بَعدَ مُضِي خَمْس سَنَوات على الإتفاقيَّةِ الخرطوم : موسى حامد يُوافق التاسع من يناير الجاري مرور خمس سنوات على التوقيع على إتفاقية السلام الشامل أو ما أُصطلح على تسميتها إختصاراً بال ( CPA) ، والتي وقعَّت عليها الحومة السودانية وفصيل الحركة الشعبية لتحرير السودان المتمرد ( آنذاك ) ، بأحد منتجعات كينيا السياحية (نيفاشا ) والذي حملت الإتفاقية إسمه فيما حملت من أسماء فيما بعد ، هذه الإتفاقية التي إستطاعت أنْ تُوقف حمامات الدماء التي إستمرَّ إنهمارها بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لأكثر من عشرين عاماً ، وإستحقت وبغاية من الجدارة أنْ تحمل في طيات أحاديث مؤرخي أحداث العُنف السياسية في العالم لقب ( أطول حالة حرب في القارة الإفريقية ) وربما في العالم ، إذ خلفت هذه الحروب حسب تقديرات المقدرين ، أكثر من خمسة ملايين قتيل وضعفهم ضحايا الجروح والإعاقات واللُجؤ الى البلدان المجاورة أو النُّزوح شمالاً ، وبالفعل فإنَّ أكثر أصحاب الميول التشاؤمية لايستطيعوا إلا الإقرار بأنَّه لو كان لهذه الإتفاقية من إيجابية واحدة فهو مقدرتها على إيقاف حمامات الدماء المنهمرة طيلة هذه العقود المتطاولة من تاريخ السودان الحديث . هذه الإتفاقية هي التي أحالت الطرفين المتشاكسين حرباً وسياسة الى شركاء في إدارة حكم البلاد ، وأكثر من ذلك فإن الإتفاقية منحت الحركة الشعبية ( الحركة العنيدة والشرسة ) كل الإستقلال والإنفراد في حكم الجنوب ، ونصيباً للشراكة في الشمال أوَّلهُ منصب الرجل الثاني في الدولة ( نائب أوَّل رئيس الجمهورية) ، والعديد من المناصب الدُّستوريَّة والتشريعية الأخرى ، وبالتالي فإنَّ الحركة صارت نِدَّاً عتيداً لهُ القدرة على كبح جماح وإنفراد الحزب الأوْحد الحاكم منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي ، وبدورها إختلفت الحركة الشعبية عن المنافسين التقليديين للحزب الحاكم من أحزابِ الشمال ( الشيوعي ، الشعبي ، الأمة ، الإتحادي ....إلخ ) ، والتي لم تتهيأ لها فرصة هذه القوة في النديَّة لأسباب تتعلَّقُ بعدم إنتهاجها سياسة النفس الطويل في الحرب كما في حالة الحركة ، أو ربما بسياسة اليد الغليظة والعنيفة المحكمة عليهم في الشمال من قبل حزب المؤتمر الوطني الحاكم والمُعْدم الخصوم النفس ، أو ربما لأسباب أخرى غير التي ذُكرت . لكنْ وبالتتبُّعِ لمسيرة الشراكة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية فإن تيرموميتر المناورات المستمرة في إرتفاع دائم طيلة سنوات الشراكة ومنذ ألفين وخمسة وحتى الراهن ، وصارت التكتيكات والتكتيكات المضادة والبولوتيكا الحادة والمد والجزر العنيفان هما الوصف الغالب ، وبدأت هذه البولوتيكا منذ التلويح بالإنسحاب والإنسحاب الفعلي الذي قامت به الحركة الشعبية جَرَّاء إصرار الشريك المُمْسك والمُهيمن على الكُل ( المؤتمر الوطني ) على أيلولة حقيبة وزارة النفط ضمن الوزارت التي تبعت له فيما بعد ، وأعقب هذا الإنسحاب إنسحاب ثانٍ وتهديد بالثالث والرابع ، ومروراً بإشتعال حرب التصريحات الناريَّة والإلغائية بين الجانبين والتي وصلت في العديد من المرَّات حد التشفِّي من الخصم وإقتناص الفرصة للإجهاز على الخصم ، وأسلوب المهاترات وأركان النقاش الطلابية ، ووصل كذلك الأمر حد التلويح بإعلان الإنفصال من داخل البرلمان في خطوة تصعيدية من قبل الحركة الشعبية ، ووصل مداه حد تحريك المظاهرات السلمية التي أتت نتائجها في تمرير وإجازة ثلاثة قوانين دفعة واحدة في سابقة غير معروفة بها ليس في تاريخ الشراكة ، بل في تاريخ إجازة القوانين في البرلمان على الإطلاق . وفي تطوُّرٍ متسارعٍ هذه الأيام فقد أصدرتْ الخارجية الأمريكية والخارجية البريطانية نهاية الإسبوع الماضي تقريراً مُشتركاً بمناسبة الذكرى الخامسة على توقيع إتفاقية السلام الشامل في السودان ، تعهَّد فيه الطرفان على تقديم المساعدات للأطراف السودانية ( لإخراج البلاد من أزماتها قبل سنة على موعد الإستفتاء على تقرير مصير الجنوب ، وقبل شهور قليلة من الإنتخابات ) ، والبيان فيه دعوة من الطرفين الموقعين عليه ، ( الخارجية الأمريكية والبريطانية ) لتعزيز الجهود لتطبيق بقية الإجراءات لإبقاء إتفاق السلام ( على السكة ) . وعلى ذات الإتجاه فقد رجَّحت مجموعة من المنظمات الطوعية العاملة بجنوب السودان إمكانية عودة دورة الحرب مرة أخرى في السودان بالنظر الى المجاعات والأوضاع الأمنية والإشتباكات المتقدة كل آن وآخر بين القبائل راح ضحيتها حسب آخر التقديرات أكثر من أفين وخمسمائة قتيل وشردت أكثر من ثلاثة آلاف آخرين ، والتي كان آخرها الإسبوع الماضي بولاية الوحدة بين قبيلتي الدينكا والنوير ذواتي الثقل القبلي العريض ، هذا الترجيح من المنظمات الطوعية حدا بالخارجية السودانية اليوم الثاني من الترجيح أن ترد بقوة على ما أسمته ( الخلاصة الخاطئة ) ، وردت بأن العودة الى الحرب غير ممكنة وهي خيار غير مطروح لمعالجة الوضع بين الشمال والجنوب مهما كانت التحديات والصعاب التي تواجه البلاد . وكان آخر هذه الأزمات هو قانون الإستفتاء لمنطقة أبيي أو كما يسميها البعض ب ( كشمير السودانية ) نسبة للشبه بينها وبين الإقليم المتحارب عليه بين الهند وباكستان ، هذا القانون الذي أجيز وصُدِّق عليه في البرلمان الإسبوع قبل الماضي ، مما أفرز ضجة واسعة بين نواب الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني إنتهى بتمرير القانون الذي ذكر صراحة ( دينكا نقوك ) ولم يَذْكُر ( المسيرية ) بالحق في الإستفتاء في أبيي ، تلك الخطوة التي عدها نواب المسيرية في البرلمان إساءة صريحة وواضحة من قبل القانون ، ولوحوا صراحة بالعودة الى مربع الحرب لأن كل الإحتمالات مفتوحة في رد فعل المسيرية الذين أخذتْ حقوقهم وسلبتْ أراضيهم . ومن جانب مختلف فإنَّ حالة الشراكة هذه أفرزت العديد من ما يكمن أن يسمى ب ( الصقور ) من الجانبين الذين ساهموا بقدر واسع في رفع درجة سخونة وتوتير الشراكة ، وهذه الحالة تتبدَّى في نماذج ( نافع علي نافع ، كمال عبيد ، مندور المهدي ) من جانب المؤتمر الوطني ، و( ياسر عرمان ، باقان أموم ، دينق ألور ولوكا بيونق ) من جانب الحركة الشعبية ، وتبدو هذه الحالة للمراقبين في متابعة التصريحات والتصريحات المضادة بين الجانبين التي تبلغ حد التعسف في إستخدام الحق والكلام المجاني والمهاتر في أوقات عديدة ، أما فيما يخص التكتيكات المستخدمة من قبل الفريقين في التعامل مع الأحزاب السياسية السودانية فقد إستخدمت الحركة الشعبية لتحرير السودان أسلوب التحالفات غير المستمرة مع الأحزاب ببرغماتية عالية ، والتي تنتهي بإنتهاء شوط المصلحة كما فعلت مؤخراً مع تحالف قوى جوبا الذين إستخدمتهم حتى أوصلوها مرحلة الضغط على المؤتمر الوطني لتمرير القوانين التي يماطل في إجازتها – حسب رأي أحد قيادي الحركة الشعبية – لكن في المقابل فقد داوى المؤتمر الوطني الأحزاب بنفس دواء الحركة وإن ببعض الإختلاف ، وبالرجوع الى علاقات المؤتمر الوطني وأحزاب الأمة والإتحادي الديموقراطي التي يستنفر العلاقات معها وقت الأزمات فقط ، وهذه الحالة تظهر في حالة التظاهرات السلمية المستمرة التي أقرتها أحزاب تحالف جوبا ، فلم يكن من المؤتمر الوطني إلا إستنفار هذه العلاقات بالجلوس مع السيد الصادق المهدي ، ومولانا محمد عثمان الميرغني الليلة التي سبقت التظاهرة السلمية . الشراكة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية عدَّها الكثير من المقربين والمهتمين بأنها زواج البغض أو سُكنة الإجْبَار وبالتالي أحال إمكانية التحاور بينهما والذي من المفروض فيه أن يكون في مصلحة الوطن وتنميته وإعماره والعبور به من مرحلة النفق المظلم ، صار التحاور حوار الطُرشان الذي لايسمع أحدهما الآخر ولا يلقي له بالاً ، وللوطن الحريق الذي إمتد أمده في دارفور والجنوب ونُذرٌ بإندلاع جديد في أطراف أُخر . mussa easa [[email protected]]