بخصوص المبادرة الواسعة والمنتشرة للمشاركة في مذكرة رفع الحظر عن العقوبات عن السودان والتي ستُقدم للحكومة الأمريكيّة، فقد كنت قد كنت قد كتبتُ مقالاً قبل أسبوع من الآن ثم أنني تناسيت الأمر وانتظرتُ أن يقوم أحد الباحثين أو المهتمين بالشأن السياسيّ أن يكتب توضيحاً نقدياً حول الجدوى الحقيقيّة من هذه المبادرة، ولكن لا يبدو أن هذا قد حدث حتي الآن بصورة واسعة، فكان من الضروري المساهمة بالقليل من الرأي خصوصاً بعد أن أقترح أحد الأساتذة الأجلاء أن تساهم جامعة الخرطوم بثقها الأكاديميّ والاجتماعيّ في دعم الحملة وأن هذا المقترح قد طُرح فعلاً في مجلس أساتذة جامعة الخرطوم، وسيُعرض للنقاش مرة أخري في المجلس القادم لأساتذة جامعة الخرطوم. في الاقتصاد السياسيّ هنالك جدال حول من يَصنع القرارات السياسيّة في الديمقراطيات المستقرة، أو لمصلحة من يتم إقرار السياسات في الدول الراسخة في السلوك الديمقراطيّ؟ وغالباً ما يكون النقاش حول ثلاثة فئات رئيسيّة: 1- غالبية المواطنين أو ما يعرف ب Median Voter وهذا يعني أن أغلب السياسات والقرارات التي تتخذها الأحزاب السياسيّة يتم اتخاذها وفقاً لمصلحة غالبية السكان وهي فرضية يُبرر بها بعض العلماء عدم وجود فروق جوهريّة كبيرة بين السياسات التي تطبقها الأحزاب عندما تستولي علي السلطة سواء كانت أحزاب يمينية أو يسارية أو غير ذلك، والإداء بأن السياسات في الديمقراطيات المستقرة تتم لمصلحة غالبية السكان هو الإداء المنتشر والسائد بين أغلب المثقفين أو السياسيين أو عامة الناس وفقاً للتعريف الشائع عن الديمقراطيّة بأنها: " حكم الشعب للشعب ولمصلحة الشعب" 2- الادعاء الثاني هو أن السياسات يتم اتخاذها لمصلحة طبقة رجال الأعمال أو Oligarchy theory وهؤلاء ليسوا مجرد اتحاد رجال للأعمال أو اتحاد أصحاب العمل مثلاً، هؤلاء هم الأثرياء جداً في المجتمع مثل نجيب سويرس في مصر مثلاً أو الوليد بن طلال في السعودية أو أسامة داود في السودان، والادعاء هنا بأنه هذه الطبقة تُؤثر علي صنع السياسات سواء بشراء السياسيين أو بالضغط الذي يمكن أن يفرضوه علي الحزب الحاكم بتأثيرهم الكبير في الاقتصاد والإعلام، وهو ادعاء له ثقل أكاديمي خصوصاً أن أغلب الديمقراطيات المستقرة ذات سياسات اقتصادية ليبرالية قوية مما يصنع فوارق اقتصاديّة كبيرة جداً بين المواطنين ومع تقادم الزمن تؤدي هذه الفوارق إلي ظهور طبقة من الأثرياء جداً لهم نفوذ وسلطة في المجتمع والسياسة. ولا يخفي علي المتابعين التقرير الأخير والذي صدر في مطلع عام 2016 بأنه 62 ثرياً يحتلون ويسيطرون علي أكثر مما يحصل عليه نصف سكان هذا الكوكب، وأحد الأفكار الرئيسيّة في كتاب توماس بيكتي الأخير " رأس المال في القرن الواحد والعشرين" تقول بأن اللامساواة ( سواء في الثروة أو في الدخل ) ثاوية وكامنة في بنية الدولة الليبرالية لا محالة ولا فكاك منها، وأنها كلما بعدت الدولة عن السياسات الليبرالية ( مثل الدول الإسكندنافية وغيرها مما يطلق عليه دول الرفاه الاجتماعي) كلما قلت نسبة اللامساواة بين المواطنين فيها، وكلما اقتربت الدولة من السياسات الليبرالية ( أمريكا، وبريطانيا وبقية دول غرب أوربا) كلما زادت اللامساواة. 3-أما الادعاء الثالث لتفسير لمصلحة من يتم إقرار السياسات في الدول الديمقراطية فهو المجموعات المنظمة Organized interests سواء كانت أحزاب سياسية، أو جماعة منظمة (Lobbies) داخل الحزب الحاكم، أو النقابات العماليّة، أو حتى طبقة رجال الأعمال، وفي هذه الفرضية فإن المُنظم أكثر هو من يحوذ على السلطة ويشرع سياسات تكون في مصلحته. لن أخوض في أي هذه الادعاءات صحيحة، ولكني سأنقل السؤال إلي منطقة تتعلق كثيراً بالحوار حول رفع العقوبات الأمريكية، والسؤال هنا: لمصلحة من يتم إقرار السياسات وتشريعها في أمريكا ؟ هل تُشرّع السياسات الأمريكيّة لمصلحة غالبية المواطنين، أم لمصلحة طبقة رجال الأعمال، أم لمصلحة الجماعات المنظمة؟ في عام 2010 صدر كتاب مهم في حقل الاقتصاد السياسي والعلوم السياسيّة وهو كتاب: Winner-Take-All Politics: How Washington Made the Rich Richer—and Turned Its Back on the Middle Class للمؤلفين: البروفيسور Jacob S. Hacker خريج جامعتي هارفرد وييل Yale و البروفيسور Paul Pierson رئيس كرسي العلوم السياسية والسياسات العامة بجامعة كاليفورنيا: بيركلي. المحاجة الرئيسية في الكتاب هي أن طبقة رجال الأعمال الثرية جداً في أمريكا، في الثلاثين عاماً الماضية، تستخدم القوى والأحزاب السياسية لإقرار سياسات تتماشي مع مصالحها الاقتصادية، وكيف أن هذه السياسات تزيد الغني غنىً والفقير فقراً، ويتناول الكتاب بالتدقيق ثلاثة جوانب رئيسية تظهر فيها قوة هذه الطبقة هي: قدرتها علي خفض الضرائب المفروض عليها، ورفع الضوابط في الصناعة المالية (البنوك وغيرها)، الحفاظ على النقابات العمالية ضعيفة وعاجزة وأخيراً الحفاظ على التراخي في الضوابط إدارة الشركات (باختصار = المزيد من السياسات الليبرالية في الجوانب المالية والبنكية وكذلك في سوق العمل، بالإضافة للتضييق علي العمال والطبقات الوسطي). ويقول الكتاب كذلك أن أغلب النفع والفائدة من السياسات الامريكيّة ومن عوائد التنمية الاقتصادية في أمريكا في الثلاثين عاماً الماضية كانت ولا زالت تذهب ل 1% من الأمريكيين، وأغلب هذه الفوائد التي تذهب لل 1% تذهب تحديداً ل 0.1% من السكان! فعلي سبيل المثال في عام 1960 كانت نسبة الضرائب علي 0.01% من السكان الأمريكيين (وهم طبقة الأثرياء جداً) أكثر من 70% من دُخولهم وثرواتهم، بينما في عام 2003 تقريباً تضاءلت هذه النسبة لتصل لقرابة ال 40% من ثرواتهم، وهذا الفارق، أعني 30% من دخل هؤلاء الأثرياء هو فعلاً مال ضخم جداً، خصوصاً إذا علمنا كما ذكرت سابقاً أن ما يكسبه 62 ثرياً حول العالم يساوي أكثر من دخل نصف سكان العالم أجمع، فإذا حاولنا حساب 30% من دخل هؤلاء الأثرياء جداً مثلاً، في الغالب فإن مقدار هذا المال سيكون يساوي ميزانيات قارات وليس ميزانيات دول فقط، وقد يكون كفيلاً لحل كل مشاكل الفقر والجوع والتخلف في العالم كله ! وهنا يتساءل أي شخص هل يمكن أن يوافق المواطنون الأمريكيون علي ذلك من دون احتجاج أو معارضة، كيف يمكن أن تطبق مثل هذه السياسات الغير عادلة ويتم السكوت عنها سواء من المجتمع المدني أو من المواطنين العاديين أو النقابات العماليّة؟ يتم هذا في العلوم السياسية بوسيلتين أثنين هما: التشويش والتضليلObfuscation بمعني أن تُوهم المواطنين أن هذه السياسات ستكون في مصلحتهم ولمنفعتهم بواسطة وسائل الإعلام (وهذا أمر سهل جداً إذا علمنا أن أغلب القنوات الفضائية ووسائل الإعلام هي من أملاك الطبقة الثرية جداً وليست من أملاك الفقراء أو العمال أو الطبقات الوسطي)، ثم يتم إكمال تمرير هذه السياسات باستخدام Drift أو التحرك التدريجي في السياسات وعوائدها لمصلحة طبقة الأثرياء. وفي الحقيقة هذا الأمر يكتمل تماماً إذا علمنا أن المواطن العادي (ليس عندنا فقط بل حتي في أمريكا) لا يقرأ تفاصيل القرارات السياسيّة ولا يعرف الدستور ولا يشاهد جلسات البرلمان التي تقرر فيها السياسات وإنما يعلم بذلك من نشرات الأخبار والصحف والجرائد التي توجهها كثيراً طبقة الأثرياء، والقادرة كذلك علي صرف اهتمام الناس عن متتبعات وتفاصيل هذه السياسات بعرض أخبار المشاهير والفنانين وأخبار الحروب العالمية وأخبار أخر الأفلام! إذا كان هذا هو الواقع في تمرير السياسات في أمريكا التي يريد عدد من المواطنين السودانيين تقديم المذكرة الاقتراحية لهم، وكيف يتم تخدير وخداع حتي المجتمع الأمريكي المليء بالناشطين والناشطات: ألا يجدر بنا أن نُعيد النظر فعلاً في جدوى وفائدة هذه الوسائل والمبادرات والتوقيعات ؟ فإذا كان البرلمان الأمريكي يُقرر سياسات في مصلحة الأثرياء ويدير ظهره لطبقة العمال ومتوسطي الدخل في أمريكا نفسها، فهل سيلتفت لعريضة مقدمة من الشعب السوداني؟ وإذا كانت السياسات تقرر لمصلحة الأثرياء ألا يجدر بنا أن نفهم هذا السياق السياسي ونحاول التحرك فيه إذا أردنا فعلاً أن نرفع العقوبات الاقتصاديّة؟ مثلاً أن تتحرك لجنة من رجال الأعمال أصحاب الثقل النوعي في السودان وتعرض مقترحات ترجع بالنفع لطبقة الأثرياء في أمريكا وللاقتصاد السوداني في ذات الوقت مثلاً، مما سيخلق دوافع اقتصادية لسن سياسات وقوانين ترفع العقوبات الاقتصاديّة ؟ العقوبات الاقتصادية التي تطبقها أمريكا علي الدول في الغالب لا علاقة لها بمستوي الحرية أو بعقيدة النظام الحاكم أو بطشه، السعودية تقيم الحدود الإسلامية وتقطع رقاب القتلة، وتقطع أيادي السارقين، وتمنع المرأة من القيادة، وليس فيها ديمقراطيّة ولا شفافيّة، والصين كذلك ليست دولة ديمقراطية ولا يوجد بها حتي فيسبوك لتكتب فيه وتعبر عن رأيك وكل القنوات الإخبارية العالمية ممنوعة من البث في الصين، ولو أردت أن تثكلك أمكَ، ويُيتم أطفالكَ، وتُرمل زوجتكَ في الصين فتحدث عن فساد الطبقة الحاكمة أو لماذا يحق لهم أن يفعلوا كذا وكذا ولا يحق لغيرهم! هل تقيم أمريكا عقوبات علي السعودية أو الصين ؟لا فالعلاقة بينها وبينهم أحلي من السمنة علي العسل، لماذا؟ لأن العقوبات الأمريكية هي أداة اقتصادية لا أكثر ومتي ما توفرت دوافع ومنافع اقتصادية فإن الحكومة الأمريكية سترفع هذه العقوبات. أخيراً، هل قرار إدخال جامعة الخرطوم أو غيرها من المؤسسات الأكاديمية في حلبة هذا الصراع قرار سليم؟ خصوصاً أن بعض الأساتذة اشترطوا لإدخال الجامعة في هذا المعترك أن تصرح الجامعة وتناشد الحكومة السودانيّة لإطلاق الحريات ؟ لا، القرار غير سليم فكما علمنا في الكلام المذكور سابقاً محركات العقوبات الامريكية محركات اقتصادية ونفعية محضة، ودخول الجامعة في هذا المعترك خصوصاً مع تأكيد البعض والدعوة لمناشدة الحكومة السودانيّة بإطلاق الحريات سيُظهر الجامعة كخصم سياسيّ في الساحة السودانيّة، وهذا في الوقت الحالي لا يَخدم مصلحة الجامعة كمؤسسة أكاديمية لأنه سيجعل النظام ينظر للقائمين عليها وللأساتذة فيها علي أنهم جماعة ضغط مجتمعي سياسي عليها، مما سيحفزها لمزيد من التدخل في طريقة تعيين مدير الجامعة وطاقم الإدارة والتدريس وهذا كما سبق في تاريخ الجامعة ليس من مصلحتها فيما أري. نعم الجامعات والمؤسسات الأكاديمية في الغرب تكون لها مواقف سياسيّة، مثل حملة المقاطعة الأكاديميّة للكيان الصهيوني التي انتشرتْ في الجامعات البريطانيّة واقرها الاتحاد العام للطلاب في بريطانيا ودعمها، بل ودعمتها بعض الدوريات الأكاديمية المرموقة في أمريكا مثل دورية الجمعية الأمريكيّة للأنثروبولوجيا، لكن السياق السياسيّ الديمقراطيّ هنالك، ليس مثل السياق السياسي في السودان. في النهاية أرجو فقد أن يعيد الناس النظر في مثل هذه القضايا والمواقف السياسيّة التي قد تكون لها آثار اجتماعية وأكاديميّة لا تُحمد عقباها، وألا نتعامل مع مثل هذه القضايا بتلك البساطة والتي قد تجعل هذه الفرص تتحول إلي نقم ! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
خالد عثمان الفيل طالب ماجستير بالاقتصاد السياسي للتنمية في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسيّة