تمثل سياسة التعريب – على الأقل في مستوى التعليم العالي – قضية محورية، خاصة في الظروف التي يعيشها السودان، وهو يتلمس خطاه نحو وحدة وطنية جاذبة تقوم علي الاعتراف بمختلف الثقافات، والإثنيات، وتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة في ظل العولمة، وذلك بالاستفادة من التطور العلمي المتسارع، وتطبيقاته المتمثلة في وسائط الاتصال الحديثة، وتوافر المعلومات. ولن يتأتى ذلك إلا بتطوير المناهج الدراسية في بلادنا للاستفادة القصوى من هذه الوسائط، بغرض تحقيق هذه الأهداف. لقد أثبتت التجربة أن إعمال التعريب في مناهجنا الدراسية قد أفضى لتدهور المستويات الأكاديمية والعلمية، كما ساهم في تأخرنا عن اللحاق بركب التطورات العلمية المتسارعة. كانت لغة التدريس بجامعة الخرطوم منذ نشأتها الأولي بدءاً بكلية غردون التذكارية هي اللغة الإنجليزية، ولذا كان خريجها متميزاً، وذو سمعة طيبة علي المستويين الإقليمي والدولي. ولكن عند مطلع التسعينات من القرن الماضي فرضت الإنقاذ سياسة تعريب المناهج بليل، وبكل كل كليات الجامعة، ما عدا كلية الطب التي واجه مجلسها بأساتذته الأجلاء هذه القضية بمهنية عالية، فلم يرفضها ليثير عاصفة لا قبل له بمواجهتها والإنقاذ في أعلى درجات عنفوانها وبطشها، ولكنه آثر التعامل بسياسة "حراس المرمى هذه الأيام" بكسب الوقت إلي أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فكان لهم ما أرادوا بأن حافظوا علي المستويات المتميزة لخريجيها، ولكنهم مواجهون بوصمة الإقرار الرسمي بتعريب مناهج التعليم العالي في السودان علي الرغم من أنهم درسوا تلك المناهج باللغة الإنجليزية. مما لاشك فيه أن الإنقاذ قد شرعت في أنفاذ سياسة تعريب مناهج التعليم العالي بأجندة سياسية، وأيديولوجية – بغرض الكسب الحزبي الرخيص، وليس الدعوي – التي يمكن إجمالها في القضايا التالية: 1-الاعتقاد الديني: ربط المعرفة العقلية بالمعرفة الدينية، وذلك بمزج النصوص الدينية مع الحجج العقلية، وتلازم تفاسير الآيات القرآنية مع نتائج النظريات العلمية، وأن الله – سبحانه وتعالى- إنما أنعم على الإنسان بنعمة العقل لكي يعي سنن الكون، ويكتشف قوانينه، ويسخرها لإعمار الحياة في ظل هداية الوحي وتوجهه. وأن هذا التكامل في رأيهم، يزيل التنازع في تفكير الدارس فيتم التناغم بين ما يدرسه في المواد الدينية، والطبيعية. 2-الأخلاق: أن يتيح التعريب المعرفة العلمية، مع حسن الاستفادة منها عن طريق التحكم فيها بضابط أخلاقي حتى لا تفسد الحياة. لذا فإن ما ينقل من معارف إلي اللغة العربية يجب أن ينقى مما قد يخالطه من رؤى، وأفكار تصطدم بالعقيدة الإسلامية، ولا تتفق ومكارم الأخلاق، خاصة وأن هنالك بعض نتائج البحوث العلمية قد يساء فهمها إذا لم يكن هنالك مثلاً، وقيماً للفضيلة. 3-التربية: وضع المناهج باللغة العربية للإنعتاق من الشعور المخذل بأن العالم الغربي يقود سفينة العلم، والمعرفة، وأننا تابعين، ومقلدين لحضارته، وذلك بدفع الدارسين لارتياد مجالات البحث، والإبداع. 4-التصور: إصباغ مناهج العلوم المعربة برؤنا الذاتية، ووفق تصوراتنا النابعة من تكويننا الثقافي والتربوي، وألا تنقل الحقائق العلمية بتصورات فلسفية دخيلة وبترجمة حرفية وبدون تمحيص، فلا يجوز أن نتحدث عن قوانين الطبيعة بمعزل عن مفهوم الحق، والباطل إزاء ما يستنبط منها من آراء فلسفية متباينة. 5-رسالة الأمة الإسلامية: تكتسب اللغة العربية أهميتها من كونها لغة القرآن، وتشربها بتصورات الإسلام، لذلك فإن النهوض بهذه اللغة هو نهوض بهذه الرسالة، عزة للإسلام، وتأكيداً للهوية الحضارية السامية للأمة. كما حاول فلاسفة الإنقاذ ربط سياسة التعريب بما يعرف بالتأصيل المعرفي، باعتباره مطلباً تعليمياً، وضرورة تربوية، ودعوة للاعتماد على الذات، واستنهاض الأمة، وتفعيلاً لطاقة أبنائها، وتأكيداً لهويتها الوطنية، وعزتها القومية، وترسيخاً لانتمائها الحضاري. بهذه المفاهيم غير المقصودة لذاتها، أعلنت حكومة الإنقاذ عن سياسة التعريب، وزيادة القبول، بالجامعات، والمعاهد العليا عام 1990م؛ فقفز عدد الجامعات من خمسة إلي أكثر من ستة وعشرين جامعة اليوم. وهو توسع عشوائي تم لخدمة أهداف المؤتمر الوطني، بتهميش، وإلحاق الضرر بالجامعات والمعاهد العليا العريقة، بفرض سياسة التعريب، وزيادة القبول دون التوسع في البنيات التحتية من موارد بشرية، ومادية، وفنية؛ فأسست الهيئة العليا للتعريب – كزر للرماد في العيون، ولخلق وظائف للمحاسيب كي يتكسبوا منها– التي قامت بزيارة لسوريا عام 1990م فحصلت علي عينات من مراجع عربية، أعلنت علي إثرها إنفاذ برنامج التعريب في كل مؤسسات التعليم العالي بالبلاد؛ انه أبلغ استهتار بأكثر الأمور حساسية وخطورة علي مستقبل الأجيال القادمة. لقد لاقى الأستاذ الجامعي حظاً وافراً من التهميش، والاحتقار في ظل سياسة التعريب الجديدة، فلم تعد هنالك برامج واضحة للتأهيل، والتدريب، بتوقفت خطط إبتعاثهم إلي الخارج لنيل الدرجات العليا أو لقضاء إجازات التفرغ العلمي، دراً للتغريب الذي حسبوه مفسدة سياسية. كما لم تعد أجورهم مجزية – لجأ بعضهم من غير المنتمين للجبهة الإسلامية القومية باستخدام سياراتهم في "النقل الطارئ" لسد رمق عائلاتهم – فهاجر معظمهم إلي الخارج، وأحيل عدد مقدر منهم إلي الصالح العام – قطعت بعثات بعضهم، وأعيدوا للوطن، وهددت الجامعات الخاصة بإعادة تشغيلهم – تمت كل تلك الممارسات لأسباب سياسية بحتة. أفرزت هذه السياسيات وضعاً مزرياً تمثل في عدم توفر الأستاذ المؤهل المتخصص، ومن ثم تدنت نسبة الأستاذ مقارنة بعددية الطلاب، وانشغال من بقي منهم بتوفير قوت يومه. لقد أدى تدني الصرف الحكومي علي مؤسسات التعليم العالي لافتقادها لأبسط مقومات العملية التعليمية من معامل، وقاعات، وكتب منهجية، ومرجعية، ودوريات. يضاف إلي كل ذلك ابتذال الألقاب، والشهادات العلمية التي أضحت توزع علي أصحاب الولاء لشغل الوظائف الإدارية، والأكاديمية بغرض التمكين. لم يحدث أن قومت الإنقاذ - علي مدى عقدين من الزمان - أي سياسة قامت بإنفاذها حتى وأن ثبت بالدليل القاطع خطئها البين، هل لأن كل سياساتها عرجاء، ولا تخلو من غرض حزبي ضيق، وغير وطني؟ ولكنها درجت على إقامة المؤتمرات ذات التوصيات المعدة سلفاً، بغرض وضع المساحيق على وجهها الكالح. في هذه الأجواء أقدمت كلية العلوم بجامعة الخرطوم علي خطوة جريئة في أبريل 2005م، وذلك بإقامة ورشة أكاديمية حرة، وشفافة، هدفت للتقييم المهني المحايد لتجربة تعريب العلوم بعد مرور عقد ونصف لإنفاذها، واهتمت بأخذ رأي الطلاب فيها، خاصة وأنهم يمثلون حجر الزاوية للعملية التعليمية برمتها. فقدمت أوراق علمية شاركت بها معظم الكليات العلمية: الطب، والهندسة، والزراعة، والعلوم وطب الأسنان بجامعة الخرطوم، وكلية العلوم والتقانة بجامعة النيلين، وكلية الطب بجامعة الجزيرة، بالإضافة لورقة رابطة طلاب كلية العلوم، وأوراق أخري قدمها أعضاء هيئة التدريس بالكلية. افتتحت الورشة بورقة أكاديمية لرئيس الهيئة العليا للتعريب بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، والذي كان يظن أن هذه الورشة ستسير علي غرار المؤتمرات التجهيلية التي درجت الإنقاذ علي إقامتها، فتحدث عن توافق توصيات، وقرارات مؤتمرات التعريب، وملقياته، كما أفصح بأن اللغة العربية لغة علمية تمكن الطالب من إجراء بحوثه بها. هذا لعمري، قمة عدم الأمانة العلمية، وتعدي سافر علي مستقبل طلابنا من قبل شريحة من الأساتذة الذين نالوا أرفع المراتب العلمية في ظل نظام تعليمي ذو صبغة غربية، وما فتئوا يرسلون أبنائهم للنيل من هذه الثقافة، وعملوا بمنهجية على حرمان بقية أبناء الشعب السوداني من ارتياد حياضها. أما أوراق الكليات - صادرة عن لجان التعريب بالكليات التي تتبع لإدارات التعريب بالجامعات التي بدورها خاضعة لإشراف الهيئة العليا للتعريب بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ولذا فهم من مدمني المؤتمرات التجميلية "المعلبة" - فقد أشادت، ومجدت التجربة، وسلكت كل السبل لإقناع الحضور بنجاحها، ولكن خاب فألهم. سأستعرض واحدة من تلك الأوراق لأدلل علي خطل محاولة البعض إقناعنا بنجاح التجربة علي الرغم من فشلها البين: قدم البروفسير أحمد عبد الله محمداني والدكتورة سميرة حامد عبد الرحمن، تقييماً لأثر التعريب على التحصيل الأكاديمي للطلاب المتخرجين من كلية الطب بجامعة الجزيرة، فقاما بمقارنة الأداء الأكاديمي لثمانية دفع درست باللغة الإنجليزية وثمانية أخرى درست باللغة العربية، فوجدا أن الدفعة 13 وهي أول دفعة تعرضت لتجربة التعريب، كانت الأفضل تحصيلاً بين جميع الدفع التي شملتها الدراسة، حيث نجح جميع الطلاب(100%) بمعدل تراكمي 2 فما فوق، كما حصل 86% منهم على تقدير جيد جداً وجيد (معدل تراكمي 2,5 – 3,49)، أما أحسن الدفع التي درست باللغة الإنجليزية فكانت نسبة النجاح بها 97,8%. أبان الكاتبان كذلك عدم وجود فرق معنوي بين الأداء العام للدفع التي درست باللغة العربية(نسبة نجاح 97,6%). كما أوردا أيضاً العوامل التي أثرت سلباً على أداء الدفعات التي درست باللغة العربية وهي: هجرة الأساتذة ذوى الخبرة مما أدى إلي نقص مريع في الأساتذة المؤهلين، وتبني الدولة للعلاج الاقتصادي فنشأت صعوبات مع المرضى في المستشفيات التعليمية، وزيادة عدد الطلاب بنسبة 450% في كل الدفع ما عدا الدفعتين 14 و 15 فكانت الزيادة فيهما تقترب من 730%. أقر الكاتبان كذلك وبرغم هذه العوامل السالبة، بأن أداء دفعات التعريب عموماً كان الأفضل، بعد استبعاد الدفعتين "المكبرتين". تعليقي الموجز على مخرجات هذه الدراسة هو: 1-يختلف التدريس باللغة الإنجليزية عن ذلك الذي باللغة العربية، حيث يتم في الطريقة الأولى في شكل محاضرات تهتم برؤوس المواضيع، وتترك التفاصيل، وزيادة المعرفة لمطالعة الكتب المرجعية، والمنهجية، والأوراق العلمية. أما في الثانية فيتم في شكل حصص تعطي قدراً ضئيلاً من المادة العلمية البسيطة، والتي عادة لا يكمن تطويرها بسبب عدم توفر الكتب المرجعية، والمنهجية في المكتبة العربية، وعدم قدرة الدارس على الإستزادة من المكتبة الإنجليزية لضعف لغته. 2-تختلف بنية الامتحانات باختلاف طرق التدريس، الأمر الذي يقود إلي اختلاف بيّن في طرق التقويم الأكاديمي. 3-تقوم فلسفة التعريب علي التيسير علي المدرس والدارس لما في ذلك من كسب للوقت في التدريس والتلقي - أي فلسفة التلقين والحفظ – ومن ثم تكون المادة العلمية قليلة ومحدودة، ولذا يختبر الطلاب في ملكة الحفظ كمعيار أوحد للتحصيل الأكاديمي، ومن ثم فلا ريب في الحصول على أعلى معدلات النجاح في هذه الأجواء التي لا تهتم بالقراءة لأمهات الكتب، أو المشاركة في الأنشطة الأخرى. 4-أكد الكاتبان بأن هنالك نقاطاً جوهرية قد أثرت سلباً على أداء دفعات التعريب ذات الأعداد الكبيرة؛ ومع أن هذه السلبيات لم تصاحب دفعات "التغريب" ذات الأعداد المحدودة، إلا أنهما يقرران "بقدرة قادر" بأفضلية أداء دفعات التعريب " القرد في عين أمو غزالة". 5-عادة ما نحصل على تعليم مجود للأعداد الصغيرة للطلاب، فكيف يستقيم عقلاً أن نحصل علي معدلات تحصيل أكاديمي عالية بعد زيادة أعداد الطلاب إلي حوالي خمسة أضعاف بنفس الإمكانات المادية، وتناقص مريع في الإمكانات البشرية؟ يتضح من النقاط الثلاث الأولى بأن المقارنة التي عقدها الكاتبان بين التحصيل الأكاديمي للمجموعتين غير وارد، لاختلاف فلسفتي التعليم بهما، ومن ثم اختلاف أدواتهما، ومخرجاتهما. من المسلمات أن المستوى الأكاديمي للطلاب الذين درسوا بالنظام الإنجليزي في السابق أرفع من مستوى رصفائهم بعد التعريب، بسبب قدرتهم على الفعل والتجريب واستخدام الملكات الفكرية، والنقدية، لجمع المعلومات وتحليلها. يمكن ربط ذلك بالدرجات الكاملة في كل المواد – هناك مواد لا يمكن تحصيل كامل الدرجات لها - التي يحصل عليها التلاميذ في امتحانات شهادة الأساس، وتسجيل نسب العالية جداً في امتحانات الشهادة السودانية حالياً، تفوق بكثير النسب التي حصل عليها الطلاب في ستينيات، وسبعينيات القرن الماضي علي الرغم من إقرارنا جميعاً بأن الطلاب في الماضي أكثر تميزاً، لأن فلسفة التعليم العام، والعالي، عندنا أصبحت حالياً تعتمد علي الحفظ والتلقين، ومن ثم صارت صناعة تشكل بالصورة التي تصيب هوى في نفس صاحب سلطة أو مال. فإذا أردت أن يدخل إبنك أو بنتك قسم الكهرباء بكلية الهندسة جامعة الخرطوم فعليك أن تدفع 14 مليون جنيهاً لأساتذة عرفوا بفك طلاسم امتحانات الشهادة السودانية. الكل يقر بأن إصلاح أي نظام أكاديمي والتوسع فيه لا يتحققان آنياً، وأن أي خطوة منهما كفيلة بإضعاف المستويات الأكاديمية للطلاب، فما بالك بإنفاذهما سوياً؟! لقد أوضح الكاتبان أن إصلاح النظام التعليم الطبي بالتعريب والتوسع فيه، قد صاحبته عوامل جوهرية أثرت سلبياً علي أداء الدارسين – هل هو تدني في المستوى الأكاديمي؟ بالقطع لا، لأن بيانات الكاتبين توضح عكس ذلك، فهذا الضعف لا يستبان عن طريق الامتحانات، وإنما عن طريق العثرات المهنية (انهيار البنايات، والأخطاء الطبية)، والتعثر في الدراسات العليا. هذه الملاحظات لا تقود إلا لفشل التجربة. ونواصل في الحلقة القادمة د.عثمان إبراهيم عثمان عميد كلية العلوم بجامعة الخرطوم السابق osman30 i [[email protected]]