رغم أن بروفيسور بدر الدين الهاشمي نأى بنفسه عن أن يتخذ من الانتماء لقبيلته مصدراً لفخر أو خجل ، وعاب علي إيراد اسم القبيلة في سياق فرضته واقعة معينة لا تحتمل التعميم ، إلا أنه عاد وانتقد من جهة أخرى تعميماً كنت أجزلته للمجتمع السوداني بأن وصفته بأنه مجتمع مسالم. ذكّرني هذا موضوعاً كنت قرأته من قبل على الشبكة العنكبوتية ،كتبه شخص دوّن اسمه ابتداءً باللامنتمي زعم بأن السيدة هاجر زوج سيدنا ابراهيم عليه السلام تنحدر من "ولاية نهر النيل" وأنها أم العناصر العربية التى يمثلها الجعليون هناك ، ثم جاء بعد ذلك وحدد انتماءه بأن نادى بأن تُقام دولة عربية جديدة تحت مسمى"جمهورية السودان العربية" بعد انفصال الجنوب ، لأنه حسب حجته التي ساقها أن الجعليين أنقى الدماء العربية وأبينها لساناً. وهذا يقودني إلى سؤال : ما الذي يريد إثباته بعض السودانيين عندما يعرّفون أنفسهم بأسماء قبائلهم ، وما الذي يجعل الواحد منهم يلجأ إلى التاريخ حقيقياً كان أم مزيفاً ليصطنع لنفسه مجداً مؤثلاً .هل ما نراه شيئاً آخر خلاف التعصب؟ أم هو التعصب عينه؟! وليس هذا بطبيعة الحال هو الرد الشافى على البروف الذي استفسر : "هل نستطيع أن نفهم من كلامها أنها تؤمن بأن هذه القبيلة "اللعينة" تؤمن بنقاء عرقي مزعوم، ويرفض رجالها تزويج بناتهم (أو أن تتزوج بناتهم) بغير من خلقهم الله من غير هذه القبيلة". والبروف الذي يجسد هذه الحالة - جعلي متزوج من قريبته – أوحى لقارئه من طرف خفى بأننى أكرّر ما يُقال دون وعي ، وهو - سيد العارفين - يدرك بلا شك أن تاريخنا الاجتماعي ليس بأفضل حالاً من تاريخنا السياسي إذ لم يُكتب له حظ التدوين والتوثيق في دنيا العالمين هذه ، وإلا لتوفرت بين يدي صحائف تثبت تمسك أفراد بعض القبائل التي تعتد بأصولها العربية وقبيلة الجعليين واحدة منها في أمور الزواج خاصة بالارتباط بأبناء العمومة بشكل أكبر من غيرها من القبائل . وحسب تاريخ شفاهي يوثق لهذا الانتماء وحقائق تكاد تكون معلومة للكافة فإنه قد يكون شعوراً نفسياً داخلياً يصدر من فعل وقول صريح من أعماق جذور القبيلة أو القبائل التي ينطبق عليها هذا الحديث، ينادي بزعم صفاء العرق ونقائه ويرد هذا الانتماء إلى العنصر العربي بصورة مباشرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأرومته القرشية. وهل أغنية السيرة "يا الجدك العباس" إلا مظهر من مظاهر التعبير الغنائى الاجتماعى الذى يشف عن وعيٍّ مستبطن يُظهر العريس وقبيلته وكأنهم الأعلى كعباً والأكرم محتداً بين سائر قبائل السودان الأخرى؟! وفي استنكار لا يشبه من عرك مناهج العلم وأدلته وبراهينه ، هتف البروف قائلاً :"أفلا نقرأ التاريخ؟". أي تاريخ هذا يا أستاذنا ، أهو الذي بين أيدينا وكلما مضي عقد من الزمان يتم تكذيب بعض تفاصيله وينادي بعض الثقاة بضرورة إعادة كتابته؟ فقد ورد في هذا التاريخ أن المك نمر كان العامل المشترك لجمع العبيد أأصدقه أم أكذبه؟ أما قصة قتله اسماعيل باشا انتقاماً عندما طالبه بما عجز عنه المك وأهانه فتكاد تكون محفوظة للمتعلم والجاهل. ولكن التاريخ نسي أن يدرسنا أن هذا النوع من القتل يعتبر غدراً وفي تعاليمنا الإسلامية وتقاليدنا الاجتماعية السودانية أنك إذا كنت ضيفاً فأنت آمن، ولا يجوز أن يُنتهك ستار أمنك طيلة أيام ضيافتك ، بل أن ديننا ودين المك يدعونا بحسن وفادة الضيف حتى لو كان عدواً ، فالاقتتال بشرف مكانه ساحة المعركة. ثم أن التاريخ ربما نسى أن يدرسنا أن المك كان قد ترك أهله الجعليين يأكلون النار وحدهم بعد أن فرّ هو بنفسه وبأهل بيته إلى الحبشة. وفي هذه القصة وغيرها لم يُسرد التاريخ الحقيقي للواقعة مع الأدب الذي ساقه أفراد العائلة مثل بنونة بت المك نمر . الآن بعد كل هذا الزمن تفسخ التاريخ وأخذ يعري سلطة المكون الروحي في عضد القبيلة ضد الآخر ، والآخر هنا في هذه الجزئية بدون فرز هو قبائل السودان الأخرى. وإلى أن تُعافى أوراق التاريخ الراسخة فيها الصورة البطولية والمقدسة للزعامات وإلى أن يكتسب من يتسترون وراء شجاعة المك والكنانية شجاعة أكبر ، نحتاج إلى مناخ آخر يعالج هذه العاهات الثقافية المرتبطة بسيادة القبائل على بعضها البعض عوضاً عن إدعاء الشرف الذي يُترجم ضمنياً أن الآخرين هم غير الأشراف. عن صحيفة "الأحداث" moaney [[email protected]]