عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. إستيقظت وهي مرعوبة بعد منتصف تلك الليلة علي صوت الصافرة وقد تصدّع له سكون الليل، كادت أذناها أن تنفرطا .. لم تكن تلك هي المرة الوحيدة التي يحدث فيها ذلك.. بائع الحليب.. كيف يجرؤ أن يتردد علي الدار في هذا الوقت المتأخر، بعد منتصف الليل ؟!.. . تكرر لها ذلك الكابوس عدة مرات.. بل أنها في الليالي المقمرة التي كان يصادف أن تنام فيها لوحدها، في الغرفة التي تطل شرفتها الشرقية علي الشارع العام.. قد تعودت أن تستيقظ أكثر من مرة علي صوت الصافرة القاسي. . وعلي بائع الحليب، وهو يوبخها بفظاظة شديدة.. أطرافه الهلامية تتمدد كأذرع السلطعون، وهو يحاول الفتك بها.. فيتسطح وجهه الدميم علي النافذة الزجاجية للغرفة، بعد أن يتعمد الإرتطام بها.. كرّتين أو أكثر، يظل يتحولق كالثعبان، محاولا عبورها بعناد ظاهر. . كانت تبكي وتستغيث .. دون أن تعيرها أمها اهتماما.. فقد إعتاد جميع من في البيت علي كوابيسها، وعلى صراخها، والضجة التي كانت تحدثها بعد منتصف الليل.. . كانت تشير لهم، وهي ترتجف، الي النافذة المطلة علي الشرفة.. وإلي العتمة البادية للناظر عبرها.. بائع الحليب، لا يزال يتراءى لها وهو يمرِّغ وجهه الدميم بقوة مفرطة علي الواجهة الزجاجية.. كانت حدقتاه تجحظان حتي تضيقان بمحجريهما فتنبذلان.. تتنافران.. وتأخذان اتجاهات متعاكسة ومتباعدة.. ثم تتشاكسان فتركضان الواحدة خلف الأخرى، تتقافزان وتحدثان جلبةَ وقدر لا يستهان به من الفوضى في أركان المنزل، وصريراً كصرير الجنادب. كانت الحدقتان تعبثان في جرأة تامة تحسدان عليها، ما بين الغرفة وصالة الطعام، تماما كما تفعل الجرذان المسعورة. . . أنفه العريض كان يتسطح في اللوح الزجاجي أمامها حتي يتراءي لها وقد صار ثُنائيُّ الأبعاد.. كفَّتاهُ المتسختان.. صوته الأجش.. ووجنتاه الناتئتان كانتا تندعكان علي النافذة كخرقة بالية.. كأنما قوة خارقة من فوقه تحاول تمريغه وسحقه على الزجاج.. كان يصيح بإسمها وفي صوته حشرجة وأنين يزيدان من توترها.. يستغيث، وهو يدفع بكفيه إلى الأعلى كالغريق..كان كأنما يطلب النجدة.. فيزداد فزعها وصراخها شفقة وخوفا فينتابها شعور بالغثيان.. لكنه لا يلبث أن يقهقه في ضحك هستيري.. ثم يغادر شبحه بعد أن ينفصل جسده عن النافذة.. ليعود من حيث أتى.. ويعود كل شئ لهدوئه المعتاد.. . لم يكونوا ليصدقونها.. فقد هرعوا لمساعدتها عدة مرات دون فائدة تذكر.. لكنها في كل مرة كانت تشير إلى المجهول.. للفراغ المتناهي أمامها.. وتحاول بلا جدوى، أن تدلهم، وهي تتوهم في الغالب، علي أشياء ليست موجودة أصلا.. كانت في نوبة خوفها تتحلل وتفقد التحكم في كل شئ.. فسرعانما تمتلئ أرضية الغرفة الخشبية بالقئ والقاذورات.. صار أهل الدار يتضجرون منها، والجيران كذلك.. لم يعودوا يخفون قلقهم المتزايد وفضولهم لمعرفة حقيقة ما كان يحدث كل يوم بعد منتصف الليل بالدار.. إنها كاذبة ليس إلا.. هم علي الأقل علي يقين من ذلك. . كانت تتحاشي جلب الحليب مهما كلفها الأمر.. ففي أيام عطلة الآحاد حينما يذهب أخواها ووالدها الي الكنيسة المجاورة لأداء الصلوات.. وتتخلف هي مع والدتها بالدار.. كانت أمها تذهب لوحدها للأسفل كعادتها دون الإستعانة بها.. فحتى وهي موجودة بالبيت لم تكن لتوفر على أمها مهمة النزول لجلب الحليب. . ما زالت أمها تذكر ذلك الصباح البائس حينما سمعت صافرة بائع الحليب، وقد كانت منهمكة في صناعة ثوب من الصوف.. قد أجبرتها على النزول دون إرادتها، بعد أن أقسمت وصرخت فيها، وتوعدتها بطردها من الدار إن هي لم تفعل.. -الآن تذهبين لإحضار قنينة الحليب.. سأضربك إن لم تفعلي.. ماذا سيحدث .. هل سيأكلك بائع الحليب المتجول.. ليته يفعل. . نزلت الفتاة وأمها منهمكة في تمرير إبرتي التريكو في الكنزة من بين فخذيها.. فقد مرت اللحظات ثقالا ..سمعت أمها ضحكات بائع الحليب في الأسفل.. تعالت نبرتها مدوية على غير العادة .. كأنما كانت تنطلق من كافة منافذ المدينة، حتى ارتجت من فعلها الكؤوس الزجاجية في خزانة الأواني .. كانت هي نفس الضحكات التي كانت الفتاة تسمعها لوحدها بعد منتصف الليل.. . في الأسفل، كان يضحك ويحشرج وبدأت ملامحه في التغير، فقد تسطح وجهه الدميم وجحظت عيناه، تماما كما كان يفعل في كل ليلة.. ظل ينظر إليها ساخرا وتتمدد أطرافه. تسمَّرت هي في مكانها من شدة الفزع والروع، كتمثال من البرونز، وقد أحكمت أصابعها علي أذنيها وانسرب البول دافئا على سروالها القطني. . كان كأنما خاطرة سوداء.. أو هاتفا سيئا قد جعل المرأة تلقي بكنزة الصوف من على يديها، وتطيح بالأغراض أمامها بلا مبالاة.. لتنطلق وهي تقفز عابرة الدرج إلي الأسفل كي تلحق بالصغيرة.. لكن عجلات الزمان كانت قد دارت في غفلة منها.. كان كل شئ قد حدث كلمح البصر.. .