صندل: الحرب بين الشعب السوداني الثائر، والمنتفض دوماً، وميليشيات المؤتمر الوطني، وجيش الفلول    هل انتهت المسألة الشرقية؟    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    تعادل الزيتونة والنصر بود الكبير    تقارير تفيد بشجار "قبيح" بين مبابي والخليفي في "حديقة الأمراء"    أموال المريخ متى يفك الحظر عنها؟؟    المريخ يكسب تجربة السكة حديد بثنائية    مدير عام قوات الدفاع المدني : قواتنا تقوم بعمليات تطهير لنواقل الامراض ونقل الجثث بأم درمان    شاهد بالفيديو.. "جيش واحد شعب واحد" تظاهرة ليلية في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور    لأهلي في الجزيرة    قطر والقروش مطر.. في ناس أكلو كترت عدس ما أكلو في حياتهم كلها في السودان    تامر حسني يمازح باسم سمرة فى أول يوم من تصوير فيلم "ري ستارت"    شاهد بالصورة والفيديو.. المودل آية أفرو تكشف ساقيها بشكل كامل وتستعرض جمالها ونظافة جسمها خلال جلسة "باديكير"    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    عضو مجلس السيادة مساعد القائد العام الفريق إبراهيم جابر يطلع على الخطة التاشيرية للموسم الزراعي بولاية القضارف    عقار يؤكد سعي الحكومة وحرصها على إيصال المساعدات الإنسانية    شركة "أوبر" تعلق على حادثة الاعتداء في مصر    معظمهم نساء وأطفال 35 ألف قتيل : منظمة الصحة العالمية تحسم عدد القتلى في غزة    بالفيديو.. شاهد اللحظات الأخيرة من حياة نجم السوشيال ميديا السوداني الراحل جوان الخطيب.. ظهر في "لايف" مع صديقته "أميرة" وكشف لها عن مرضه الذي كان سبباً في وفاته بعد ساعات    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    الكشف عن سلامةكافة بيانات ومعلومات صندوق الإسكان    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    محمد وداعة يكتب:    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    السودان..اعتقالات جديدة بأمر الخلية الأمنية    شاهد بالصور.. (بشريات العودة) لاعبو المريخ يؤدون صلاة الجمعة بمسجد النادي بحي العرضة بأم درمان    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العلاقات الجنوبسودانية المصرية: فرص التعزيز ومرحلة بناء الثقة (1) .. بقلم: شوكير ياد
نشر في سودانيل يوم 30 - 06 - 2016

تحكم جنوب السودان بمصر علاقات أزلية منذ أن كانت ضمن إطار السودان الموحد. ويمكن الحديث بأن البدايات الفعلية في مسيرة تلك العلاقة كانت، عقب توقيع اتفاقية أديس ابابا 1972م. فقد كانت فرص قبول الطلاب الجنوبيين في الجامعات السودانية ضئيلة نتيجة قلة الجامعات وقوة المنافسة بين الطلاب على مستوى السودان بأعدادهم الضخمة. ما أثر في عدم توفر الكادر الجنوبي في مؤسسات الدولة بأعداد كبيرة. وهو ما مثل أكبر تحدي لحكومة الجنوب عند تنفيذ اتفاقية 1972م.وقد ساهمت مصر ،بمنح فرص الدراسة للطلاب الجنوبيين بجامعاتها في شتى التخصصات العلمية. وكان لذلك بالغ الأثر في زيادة أعداد الخريجين الجنوبيين والذين كانت لهم إسهامات كبيرة في مسيرة الحركة النضالية الجنوبسودانية فيما بعد. وقد استمرت فرص تقديم المنح الدراسية للطلاب الجنوبيين حتى بدايات التسعينيات بعد وصول حكومة الإنقاذ لسُدة الحكم. عندما أوقفت برنامج المنح الدراسية المصرية، بسبب مشروعها "النهضة التعليمية" وفتح جامعات في كل الأقاليم والولايات السودانية. ثم تطورت العلاقة بعد ذلك في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، فقد كان بعض قادة الحركة الشعبية يأتون لمصر في فترات متفاوتة لعكس وجهة نظر الحركة حول قضيتهم مع الحكومة في الشمال .وقد كانت العلاقة حذرة بعض الشيء بين الجانبين، بسبب حرص الرئيس "مبارك" على وحدة التراب السوداني ،والذي كانت كل مساعيه تصب حول الوصول الى تسوية سياسية بين قادة الحركة والحكومة الشمالية بينما كان بينما كان الامر في الجانب الاخر يصطدم بطموحات قادة الحركة الشعبية والتي تتجه نحو الانفصال. ثم ارتقت تلك العلاقة الحذرة بعد ذلك الي مستوى التمثيل السياسي بعد ان حدثت بعض التطورات الهامة في الداخل السوداني مثل انضمام الحركة الشعبية لتحالف التجمع الوطني الديمقراطي المعارض والتي كانت ترتبط بعلاقات وطيدة بنظام "مبارك" . فسمحت الحكومة المصرية بفتح مكاتب للحركة الشعبية أيام النضال لممارسة نشاطها السياسي في اراضيها. وقد ساهمت تلك المكاتب في حقيقة الأمر، في تعريف المحيط العربي بمشكلة جنوب السودان. ولم تبخل مراكز الدراسات البحثية في مصر في القيام بالبحوث والدراسات وتقديم الأطروحات العلمية بشأن قضية جنوب السودان. فقد ظهر باحثين سياسيين مصريين كُثر أبدوا اهتمامهم بالشأن الجنوبسوداني وكان أنشطهم، الدكتورة/ إجلال رأفت أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة وعضو حزب الوفد المصري. والتي كانت تهتم بكل صغيرة وكبيرة عن جنوب السودان وشعبه. وكانت تسافر إلى المناطق المحررة آنذاك (نيو سايت) لتُجري بعض الدراسات والحوارات مع قادة الحركة الشعبية. وتعتبر الأستاذة. د/ إجلال رأفت، مثال للعارف عن جنوب السودان اكثر مما يعرفه الجنوبيين أنفسهم، وذلك بحكم طبيعة عملها كباحثة وأكاديمية واحتكاكها المتواصل بقادة النضال وعلى راسهم رئيس الحركة الشعبية د/ جون قرنق. وعندما ضاقت سبل الحياة بالجنوبيين في دولتهم السودان في اواخر تسعينيات القرن الماضي بعد تطبيق المشروع الحضاري الإسلامي لحكومة الإنقاذ؛ لم يجد الجنوبيون ملاذاً آمناً سوى دولة مصر، فاستقبلتهم واحتضنتهم وسمحت لهم بالإقامة والعمل أيضاً ولم تبخل لهم بشيء آنذاك. وعندما فتحت مكاتب الأمم المتحدة باب الهجرة للجنوبيين بمصر زاد عدد الجنوبيين الوافدين لمصر بأعداد كبيرة طلباً للهجرة لدول أمريكا واوروبا.
وتعتبر فترة التسعينيات من أكثر الفترات التي ازدهرت فيها تلك العلاقات الطيبة، علاقة جنوب السودان ممثلة في الحركة الشعبية او الجنوبيين المقيمين بمصر بصفة عامة والحكومة المصرية. وربما كان يعزي ذلك لحكم العلاقة المتوازنة التي كانت تعامل بها مصر كل من السودان وجنوبه. ولكن تعتبر حادثة ، محاولة اغتيال الرئيس "مبارك" في (1995م) من قبل عناصر تنتمي للجماعات الاسلامية بالسودان، نقطة التحول الرئيسية والهامة والتي ساهمت بشكل كبير في ميل ميزان العلاقات لصالح الجنوبيين بصفة عامة. وقد عُزز ذلك التحول الهام بالزيارة التاريخية لرئيس الحركة الشعبية الراحل د/ جون قرنق في العام 1997م والتي احدثت صدىً واسعاً على مستوى العالم العربي. ولكن تلك العلاقة الطيبة شابها بعض (الفتور والنفور) بعد إتفاقية سلام نيفاشا 2005م مباشرةً. وربما يرجح السبب الى الادوار السلبية والتي كانت تلعبها حكومة السودان تجاه قضية جنوب السودان؛ والتي ساهمت بدورها في زيادة هوة التباعد بين مصر وحكومة جنوب السودان آنذاك. فقد شكلت تلك الأدوار السالبة بعض المفاهيم والانطباعات لدى أذهان الباحثين والكتاب المصريين والتي أثرت بشكل او بآخر على صناع القرار السياسي، فيما يختص بالانطباع السائد عن نوايا الجنوبيين الحقيقية تجاه مصر. وبلغت تلك التوجسات والانطباعات ذروتها أثناء عملية الاستفتاء المصيري لجنوب السودان، حيث كان حديث الخبراء المصريين في تحليلاتهم السياسية ينصب في أن انفصال جنوب السودان سيولد دولة عميلة تخدم المصالح الغربية ومن بينها مصلحة إسرائيل والتي تعتبر العدو اللدود والأزلي لمصر . ولأن مصر يمثل النيل لها شريان وعصب الحياة؛ كان لا بد من أن تتخوف على مصالحها في دولة جنوب السودان، وأستحضر هنا حديث الدكتور/ محمد سالمان طائع، استاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، حينما ذكر في إحدى محاضراته؛ (بأن الحرب المقبلة ستكون حرب المياه، وان العالم سيشهد في ال(50) سنة المقبلة ندرة وقلة في المياه العذبة في العالم؛ ولذلك ينبغي لمصر بأن تحرص على تأمين منابع النيل حتى تضمن لنفسها استمرارية تدفق مياه النيل بصورة فعالة، وإن استدعى الأمر الدخول في مواجهات عسكرية مع دول الحوض في حال القيام بمشاريع من شأنها تقليل نسبة تدفق المياه في مصر).لأن قضية مياه النيل قضية أمن قومي بالنسبة لمصر بحسب تعبيره. وقد بلغ حرص مصر على تأمين مياه النيل ، مبلغاً أضحت فيه تتشكك على أي تقارب إسرائيلي مع دول حوض النيل وتفسره على أنه مؤامرة تُحاك للإضرار بأمنها وهي بالكاد توجسات غير مبررة وغير مبنية على دراسات حقيقية متعمقة. وأستحضر هنا مرة أخرى، حديث الدكتور / أيمن شبانة، نائب مدير مركز الدراسات السودانية بمعهد الدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة، حول زيارة الرئيس / كير لإسرائيل في اواخر ديسمبر 2011م. فقد ذكر د/ شبانة بالحرف الواحد،(بأن تلك الزيارة هي بداية المؤامرة ضد مصر، وأن إسرائيل تسعى للإضرار بأمن مصر من خلال مياه النيل. وهي من قامت بتأليب دول حوض النيل عليها لإثارة موضوع مراجعة اتفاقيات مياه حوض النيل. وهي أيضاً من قامت بتمويل مشروع سد النهضة الأثيوبي). وبالرغم من أنه كان استاذي، وله كامل الاحترام؛ إلا انني كثيراً ما كنت أختلف معه في وجهات النظر عندما يتحدث عن جنوب السودان؛ فبحكم عمله كنائب مدير لمركز الدراسات السودانية بالمعهد؛ كان يتصور بأنه على دراية كاملة بالشأن الجنوبسوداني. ولذلك كان كثير التحدث عن جنوب السودان أثناء محاضراته التي كان يُلقيها في المادة التي كان يُدرسها (النظم السياسية في أفريقيا). فكان كثير الانتقاد لحكومة جنوب السودان، ويوصف القادة الجنوبيين، بأنهم لم يصلوا بعد الى مرحلة الوعي السياسي الذي يُمكنهم من إدارة دولة بأكملها، وكان يرى بأن الانفصال ليس في مصلحة الجنوبين لأنه سيجلب لهم مزيداً من التخلف والجهل. وقد كان له العذر فيما يدعيه؛ لأنه من الطبيعي أن يتحدث بهذه الكيفية، لأن جميع تصوراته وافتراضاته التي يسوغها، كانت مبنية على الدراسات والمراجع التي كتبت بأقلام سودانية والتي بالكاد يمكن اعتبارها دراسات متحيزة مبنية على اساس وجهات نظر احادية.
فقد كانت تتخوف مصر من تداعيات انفصال جنوب السودان وانعكاس ذلك على مصالحها داخل منظومة دول حوض النيل، بناءً على تلك التحليلات والدراسات السودانية. وفي المقابل قوبل هذا التخوف المصري المبالغ فيه بنوع من الاستهجان في الطرف الجنوبسوداني، لدرجة أن بعض القيادات النافذة في الدولة، كانت ترى بأن من مصلحة جنوب السودان عدم تطبيع علاقات مع الدول العربية والتي تقف في وجه مصالح دولتهم. ويمكن القول بأن العلاقات الجنوبسودانية المصرية كانت في أسوأ حالاتها في تلك الفترة. وقد شهدت الفترة ما بعد الاستقلال والتي تزامنت مع الثورة المصرية (ثورة 25 يناير/2011)، تدهوراً كبيراً في العلاقات على مستوى البلدين ؛خاصة في عهد الرئيس(محمد مرسي) وهي الفترة التي شهدت فيها مصر تدهوراً(مريعاً) في سياستها الخارجية مع دول حوض النيل. ففي عهد الرئيس مبارك كانت مصر تتمتع بسياسة خارجية متوازنة مع معظم تلك الدول؛ ولذلك كانت علاقاتها متوازنة مع السودان وجنوبه ولم تكن تنحاز الى طرف على حساب الآخر. ولكن في عهد "مرسي" تغيرت الموازيين تماماً، بسبب الصراعات الداخلية وعدم تبلور النظام السياسي الجديد الذي أنتجته الثورة. وأصبحت الموازيين تميل أكثر لصالح حكومة السودان وذلك للتقارب الوجداني و الأيديولوجي الإسلامي.
ولكن على الرغم من التدهور الذي شهدته العلاقات الجنوبسودانية - المصرية في فترة ما بعد الثورة (25 يناير/2011) ،الا ان الدعم المصري لجنوب السودان لم يتوقف على مستوى تقديم الخدمات الطبية، والكورسات التدريبية للكادر الجنوبي في شتى المجالات، بالإضافة الى منح الدراسة التي تقدمها للطلاب الجنوبيين في مختلف التخصصات العلمية.
وهنا يظهر الدعم المصري "اللا متناهي " في هذا الشأن، خاصة ما يختص بالمنح الدراسية والتي بدأت منذ السبعينيات والتي امتدت الى يومنا هذا. فمعظم القيادات السياسية بالدولة حالياً من خريجي الجامعات المصرية ،ابرزهم نائب الرئيس الحالي السيد /واني ايقا، برنابا بنجامين، دينق الور، ريك قاي كوك، أتيم قرنق، دينق هوج، مايكل ملي حسين ، نيادينق مليك والقائمة تطول.
مركز دايفرستي للدراسات الاستراتيجية.الكاتب شوكير ياد
العلاقات الجنوبسودانية - المصرية....فرص التعزيز ومرحلة بناء الثقة (2) شوكير ياد
بالرغم من الجهود المصرية الحثيثة والمتواصلة لتعزيز تلك العلاقة على مستوى البلدين، الا انها في المجمل العام يشوبها بعض الريبة بسبب عدم الثقة المتبادل، وخاصة من الجانب الجنوبسوداني. لتوجسه وإحساسه بوجود نوايا وخفايا وراء هذا الدعم السخي. وقد يرجح الأمر للتحليلات والتصريحات التي تخرج أحياناً في وسائل الاعلام المصرية والتي تعتبر فيها جنوب السودان بؤرة للتواجد الإسرائيلي، والذي يمثل تهديداً للأمن القومي المصري بسبب الموقع الجيو سياسي المتميز لدولة جنوب السودان ووقوعها في "أعالي منابع نهر النيل" ،والذي يمثل تهديداً للأمن المائي المصري، بسبب التمركز الاسرائيلي الذي يسعى للسيطرة على الثروة المائية بجنوب السودان .
فطبيعة العلاقة ما بين البلدين يحكمها مبدأ عدم توافر الثقة المتبادلة. وهي علاقة مبنية في الأساس على عدم التوازن، أي ان هناك طرف يرى نفسه أقوى من الطرف الآخر، وبالتالي يستطيع ان يفرض إملاءاته على الطرف الأضعف. فمثلاً؛ تُصِر مصر في كل مناسبة تلتقي فيها بالجانب الجنوبسوداني على طلب إحياء "مشروع جونقلي" بالرغم من علمها التام بالأضرار البيئية والتي قد تسببها للجانب الجنوبسوداني إذا ما تم إحياء المشروع .ومن هنا يأتي التوجس الجنوبسوداني، فلا يمكن أن تضحي دولة ما بمصالح شعبها من أجل إرضاء دولة أخرى. وإذا ما تم إثارة السؤال التالي...ما فائدة فتح قناة جونقلي لجنوب السودان؟؟!! بالطبع من خلال الإجابة على هذا السؤال يمكن فهم طبيعة تلك العلاقة غير المتوازنة. فالغرض الاساسي من انشاء "قناة جونقلي" هو زيادة ايراد وتدفق نهر النيل بحيث تزيد بها مصر حصتها من مياه النيل. بيد أن هذا الامر لا صالح لجنوب السودان فيه . ولكن يبدو أن الطرف المصري في عهد الرئيس الحالي "السيسي" بدأ يفهم بأن قواعد اللعبة قد تغيرت بسبب التحولات التي حدثت في منطقة دول حوض النيل وإصرار دولها على إعادة النظر في اتفاقية مياه النيل. وربما بدأت تسعى حالياً الى بناء علاقات جادة حقيقية مع دول حوض النيل تحكمها تبادل مصالح ومنافع حقيقية، الا أن تلك المساعي لم تتبلور بصورة حقيقية تقود الى تفاهمات جادة بين دول الحوض. فمعنى موافقة مصر المبدئية على قيام "سد النهضة" الاثيوبي يعضد فكرة إستيعاب "مصر" لتلك التحولات الجديدة والتي تستدعي مراجعة استراتيجيتها بطريقة تضمن لها بناء علاقات جديدة تخدم اهدافها الآنية والمستقبلية. فالتقارب المصري مع جنوب السودان حالياً، نابع من منطلق اتجاه مصر لتعزيز مصالحها في المنطقة والتأمين على حصتها من مياه النيل. وهذا بطبيعة الحال هدف مشروع لمصر طالما يستند الى معايير تبادل المصالح والمنافع بين البلدين. ولأن علاقات الدول تبنى على المصالح المتبادلة أو المشتركة في حقل العلاقات الدولية، فلا بد لجنوب السودان أن تبحث لها عن هدف استراتيجي أيضاً تسعى الى تحقيقه من خلال علاقة التطبيع هذه. فدائماً في مجال العلاقات الثنائية بين الدول تبحث الدولة عن مصلحتها عند القيام بعملية التطبيع ؛فدائماً ما تسأل تلك الأسئلة؛ ماذا سأستفيد من وراء تطبيع تلك العلاقة مع الدولة (س) ؟ وما مدى أهمية هذا الكسب بالنسبة لدولتي ؟ وماذا تريد الدولة (س) من وراء هذا التطبيع؟..وهكذا
وتلك من المعايير الهامة المتبعة في مجال تطبيع العلاقات الثنائية في حقل العلاقات الدولية. وقد تلعب جنوب السودان أدواراً كبيرة داخل منظومة حوض النيل في حال استقرار نظامها السياسي، وبالطريقة التي تضمن لها تحقيق مصالحها واهدافها الاستراتيجية. ويمكن القول بأن جنوب السودان، لديها المقدرة على لعب دوراً محورياً (في المنطقة) في المستقبل القريب. وذلك بحكم موقعها الجغرافي المتميز داخل منظومة حوض النيل. وهناك نقاط قوة أيضاً تستطيع استخدامها لمصلحتها في علاقاتها مع الدول الأخرى والتي من بينها مصر.
وبنظرة فاحصة لطبيعة تلك العلاقة؛ نكتشف بأن ملف مياه النيل يمثل ((البوصلة)) التي تحكم سير العلاقات بين البلدين في كل المجالات المختلفة. بمعنى آخر كل الاتفاقيات المستقبلية والتي قد يبرمها الطرفان، تكون مرهونة بملف مياه النيل؛ فمتى ما حدث أي تباعد في وجهات النظر بين الدولتين بخصوص ذلك الملف؛ فسيقابله انهيار كبير في كل الاتفاقيات المُبرمة بين الطرفين. فمثلاً إذا أبدت جنوب السودان رأيها الواضح بخصوص اتفاقية "عنتيبي " الاطارية وقررت الانضمام إليها؛ فكيف سيكون ردة فعل الجانب المصري إزاء هذه الفرضية..؟؟!
فحتى الان لم تتضح الامور بشأن حصة جنوب السودان من مياه النيل والمعايير التي يمكن ان تخضع لها في حال المطالبة بحصتها من مياه النيل، هل ستكون من اجمالي حصة السودان التي أقرتها اتفاقية 1959،ام تتجه جنوب السودان الى الانضمام لاتفاقية "عنتيبي" لضمان حصتها في ظل الدعوات الرامية لإعادة توزيع حصص المياه بين دول المنبع والمصب حسب بنود اتفاق عنتبي الإطاري.
إذن هنا يستدعي الأمر، ان تدرك جنوب السودان طبيعة تلك العلاقة المحفوفة بالمخاطر المستقبلية. ومن ثم اعادة النظر في كل الاتفاقيات "القديمة" والتي تود ابرامها في المستقبل بإجراء دراسات حقيقية عليها. وأن تكون نظرتها أبعد من أن تُبرم اتفاقيات تخدم أهدافاً مؤقتة وليست اهدافاً استراتيجية. فطالما هناك أهدافاً استراتيجية تسعى مصر لتحقيقها من خلال ذلك التطبيع؛ فلا بد لجنوب السودان أن تكون أكثر إدراكاً بطبيعة تلك الأهداف الاستراتيجية، وكيفية التعامل معها بحيث لا تضر بمصالحها في الداخل. وربما لم تتجاوز بعد، جنوب السودان مرحلة العواطف والمجاملة إزاء القضايا المصيرية، وهذا ما قد يُدخلها في متاهات لا حصر لها في علاقاتها مع الدول الاخرى في المستقبل القريب. فدولة مثل مصر ليس من السهل الدخول معها في اتفاقيات غير محسوبة النتائج. فعلى سبيل المثال، زيارة وزيرة الكهرباء والسدود والموارد المائية بجنوب السودان دولة مصر في العام (2015م)،في إطار تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين وتفعيل بعض الاتفاقيات القديمة في ملف مياه النيل، تعتبر خير دليل على ذلك "عدم تجاوز مرحلة العواطف في علاقاتها مع الدول". فالأمر اللافت في تلك الزيارة، هو عدم تحقيق الوزيرة "نونو كُمبا" لأي كسب سياسي؛ ولم نسمع حتى بأنه تم التوقيع على اتفاقية جادة مثل، مُساهمة مصر ببناء (مشروع سد صغير لتوليد الطاقة الكهربائية) بجنوب السودان..!. ولكن على النقيض تماماً، تم الاتفاق على عودة البعثة المصرية والتي تعمل في مجال تطهير مجرى النيل من الأعشاب ،وإنشاء وحدة لقياس مناسيب مياه النيل بجوبا، وكل هذه الامور تصب في مصلحة الطرف المصري..!!! فقد ذهبت السيدة الوزيرة ولم تعُد بشيء يحسب لصالح البلاد؛ لأنها لم تكن مستعدة في الأساس لمثل تلك الاتفاقيات (الحساسة) والتي تحتاج الى دراسة وافية من كل الجوانب.
هنا يُكتشف مدى ضعف وهشاشة تلك العلاقة غير المتوازنة بسبب التباين الواضح في المسائل محل التعاون. اذ تكمن المشكلة في اختزال الطرف المصري لتلك العلاقة وتأطيرها في تلك المسائل التي يغلب عليها طابع المساعدات، وهو ما ساهم في عدم تقدم وتطور تلك العلاقة.
ولكن هناك فرص حقيقية لتعزيز تلك العلاقة ،اذا ما أرادت مصر أن تبني علاقات قوية مع جنوب السودان بشكل يضمن عدم الإضرار بمصالحهما . وكل الظروف مواتية لتحقيق ذلك؛ فطالما مصر يهمها مواقف جنوب السودان الداعمة لها تجاه اتفاقيات مياه النيل؛ في المقابل ستسعى جنوب السودان الى الاستفادة من خلال ذلك في مجالات اخرى.
ويمكن الحديث عن مستقبل العلاقات بين البلدين، بأن نجاحها واستمرارها مرهون ،بالعوامل التالية:-
تغيير النظرة التقليدية، والتي تختزل فيها الحكومات المصرية، تلك العلاقة على مبدأ المساعدة والاحسان، وحصر انطباعاتها في زاوية بساطة طموحات حكومة جنوب السودان.
إعادة صياغة تلك العلاقة الطيبة، بفهم طبيعة الاختلاف ما بين العلاقة في إطار السودان الموحد، وبين تلك العلاقة في ظل جنوب السودان المستقل. فقد تختلف الموضوعات والمعايير حول المجالات محل التعاون.
اعادة بناء وتعزيز تلك الثقة التي تأثرت بأحداث وموضوعات، كانت تعكس عدم اكتراث الجانب المصري لتلك العلاقة، مثل أحداث مصطفى محمود (ديسمبر2005م) والتي راح ضحيتها المئات من مواطني جنوب السودان، وتنصل الحكومة المصرية عن المسؤولية المباشرة الناجمة عن الاحداث، والذي يتطلب من الحكومة المصرية المبادرة بإعادة فتح ذلك الملف وتعويض أسر هؤلاء الضحايا كبادرة طيبة لإبداء حسن النوايا.
تغيير النظرة السالبة والانطباع السائد لدى الشارع المصري من نخب ومواطنين تجاه انفصال جنوب السودان، بوصفها دولة عميلة تخدم اجندات خارجية ، ووصف الأمر بأنه مؤامرة لإحكام اسرائيل سيطرتها على الثروة المائية بجنوب السودان للإضرار بأمنها.
تغيير الطريقة التي تريد بها الحكومة المصرية احياء مشروع قناة "جونقلي"،وعدم استخدام اسلوب الالحاح المبالغ فيه، وتسوية الامر بطريقة ترضي الجانب الجنوبسوداني، أي لا بد ان يكون هناك توازن او تكافؤ في المجالات محل التعاون بحيث تبرر الموافقة المنطقية على احياء هذا المشروع.
فهم نفسية وطبيعة الانسان الجنوبي، والذي لم تتغير نظرته السيكولوجية بعد، بسبب توجسه عن كل ما هو عربي ،نتيجة للرواسب السالبة التي احدثتها النخب الشمالية في أذهان الجنوبيين، والمساهمة في رأب هذا الصدع التاريخي السيئ، والذي من الممكن ان يلعب دوراً هاماً في تقريب وجهات النظر بين البلدين في شئون كثيرة.
إدراك الجانب المصري لأهمية جنوب السودان، في لعب أدواراً محورية في ملف حوض النيل في المستقبل.
وإذا ما تجاوزت الحكومات المصرية تلك (المتاريس) التي تهدد مستقبل العلاقات الثنائية ما بين البلدين؛ فهنا تبدأ نقطة الإنطلاق نحو تطبيع علاقات سياسية يُمكن أن ترتقي الى مستويات أكبر. ومن هنا تبدأ مرحلة بناء الثقة (( الحلقة المفقودة)) في تلك العلاقة.
ولكن لا يُمكن التكهن بحدوث نقلة نوعية على مستوى تطبيع العلاقات بين البلدين في الفترة الحالية، والتي تشهد فيها البلاد حالة عدم الاستقرار السياسي. فهناك اسباب موضوعية قد تعيق حدوث تلك المسألة، مثل التي تتعلق بالتطور السياسي للدولة والمرتبط ببناء المؤسسات القومية القوية والتي تحتاج الى وقت كبير للتبلور، وتطوير مراكز البحوث العلمية والتي تساهم في تقديم الاستشارات الهامة والتي يستند عليها صناع القرار في تحديد الأهداف والأولويات في مجالات التعاون و الاتفاقيات .بالإضافة الى الابعاد الاخرى والتي تتعلق بتطور الفكر والوعي السياسي وارتفاع الحس الوطني لدى قادة البلاد. فحتى هذه اللحظة لم تتبلور رؤية سياسية واضحة للنخبة الحاكمة بجنوب السودان عن ماهية تلك المصالح الاستراتيجية الهامة التي تريد تحقيقها من خلال تطبيع العلاقات مع مصر، وينسحب الامر على الجانب المصري أيضاً ،فنظرياً يمكن الحديث بأنه يعلم حقيقة مصالحه الاستراتيجية تجاه جنوب السودان، ولكنه عملياً يفتقد للمنهج والميكانيزمات التي يستطيع بها تحقيق تلك الاهداف الاستراتيجية. بسبب السطحية وعدم التعمق من جانب الباحثين والكتاب المصريين في عمق القضايا الجنوبية والارتكان على دراسات قديمة عفى عليها الدهر. فالدور الريادي لمصر قد بدأ "يتقزم" في القارة الافريقية بسبب عدم مواكبة التحولات التي طرأت في سياسات القادة الافارقة حول مجمل القضايا، والذي يستدعي من الجانب المصري اعادة ترتيب أوراقه لمجابهة تلك التحولات والتطورات المحتملة.
* مركز دايفرستي للدراسات الاستراتيجية، الكاتب شوكير ياد
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.