للجميع كما عبر عن ذلك شاعرآخر:
إخلع ببغداد العذارا ودعي التنسك و الوقارا
فلقد بُليت بفتيةٍ ما أن يرون العار عارا
لا مسلمين و لا يهود و لا مجوس ولا نصارى
يستبعد كاتب هذه الكلمات الزعم بأن أبي الحسن بن هانيء الحكمي الدمشقي كان من الشعوبيين بل يراه من العروبيين بالرغم من ذمه للأعراب و طريقة عيشهم الجديبة ( ولا تأخذ من الأعراب عيشاً فعيشهم جديب، و خلي لراكب الوجناء أرضاً تخبُ بها النجيبة و النجيب) لأن تراث ابي نواس الأدبي إضافة للتراث الأدبي العربي و ليس خصماً منه كما أنه معذور في ولعه بفارس و حضارتها العريقة فأمه فارسية من الأهواز ولا ضير ولا جناح عليه إذا أحب فارس أو تكلم اللغة الإيرانية أو كتب بها بعض أشعاره ( كما فعل) فهي بالنسبة له لغة الأم. كانت حياة الشاعر في أيامه الأخيرة حزينة تعيسة فالخمرة تكسب قوة على المدى القصير يعقبها ضعف على المدى الطويل و تجلب السرور في البداية و لكنها تورث الضعف في النهاية وقد تعرض الشاعر للحبس في السجن بسبب تعاطيه أم الكبائر ( أهلي أتيتكم من القبر والناس محتبسون للحشر) ثم إنتقل الى دار البقاء قبل أن يدخل المأمون بغداد منتصراً على الأمين.
كلمة أخيرة عن السبق العلمي و الأدبي الذي حققه أبو الحسن بن هانيء قبل أكثر من ألف عام حينما جعل الفلسفة درجة راقية في العلوم
قل لم يدعي في العلم فلسفةً عرفت شيئاً و غابت عنك أشياءُ
هو ينعي على العلماء عدم الموسوعية وليس الجهل أوالتكبر. جامعات الدنيا كلها في عصرنا الحديث تسمي أعلى درجة علمية تمنحها درجة دكتوراة الفلسفة في كذا وكذا أي أنها تجعل الفلسفة درجة راقية من العلم ينالها المتعلم أي أنه يبلغ درجة التفلسف في المادة العلمية أو أنها تعترف بفضل الفلسفة على العلوم ، وهو نفس ما ذهب اليه أبو نواس فمن يحفظ لهذ ا العبقري البائس فضل سبقه؟ رحمه الله رحمة واسعة و تقبل توبته النصوح.
المراجع
ديوان أبي نواس
كتاب الأمالي
كتاب الأغاني
الموسوعة العالمية
سيرة حياة ابي نواس
المنتخب من أدب العرب
الكاتب
صلاح الدين التهامي المكي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
سوداني يقيم و يعمل في دولة قطر منذ العام 1996، تخرج في جامعة الخرطوم ، كلية الآداب 1969 ونال درجة الماجستير في العلوم الإجتماعية من جامعة سيراكيوز، ولاية نيويورك وهو مؤلف كتاب "محنة الكائن الثقافي" باللغة الإنجليزية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.