في إحدى الصحف قرأت عمودا لأحد الصحفيين مضمونه عكس لي اتهامات متبادلة بينه وبين شخص آخر ، الشخص الآخر اتهمه بأنه غير حاصل على درجة الدكتوراه وانه يفترب ذلك، فكتب هذا ردا طويلا في عموده يؤكد أن الحسد والحقد قد انتشر في البلاد حتى يتم القاء الاتهامات جزافا .. كان الرد إلى هنا لا يحمل شيئا..لكنه قال جملة استوقفتني ؛ قال بأنه وتأكيدا لأنه حاصل على درجة الدكتوراه سيتحدى خصمه في مناظرة باللغة الانجليزية ، وانتهى المقال بهذا الرد الذي لخصته. في الواقع أثبت هذا الرد بما لا يدع مجالا للشك ان هذا الشخص لا علاقة له بالدكتوراه لا من قريب ولا من بعيد ، وهذا ليس ذكاءا مني ، فأي باحث علمي في الماجستير أو الدكتوراه سيكتشف ذلك بسهولة من خلال هذا الرد . فالصحفي قد خلط أشياء بأشياء .. وكان يجهل أشياء جوهرية يتوقف عليها منح هذه الدرجة العلمية الرفيعة ، فبثلاث او اربع اسئلة يمكنك ان تكتشف اذا ما كان الشخص الذي أمامك يحمل درجة الدكتوراه ام لا .... لا أكثر ولا أقل.. لقد خلط السيد الصحفي بين اللغة الانجليزية وبين الدكتوراه ، وفي الواقع فمعرفة اللغة الانجليزية لا تعني بالضرورة ان الشخص حاصل على الدكتوراه.. كان قرب عملي السابق شخص متسول وكان يتقن اللغة الانجليزية . في الواقع لم يكن يتسول الا بالانجليزية ، وربما كانت معرفته باللغة الانجليزية سببا في ردم شعوره بالنقص وتقليل مأساته إذ تمنحه شعورا بقيمة ما حتى ولو كانت متوهمة.. أيضا فاثبات حصول الشخص على الدكتوراه لا يتم بالمناظرات.. فالمناظرات ليست دليلا على الحصول على درجة الدكتوراه ، فالسياسيون يتناظرون في الانتخابات ..وعبر هذه المناظرات السياسية يعرف الشعب المرشح الأفضل لانتخابه ، ولكن ما علاقة المناظرة بدرجة الدكتوراه؟؟؟ لا علاقة . في التلفزيون ، انتقلت الكاميرا إلى الصين وتجولت بين الجالية السودانية في الصين ، كنت ووالدي نشاهد اللقاءات الشيقة مع السودانيين في الصين ، ومن ضمن هذه اللقاءات الشيقة ، لقاء تم مع رجل اربعيني ، كثير التجشوء ، ويتنطع في كلامه تنطعا لا يتنطعه اينشتاين ، سألته المذيعة عن سبب وجوده في الصين فأجاب : أنا اقوم بعمل بحث دكتوراه عنوانه العلاقات الصينية السودانية السياسية والاقتصادية والاجتماعية عبر التاريخ وأثرها على تطور مستقبل هذه العلاقة بين البلدين.. هنا ضحكنا انا ووالدي بصوت واحد ، بالتأكيد أي شخص لا علاقة له بالدكتوراه وضوابط منهج البحث العلمي سيصدق هراء ذلك الرجل ، فببساطة هناك ضوابط لأي عنوان يتخيره الطالب لبحث الدكتوراه.. فالعناوين ليست مطلقة أمام رغبة الباحث على عواهنها ، بل هناك شروط يجب أن تتوفر فيها ، كالإجمال والتحديد الدقيق ، فهذا الشخص حينما اجترح هذا العنوان المثير من أم خياله غير الخصب وقع في خطأ منهجي وهو أنه لا يمكن أن تدرس موضوعا لا حدود له بهذا الشكل ، إن عملية اختيار العنوان قد تستغرق من الباحث شهورا حتى تقبل بها الآدارة المختصة في المؤسسة التعليمية التي ينتمي اليها الباحث ، ناهيك عن أن قبول المشرف لخطة البحث هو أيضا قد يستغرق شهورا من الشطب والتعديل والإضافة. إن معرفة شخص يحمل درجة الدكتوراه ام لا عملية أسهل من ذلك بكثير فهي لا تحتاج لكل هذه التحديات ، لا تحتاج لمناظرة أبدا ، إنها بسهولة ثلاث أو اربع اسئلة تحدد مدى حقيقتها . فالسؤال الأول الذي يطرح هو ببساطة من اي مؤسسة علمية حصلت على هذه الدكتوراه. والسؤال الثاني ، ماهو عنوان البحث ، والسؤال الثالث ، من كان مشرفا على البحث ، والسوال الرابع ما منهج البحث الذي اتبعته .. هذه الاسئلة الأربعة فقط ينتهي بها النقاش ويمكن أن نضيف اليها تاريخ المناقشة ، إذن ، فذلك الصحفي لم يكن في حاجة سوى للإجابة على هذه الأسئلة الأربعة بدلا عن مقال طويل مليء بالتحديات والخرافات والتهويمات. للأسف باتت عملية ادعاء الحصول على الدكتوراه في السودان منتشرة انتشار النار في الهشيم ، وخاصة لدى السياسيين ورجال الشأن العام . بل أن كلمة بروفيسور صارت تطلق على كل من هب ودب ، ورغم كل هذا الكم الكبير من حملة الدكتوراه حقيقة أو توهما ، ورغم هذا الكم الكبير من البروفيسورات حقيقة أو توهما ، فإن الانتاج العلمي ضعيف جدا جدا بالمقارنة بعدد حملة الدكتوراه ، المكتبات العلمية تكاد تكون خالية ، كثير من طلبة الطب كانوا يطلبون مني ان أرسل لهم كتبا معينة من مصر ، فالكتاب العلمي يمر بمرحلة مأساوية في هذا البلد ، ناهيك عن ضعف الأبحاث العلمية ، وتهافتها، وفي كثير من الأحيان عدم اتباعها لقواعد منهج البحث ورغم ذلك قبولها من المشرفين. طبعا المناخ البحثي العلمي مناخ سيء جدا في السودان ، وهناك توهان كبير من الدولة في هذا الشأن ، فهناك وزارة خاصة بالبحث العلمي ، ولكن في الواقع أنا لا ءعرف ما هو عمل هذه الوزارة ، إذا كان عدد المجلات العلمية المحكمة في فروع العلوم المختلفة بهذه القلة والضعف ، إن أغلب الاجتهادات هي اجتهادات فردية جدا ، ويصرف عليها الباحث من جيبه الخاص ، فدعم البحث العلمي لا يتم بانشاء الوزارات بل بتوفير المناخ البحثي الصحي من مكتبات ومعامل واجهزة وخلافه ..وأنا لكي اكون أكثر دقة اتحدث عن علم القانون على وجه التحديد ، فالمكتبات القانونية ضعيفة جدا ، وحركة الترجمة القانونية تكاد تكون منعدمة ، ناهيك عن ارتفاع تكاليف الطباعة ، وضعف دور النشر . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.