لم تمض عليه ليلة في بيرغن دون أن يستغرق في أحلامه، ولم تشرق عليه شمس دون أن تقطع عليه أحلامه وأطيافه وأخيلته.بدأت المدينة الباردة تغادر كآبتها وذبولها وتقبل نحو الإشراق والإزهاروالاخضرار.طلعت عليها الشمس من جديد وبدت البهجة والانطلاق على وجوه الناس وتفتقت الطبيعة عن ألوان برتقالية وخضراء وحمراء، وانعكس ذلك على ملابس الناس.فكر أن يخرج ويتمشى قليلا في الميادين العامة، لكن نفسه رغبت عن ذلك وآثرت أن تنطوي في عالمها الداخلي، أن تغرق في النجوى وتجترّ الذكريات .أضحى يستبطئ الرسائل التائهة في ما وراء البحار .هذا الشعور جعله يحسّ بأن المدينة ، مع كل هذا الجمال الباهر الغامر المتفتق المفاجئ، ومع كل هذا المرح والانطلاق والتناغم، أضحت في عينيه كالسجن الكبير....ويل للشجيّ من الخليّ! وهل كان الجمال الخارجي إلا انعكاساً لجمال داخلي يغمر النفس البشرية ثم يفيض فيشمل الكون بأجمعه؟ شرع يكتب بعد أن لاذ بفراشه و قد بدأت خيوط الفجر تؤذن بيوم جديد. لم يطمئنّ بعد إلى هدوئه القديم و لم يستقر على حاله السالفة .أحس بشيء من القلق و تاق إلى شيء من السكينة و اليقين... ينظر إلى النافذة، ثم ينظر إلى ما وراءها فتزيد الأمطار المنهمرة من هذا الإحساس السوداوي الذي يملك أمره هذه الأيام!وحين يضيق به الأمر يهرع إلى ذكرياتهالقريبة فيحس بشيء من الدفء و بكثير من الاطمئنان يتسلل إلى روحه ويتبين من خلاله صوراً قريبة إلى النفس. الصيف هنا في بيرغن فكرة خضراء تمرّ بالخاطر، أو هو حلم مضيء مشرق تسفر له ظلمة ليل الهاجع وتسكن معه خواطر الواجد المكروب. على أن هذا الحلم يستحيل على استحياء، إلى واقع جميل قصير العمر...ياحسرة! لطالما شكا من سلطان الزمان وسطوة المكان، ولطالما كان نهب الاغتراب والابتعاد.حينما وصل إلى هذه المدينة قبل ليال،كانت الشمس تغمرها والدفء يشملها،أما اليوم فقد سطا عليها الضباب و جثمت عليها الرطوبة و عصفت فيها الرياح.هذا جو يبعث الشجن و يستدعي الذكريات!تذكر أنه كان يستعين بالشاي و يجلس قبالة التلفزيون أيام الآحاد حين يطبق الشتاء على باريس.كان يجد متعة في ذلك.الآن يحاول استعادة ذلك الشعور فيفشل!هل تغير هو أم تغير الزمان و المكان؟ أما باريس، فقد كان يجد فيها متعة العقل و القلب معاً،و أما بيرغن،ففيها يحسّ المرء بأنه في طرف قصيّ من أطراف العالم...على جرف في حافّة من حواف الأرض!ومعذلك،فإنه ليس شقياً إلى هذا الحدّ. ليس حزناً ما يغازل حروفه و يراود مشاعره، بل هو شجن، يبلوه منذ حين ولا يشقى به...يهبط على نفسه فيمسها مسّاً رقيقاً و يبعث في قلبه دفئاً و حنيناً! نظر منذ اللحظة إلى الساعة فوجدها تجاوزت الثالثة، و إلى تاريخ اليوم و قد تبدّل! هدوء مطبق على كل شيء من حوله ..غيرأن الأمطار، تتتابع قطراتها من خلف النافذة الزجاجية الموصدة، تكشف عن زيف هذا الهدوء المصطنع داخل الغرفة! أما يزال الشجن كما كان؟بل أين هو من تصاريف الزمان وسلطان المكان؟يشدّه التوق ويبرّحهالشوق،ثمّ لا يبرح أن يلجأ،كيما يخفف عن النفس ،إلى الكتابة ،ولكنّه قلما يظفر بوقت لذلك إلا آخر الليل... يهبط عليه النعاس فيخشى أن يسقط القلم من بين أنامله فينام قبل أن يقرأ آيات من المصحف. ينهض من فراشه ويمضي في ما شرع فيه من الكتابة الليلة المنصرمة.... يغمره الضوء و تصافحه الشمس ببشريات يوم جديد فيه دفء وإشراق! بدا له أن الصراع الأبديّ بين الشتاء و الربيع على أشدّه!لكنها جولة يتقدم فيها الربيع ،يدفعه الصيف ،ثمّ لا يلبث الشتاء والخريف يكسبان الجولة. تذكر أنه حينما أتى إلى هذه المدينة قبل نحو عام، كانت حقلاً غير متناه من الجليد، ثمّ تحوّلت أمام ناظريه إلى حديقة ...شاهدها وهي تغدو بستاناً يانعاً مزهراً أخضر!. يفكر أحياناً في عبثية ما يكتبه، في أن يحاول ضرباً آخر من الكتابة يسرد فيه أخبارهاليومية ،إلا أن رغبته في أن يستغرق في ما يكتبه وأن يمتزج به حتى يأتي حاملاً روحهوشعوره،مضمّخاً بخفقات القلب وومضات الضمير. ....تحمله حملاً و تقسره على ذلك قسراً. بيرغن،أبريل 1989 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.