وهكذا، فجأة كما تتداعى الأشياء رحلت فاطمة.كان اسمها موحيا، وكذا قامتها النحيلة - خلقا- والمليئة -اكتسابا-. من أقصى بلاد شرق السودان -القديم- جاءت، ورفيقات لها، معزوفات موسيقية يتهادين مشيا وينز منهن اللحن يروي وقع خطو أجسادهن السامقات بإتكاءات وإنحناءآت، لا من قبل ولا من بعد، ويطلقن مع وقع الخطى المعطون في رحيق النقاء كل ما هو غير قابل للنسيان، أو التلف. أهداب أعينهن الطويلات شديدات السواد تحتضن المرايا التعكس في صدر المدى صباحات شديدة الإخضرار كثيرة الثمر وعميقة الإنتماء لعالم تفردن في صياغته لمقبل أيامهن الطاهرات. ولم نكن نحن ببعيدين عن ذاك التفرد. كانت تنسج، وصويحباتها ونحن أصحابها عالما من غزل الروح، عالما قزحي الألوان، لا يطغى فيه لون على آخر. عالما شديد التماسك، صبيا، عفيفا، فارها، منجزا، ومفعما بكل ما لنا وكل ما لهم – ولم نكن ندري وقتها من هؤلاء "الهم" ولم نكن ندري "ما لهم"". أذكر الآن لحظة أن إستوقفتني ذات ليلة مليئة بفرح دلقه في قلوبنا صوت محمد وردي لتسأل في براءة غزالة شاردة من ضبع " صحي نحن مجانين؟". لم يدهشني السؤال. أدهشتني جرأة تلك "البنت" التي تسأل غريبا عن جنونها.أجبتها " وما الجنون أيتها الطريدة؟" وكان سؤالا سخيفا. قالت " أن نعيش كما نحن". قلت " ومن هم "النحن" هؤلاء؟ و ما زلت حتى بعد رحيلها في إنتظار إجابة على سؤالي السخيف ذاك. تعرفت عليها، مثل زملاء كثيرين. تعرفت على بنات شلتها - بنات كسلا الثانوية- وكانت المفاجاءة التي ذهبت بي أيما مذهب أن كان في تلك "الشلة" إبنة عمي "لزم" نوال جعفر الباقر". تلك المعرفة لم تزعجني، بقدرما أزعجني سؤال فاطمة". لقد عرفت إسمها، إذ نطقت به هكذا، في منتهى العفوية!! وكان السؤال الجنون مثلها سبب تعارفنا. من محطة فاطمة إلى محطات فاطمات كثر ومحاضرات وندوات ومشاكسات ومسرح جامعي ومهرجانات جمعية الثقافة الوطنية والفكر التقدمي وسلمى بابكر وفاطمة بابكر وعلي عبد القيوم والنصيري وشوقي عز الدين وهشام الفيل ومبارك بشير ومحمود تميم وماجدة تميمي وأسماء الوكيل وسهام عتيق وعواطف داؤؤد وعلوية حسن آدم وأزهرية حسن مكي ومحمد تاج السر ومروان الرشيد وعشاري وبلدو... والعز...العز..العز.... فضل الله وفاطمة السنوسي.. والعجكو... وسارة تمساح وهن وهم ونحن..إلى رصيف المغادرة. تلك رحلة ليس فيها ما يمكن أن يندم المرء عليه، أو يخجل منه أيتها الفاطمة، أيها الرفاق والرفيقات. لن أحكي عن حياة فاطمة بعد مغادرة الجامعة -أم العيال والبنات- فتلك إلياذة مفتوحة وشديدة الخصوصية في آن. لن أحكي عن مكابدات فاطمة. لن أحكي عن إنجازات فاطمة. لن أحكي عن إنسانية فاطمة، أو تماسكها التاكاوي. أيها الفارس صلاح عبد الكريم، يا حبيبها و يا حبيببنا الذي سرقته منا المكابدات و(إبتلاءات هذا الزمن العجيف)، ماذا أقول فيك، ماذا أقول عنك، وعن البنيتين الزهرتين؟ ماذا أقول عن حبيبتك التشخص الآن نحو شفتيك تنتظر إجابة عرفتها منذ سنين، وهل في شفتيك الذابلتين(الآن) سوى إبتساة صفراء، لا تشابه تلك الخضراء التي لا تزال تنداح في وجه الكسلاوية فاطمة؟ أيها اللون الأسود هيا إستوطن دواخلنا، علنا ننهض بكل ألوان قوس قزح كي نفقأ عينك السوداء سواد قلوبنا الحزينة المشرئبة لفجر جديد نزفه لحبيبتنا ورفيقتنا وشقيقتنا الطاهرة من كل سؤ والكانت مسماة فاطمة الحسن. أيتها الفاطمة، ها هي الثورة التي عملت لها تشتعل. وها هو الوطن الذي كنت تحلمين به يتشكل. نحن قادمون وحدنا دون "الهم" الذين كنت تبغضين. نحن قادمون أيتها الفاطمة المجيدة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.