عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. (1) لربّما دبّج مراسل قناة البي بي سي في برنامج، بثّ في 22 يوليو 2016، تقريره مختزلاً، عن أحوال اليهود في المجتمع السوداني، وعن تعذّر اندماجهم فيه ، بطريقة فارقتْ المهنية الصحفية. إن تجاوزنا عن ضعف مهنية المراسل، فمن العسير إعفاء هيئة الاذاعة البريطانية في لندن، عن ضعف في تمحيص تقارير مراسليها المعتمدين . لقد طالعتُ مقالاً للأستاذ محمد عبد السيد ، سلط فيه ضوءا كثيفاً على الموضوع. لكن تناوله قد تغافل عن ذكر كثير من التفاصيل المهمة، حول قصة اليهود في المجتمع السوداني. ثمّة كتب ومراجع تناولت أبعاد الموضوع بصورة مسهبة . (2) لعلّ أول ما يجب الإلتفات إليه ، هو أننا في الحديث عن اليهود في السودان، فإننا نلامس ملفاً من الملفات المسكوت عنها والتي نراوغ أنفسنا في تناولها. ليس هذا السكوت ، هو من طرف السودانيين من الملل الأخرى فحسب، ولكن أيضاً من طرف المنحدرين من أصول يهودية ، ضاربة في التاريخ ، أو حديثة نسبياً . لعلنا نذكر كتاب الأستاذ الراحل محمد إبراهيم نقد، سكرتير عام الحزب الشيوعي السوداني، عن ظاهرة الرّق في السودان، وأسهب في تفاصيل تلك الممارسة المستهجنة ، خاصة خلال فترة الدولة المهدية، التي سادت قبل أكثر من مائة عام. لم يكن الراحل نقد، أستاذا في الجامعة يجري بحثاً أكاديمياً لنيل درجة جامعية، بل هو قيادي في حزب عقائدي معروف. برغم ذلك، فقد أنجز الراحل نقد دراسة غاية في الرصانة والركون إلى المراجع المهمة للإحاطة بالموضوع من كافة جوانبه. موضوع الرق في السودان، هو أحد الملفات المسكوت عنها، والتي يتجنّب الأكاديميون الضالعون في دراسات المجتمعات السودانية، الخوض في أبعادها وتفاصيلها. ليس ذلك الملف، هو الوحيد المسكوت عنه. (3) إن ملف السودانيين المنحدرين من أصول يهودية ، بقي مسكوتاً عنه أيضاً ، ليس لاتصاله بأوضاع داخل السودان فحسب، بل لاتصاله بملفاتٍ خارج السودان على نحوٍ مباشر. إن ملف العلاقات العربية الإسرائيلية ، بكل زخمه، يتصل بذلك الملف . والملاحظ أن تعقيدات الصراع العربي الإسرائيلي، أبقت ملف العرب المنحدرين من أصول يهودية ملفاً يشوبه الغموض، وتجري معالجته من وراء كواليس التاريخ العربي المعاصر، كما نلاحظ في حالات اليمن والمغرب وتونس، على سبيل المثال. لكأن كلّ من ينحدر من أصول يهودية، تحاصره شبهة التعاطف مع يهود دولة إسرائيل، إن لم يكن تهمة صريحة بالتجسّس لصالح تلك الدولة، المسبوق ذكرها دوماً بكلمة "العدو" الأول. لحق المنحدرون من أصول سودانية ومعهم اليهود السودانيون بمجموعة تلك الملفات المعتمة عن اليهود العرب. ولكن لنكون دقيقين، لنا أن نميّز هنا ، بين السودانيين اليهود، وهم فئة من السكان أصولهم من الشام أو مصر ، وحافظوا على نقاء أصولهم، فلم يكن لهم اختلاط أو تصاهر مع الأسر السودانية التقليدية، مسلمة أو مسيحية، وبين فئة ثانية من السودانيين المنحدرين من أصول يهودية، أولئك الذين تصاهر آباؤهم واختلطوا مع أسر سودانية تقليدية، وهم الذين لا يعرفون وطناً غير السودان ، ولا اعتزاز بوطن آخر خلاف السودان. . (4) لقد شهد السودانيون اليهود، والسودانيون من أصول يهودية، محنتين بارزتين ، تباينت ردود فعل الفئتين حيالهما، تبايناً واضحاً. شكلت حرب السويس عام 1956، المحتة الأولى التي خرج بعدها معظم السودانيين اليهود ، واكتملت موجة خروجهم بصورة شبه نهائية، بعد حرب يونيو1967. إلى ذلك لا نلمح رصداً لأي خروجٍ من عناصر الفئة الثانية، أولئك المنحدرين من أصول يهودية ، إذ حجب انتماؤهم بحكم المصاهرة والاختلاط تماهيهم مع الفئة الأولى من اليهود السودانيين. تمثلت المحنة الثانية في الفترة التي جرى فيها تأميم عدد كبير من المؤسسات التجارية التي يملكها أجانب، وذلك في عام 1970. تمّ ذلك في إطار سياسة التوجه لبناء إقتصاد إشتراكيّ، بعد الإنقلاب العسكري في 25مايو عام 1969 ، والذي قامت به مجموعة الضباط الأحرار، بقيادة جعفر نميري. معلوم أن أكثر السودانيين اليهود، والسودانيين المنحدرين من أصول يهودية، منخرطون في نشاطات اقتصادية وتجارية، فكان وجودهم في السوق وفي القطاع الخاص، أكثر وضوحاً من وجودهم في مؤسسات الدولة. غير أن فئة السودانيين من أصول يهودية، لم يتأثروا بإجراءات التأميم، فهم جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع السوداني بحكم وجودهم التاريخي القديم، وأكثرهم ممن كان أجدادهم قد تحولوا إلى الديانة الإسلامية، قبل عقود طويلة، إبان الحكم المهدوي بين 1885 و 1898. (5) لا يوجد حالياً في السودان، إلا القليلون من الفئة الثانية، وهم سودانيون لا يشكك في سودانيتهم متشكّك، إلا أن يثير إسماً لعائلة أم درمانية ، جدّها الأكبر إسمه "إسرائيل"، قلقاً حذراً ، إذ بدأوا يحسّون ببعض المضايقات الطفيفة، بشأن ذلك الإسم. لكن للمواطنة حقوق يحميها القانون ، ولا أشك أن السياسة الرسمية للدولة في السودان، لا تميز ولا تنتقي في المعاملات، بين مواطنيها بحسب أصولهم أو عقائدهم. رغما عن ذلك فإني أميل إلى الاعتقاد، أن هذه الفئة من المنحدرين من يهود قدامي، هم مسلمون بالفطرة، وعلى دين آبائهم الذين تحولوا إلى الإسلام، منذ عشرات العقود . إنّ زميلَيَّ في مدرسة المؤتمر الثانوية، في سنوات الستينات من القرن الماضي، هما من تلك العائلة التي ينحدر جدّهم وإسمه إسرائيل، من أصول يهودية. لم يخطر ببال أحدٍ - مُعلم أو طالب بالمدرسة- أن يثير شكوكاَ حول "سودانيتهم"، بل لم يكن ليثير ذلك الإسم وقتذاك، أيّ دهشة ناهيك عن السخرية. على أني أحمد لتلك الأسرة الكريمة، شفافيتها في طرح بعض المضايقات التي يواجهها بعض أفراد تلك الأسرة مؤخراً، وأقدّر صراحتهم في إعلاء صوتهم جهيراً، أنهم سودانيون ويفخرون بالانتماء لبلد ، نشأوا فيه وتجذروا في ترابه. (6) لقد أنجز صديقي الراحل مكّي أبو قرجة ، كتاباً توثيقياً رائعاً عن أبناء يعقوب في السودان، وقد إستقى مادته وترجمها، عن كتاب ألفه إليا مالكا، إبن مالكا الكبير حاخام الخرطوم ، وقد صدر في عام 1997 بالإنجليزية. أثار تقرير هيئة الإذاعة البريطانية لديّ شجوناً وأحزانا، إذ ذكّرني بصديقي الراحل مكي أبو قرجة، وقد مضت ذكرى رحيله قبل أيام. لم يعِد لذاكرتي ذلك البرنامج إسم صديقي، ولكن أيضاً، ذكرى أول نظارة طبية وضعها على عينيّ إخصائي النظارات الأوّل، في شارع البرلمان في الخرطوم : اليهودي النبيل موريس جولدنبيرج. . لزميلي القديم في مدرسة المؤتمر الثانوية، دكتور منصور إسحق إسرائيل، تحيتي وإعزازي الخاصين له ولأسرته الكريمة كذلك، ولأسرة شاؤول بمدينة مروي، أصهار الإداري كمال زميلي المعتق بوزارة الخارجية . . الخرطوم – 2 أغسطس 2016