تؤكد النظريات العديدة المرتبطة بغرائز الإنسان أن الله سبحانه و تعالى قد فطر الإنسان على الميل الطبعي إلى "التطور" و "الترقي" في مدارج الحياة و ذلك سعياً وراء وضعٍ يشبع طموحاته المتنامية، الهادفة إلى تحقيق حياة إنسانية أفضل قوامها السعادة و الرفاه و كل أسباب الراحة. و تدلل هذه النزعة، وفقاً لمنطق الأشياء، على إختلاف الإنسان عن بقية المخلوقات الكونية الأخرى في أنه يعتبر، مقارنةً ببقية المخلوقات، كائناً "سامٍ" إذا جاز التعبير، ما جعله يتربع في قمة سلم التطور. و من غرائب الأشياء التي يعكسها السلوك الإنساني أن من المستحيل على الإنسان إشباع حاجاته نظراً لتعددها و تباينها و إمتدادها اللانهائي. ذلك أنه كلما حقق هذا الإنسان ما يصبو إليه، كلما تضاعفت رغباته "المتحركة" كماً و كيفاً و إتسع نطاقها بصورة أوسع من ذي قبل. و يبرهن هذا، دون ريب، على أن رضا الإنسان عن واقعه الحياتي يعد نسبياً و ليس مطلقاً. كما يُستشف من تركيبته هذه أنه يسعى دوماً لبلوغ الثريا، و لذا فإنه إذا ما بلغ أي هدف دون ذلك فسوف لن يعمل هذا على تحقيق ذاته. و من الحقائق المعلومة عن تركيبة الإنسان أنه، و خلافاً للملائكة و الشياطين، يتجاذبه "السمو" و "الدنو" فيتراوح، في سلوكه، بين الخير و الشر، ما يجعله، تارةً، سامياً في سلوكه و يجعله، تارةً أخرى، في الحضيض. ذلك أن الملائكة خير محض لا يجد الشر إليه سبيلا و الشياطين شر محض لا يجد الخير إليه سبيلا، أما الإنسان فهو مزيج من الخير و الشر اللذين يتصارعان في دخيلته فيجذبه هذا إلى طرفه، أحياناً، و يجذبه ذاك إلى طرفه، أحياناً أخرى، و يكون، في أحيان غيرها، في مرحلة وسطى بين الإثنين أو نحوها. و هنا يكمن "التعقيد" المتجذر في تركيبة الإنسان. و قد أودع الله الإنسان القدرات و المهارات التي تمكّنه من تحقيق ما يروم ليهيء لنفسه "وضعاً" حياتياً يشبع تطلعاته، و لو نسبياً. و هذا ينسجم مع حقيقة تكريم الله للإنسان، دون سائر المخلوقات، بالعقل الذي يعينه على التدبر في الكون و تطويع البيئة من حوله و كذا تسخير كل الموجودات بغية تطوير حياته و الإرتقاء بها على النحو الذي يحقق له ما يسعى إليه من سعادة. و بالقطع فإن لهذا الأمر تبعات تتمثل في خلافة الإنسان في الأرض من خلال سعيه فيها و عمارتها، مما يقضي بتحمله لمسؤولية عظيمة يوم القيامة، حيث يُسأل عن كل ما فعل في دنياه. قال تعالى في سورة البقرة، الآية (30) "و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ... إلى آخر الآية ". لذا جاءت الأديان و الشرائع السماوية دالةً الإنسان على الأمانة التي حُمّل لها و مبينةً للبشرية كل ما يتعين عليها إتباعه في الحياة الدنيا. قال تعالى "إنّا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً"،الأحزاب، الآية(72) . و هذه المسؤولية تعتبر أمراً لا مناص منه، يدلل على أن الله لم يهب الإنسان هذا العقل إعتباطاً و إنما ثمة حكم ودواعٍ وراء ذلك. و إستناداً إلى ما سلف، فإن المتأمل في واقع الحياة البشرية يلحظ أنها تموج بالحراك الإنساني الهادف إلى تحقيق كل ما تتوق إليه النفس من أسباب العيش السعيد و الهناء، كما يسترعي إنتباهه أن ثمة تبايناً كبيراً فيما حققه و يحققه البشر من مستوى تطور في حياتهم و ذلك وفقاً لقدراتهم و علمهم و جهودهم. و يعد هذا التباين، دون شك، أمراً طبيعياً يعكس"التعدد" و "التنوع" اللذين يسمان الحياة البشرية. و تأسيساً على تلك المقدمة الضرورية التي تلقي الضوء على نوازع الإنسان و تركيبته و توقه المستديم إلى تطوير حياته، فإننا، إذا حاولنا إلقاء نظرة فاحصة و متأملة في العالم الغربي "أوروبا و أمريكا" كمثال ساطع للتطور المادي الذي صنعته مجموعة بشرية معينة، نجد أن هذا العالم، و حسبما تشير الحقائق التاريخية ذات الصلة بالتطور الإنساني، قد إنتقل، مثله مثل سائر الشعوب، من طور التخلف، إلى طور التطور المتدرج و الذي تجاوز مرحلة الحياة البدائية إلى مراحل أخرى أكثر تطوراً، منها الثورة الصناعية التي تعتبر،وفقاً لظروفها التاريخية، فتحاً جديداً نقل البشرية نقلة كبيرة حلت فيها "الآلة" محل الإنسان فحققت الطفرة و الوفرة في العديد من المجالات. كما حققت "الثورة الصناعية" تطوراً واسعاً في حياة الإنسان من خلال العديد من الصناعات و المنتجات التي أسست لمرحلة جديدة من "الإرتقاء" في الكثير من أساليب الحياة. و رغم إشتراك دول أخرى مع العالم الغربي في السير في درب التطور إلا أن الغرب إستطاع قطع أشواط حضارية أوسع بكثير من أغلب دول العالم الأخرى. ليس هذا فحسب بل تمكن من تحقيق الغلبة في هذا المضمار و ذلك بصورة حاسمة خلقت بوناً حضارياً شاسعاً بين الغرب و بين أغلب دول العالم الأخرى، بإستثناء دول أخرى قليلة مثل اليابان و الصين و بعض أقطار العالم الثاني. و مما لا شك فيه أنه قد تمخصت عن هذا الحراك الإنساني الخلاّق الذي أسسه الغرب كل أسباب الراحة و السعادة لبني البشر، و الذين طووا، عبر هذا الحراك، صفحة تاريخية بدائية ثم إستقبلوا حقبة أخرى أكثر إشراقاً. غير أن أهم سمات "الثورة الصناعية" أنها وضعت اللبنة الأولى لطفرة حضارية حقة تمثلت، لاحقاً، في تفتق العبقرية الغربية عن إرتياد فضاءات حضارية أوسع و أشمل و أكبر بكثير مما تولد عن "الثورة الصناعية". و لذا فقد إنكب العلماء الغربيون على النهل من العلوم و ظلوا يبذلون جهوداً مضنية في البحث و التنقيب في كل ما يمكنهم من بلوغ قمم حضارية أخرى حتى بلغوا شأواً عظيماً في هذا الحقل، يحدّث عنه عصرنا الحاضر الذي تربعت فيه الحضارة الغربية على سنام التطور الإنساني و مكنت الإنسان من إرتياد آفاق حضارية ما كان يحلم بها في يوم من الأيام. و كما تعكس المعطيات الحضارية العصرية فقد تمخضت عن كل هذا الحراك الكبير الذي قام به الغرب نهضة علمية شاملة قادت إلى طفرة حضارية غير مسبوقة تمثلت أهم مفرداتها في تكنولوجيا العصر الحالي التي أحدثت إنقلاباً مهولاً في كل مجالات الحياة. و من المظاهر الساطعة لهذه التكنولوجيا القفزة الواسعة في وسائل المواصلات و الإتصالات و منها القطارات الحديثة السريعة و الطائرات المتنوعة فائقة السرعة و السيارات الحديثة، المتعددة الأنواع، علاوةً على الهواتف المتطورة السلكية منها و اللاسلكية. و من مظاهرها أيضاً الكومبيوتر و الإنترنيت و الذي تمخضت عنه وسائل إتصال و كشف مرئي و مسموع قلبت الأمور رأساً على عقب و ذلك مثل "القوقل أيرث" و غيره. هذا فضلاً عن الأقمار الصناعية التي أدت إلى وضع العالم تحت مجهرها و المركبات الفضائية التي غزت الفضاء حتى أصبحت ميداناً للتنافس بين الدول المتقدمة و الصواريخ عابرة القارات و الطائرات و السفن الحربية متعددة الأغراض و كذا المفاعلات النووية و القنابل المتتوعة مثل القنبلة الهيدروجينية و القنابل الفسفورية و القنابل العنقودية و غيرها. هذا بالإضافة إلى الدروع الواقية التي تستخدمها الدول المتقدمة لحماية نفسها و رقائق السيلكون و الفضاء المفتوح عبر القنوات الفضائية و غيرها و التي أصبحت واقعاً معاشاً، بالرغم من أن الدهشة التي أحدثها لم تزل باقية. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.