شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وزير الصحة: فرق التحصين استطاعت ايصال ادوية لدارفور تكفى لشهرين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفكك الدولة السودانية: لماذا؟ كيف؟ .. بقلم: التجاني الحاج عبدالرحمن/الخرطوم
نشر في سودانيل يوم 27 - 06 - 2017

أصبحت التوقُّعات بتفكك السودان إلى دويلات عديدة، مقولة رائجة ومتداولة بكثافة، بحيث باتت تتصدّر قائمة تنبؤات كثيراً من المهتمين والمتابعين للشأن السوداني، سواء إن كانت دولاً، مراكز تأثير في صناعة القرار الدولي والإقليمي أو غيرها من المؤسسات. وبالتالي أضحت من القضايا ذات الأهمية الإستراتيجية البالغة التي يصعب المرور من فوقها مرور العابرين.
المعروف إن مثل هذه التوقُّعات والمقولات أيّاً كان مصدرها لا تُقال أو تُكتب إعتباطاً أو تصدر كأحكام تقريرية، إنما بعد رصد وتحليل دقيقين، تتمخض عنها إستنتاجات وتنبوءات في غالب الأحوال ما تحدث. ومثل هذه التوقعات والإستنتاجات مبنية بالضرورة على شواهد ومؤشرات موضوعية. وبصرف النظر عن موقفنا الذاتي منها، المنطلق من هذه الزاوية أو تلك، التي ننظر بها إلى هذه المقولة، أو المنظور الذي نفسّر به الدوافع/المصالح التي تقف ورائها، إلا إنها تظل أمراً، أقل ما يجب أن يكون رد فعلنا حيالها، هو أخذها على محمل الجد، لأن تفكك الدول وإنهيارها ليس أمراً عادياً يصحو عليه المرء صبيحة اليوم التالي وكأن شيئاً لم يكن. فضياع الأوطان ليس كضياع شئ يمكننا إستبداله/تعويضه بتلك السهولة، ونمضي بعدها في روتين حياتنا اليومية كالمعتاد، فهو ضياع لأرض وموارد وتاريخ، وتفكك لمجتمعات، وإندثار لثقافة وهوية، ومستقبل مجهول لأمواج من الزاحفين إلى اللجوء في بلدان تعيد تصنيعهم بحيث تنقطع صلتهم بجذورهم وتاريخهم وثقافتهم في مدي زمني قد لا يتعدي الجيل الثاني.
يجدر بنا في هذا الصدد، ونحن نستشرف هذا المستقبل المُحزن، أن نستدعي تجربة إنهيار وتفكك الصومال في عام 1992، والتي كانت بحق، فصلاً درامياً في فنتازيا رواية واقعية جرت أحداثها على مسرح العلاقات والسياسة الدولية في تسعينيات القرن الماضي، والتي مازالت تؤكد وبإلحاح علي الأهمية البالغة التي يجب أن توليها النخب الحاكمة في الكثير من البلدان النامية (أو بلدان الجنوب) لعمليات البناء الوطني Nation Building ودولة المواطنة التي تسع الجميع بلا إستثناء. وأن تُدرك أيضاً، وفي ذات الوقت، فداحة الثمن المدفوع عندما تفرّط النخب في شعوبها وأوطانها من أجل السلطة أو المال أو القبيلة وغيرها. وليت النخب المثقفة في بلادنا تعير هذه التجربة ما تستحقه من إهتمام جدي إستلهاماً للدروس والعبر.
وقد ظلت الحقيقة الساطعة الباقية، وستبقي لأجيال كثيرة قادمة في ذاكرة الصوماليين، هي إن حصاد تجربتهم بكل زخمها التاريخي، تلك التركة الثقيلة والأليمة التي خلّفها الدكتاتور سياد بري ل "شعبه الكريم"، حيث جعل أمة بكاملها تتفرق أيدي سبأ، ومات هو لاجئاً ذليلاً في المنفي حيث دُفن جثمانه، ومن بعده، لجأت الأمة الصومالية بكاملها إلى أقاصي الدنيا !!!. وللمفارقة، أنه وعلي عكس تجربة جارته إثيوبيا، فعندما حاصر ثوار الجبهة الشعبية لتحرير تقراي TPLF وحلفائها العاصمة أديس أبابا في بدايات تسعينيات القرن الماضي، ماكان من الطاغية منقستو هايلي ماريام إلا أن استقل طائرته فاراً بجلده إلى زيمبابوي، وقال حينها مقولته الشهيرة وهو يغادر مطار أديس أبابا (الزهرة الجميلة) طريداً: "لقد بنينا أديس أبابا، فدعونا لا ندمّرها"، وكان بمقدروه أن يفعل بأثيوبيا أسواء مما فعله سياد بري بالصومال!!!.
إن حكمة التاريخ تقتضي ونحن نستقصي أحوال ما تبقي من بلادنا الآيلة للسقوط هو ألا ننظر إلى الأمر على أنه قدر ماورائي نُعاقب عليه نتيجة لسوء أعمالنا، (على غرار الكثير من "التخريجات" التي نسمعها اليوم من "فقهاء السلطان" تبريراً للطغيان و الفساد)، فهذه "جبرية" غير محتملة لا زماناً أو مكاناً. أو أن نضع مشكلتنا في دولاب "نظرية المؤامرة" الذي يحتوي على الكثير من شماعات التفاسير المريحة من شاكلة: "الإمبريالية الغربية" و "الصهيونية العالمية، و"اللوبي الصهيوني" و"الدولة العبرية" و"الماسونية" و "الإسهتداف الغربي للإسلام والعروبة" و "الشيوعية" المقبورة، وغيرها من الإكليشيهات التي تشابه في المعني والبنية الأسطورية التي تشكّلها في العقل، صوراً لمفردات مثل (الغول) و(العنقاء) و(العفاريت) و (ود أمبعلو) الذائع الصيت في الأساطير الشعبية السودانية، والتي أصبحت جميعها "دوال" عديمة الجدوى وفارغة القيمة والمحتوى، في عالم تزداد معارفه وتتغير معادلات علاقاته كل يوم. بل الأسلم هو أن نتناول هذه المسألة إنطلاقاً من الداخل، أي من خلال نقد أمين لتجربتنا "الوطنية" منذ الإستقلال وإلى اليوم في المقام الأول، وإختبار إرادتنا نحن كسودانيين من جديد، بالنظر إلى الدور الحقيقي والواقعي الذي لعبناه وما زلنا نلعبه في هذا التفكك المتوقع، وليحدد كل منّا موقع مسئوليته التاريخية من إمكانية حدوثه، وماذا يمكننا فعله لتفاديه، هكذا علمتنا التجربة الإنسانية ومازالت تعلمنا. إن ذلك في تقديري، يمثل العامل المركزي الحاسم في خيارات إما أن تنهار وتتفكك الدولة، أو أن تستعيد قدرتها على الإستمرارية والحياة، لتمضي قدماً في طريق التقدم أسوة ببقية دول وشعوب العالم.
نقول ذلك معلقين أمالاً عراضاً في أن هناك مازال متسعاً من الوقت في أن تتعلم "نخب الأزمة" من الكثير من تجاربنا والتجارب الإنسانية التي برهنت ومازالت على أن الشعوب ومتي ما أرادت الحياة الأفضل، فلا شئ سيقف في طريقها لتحقيق ذلك، وغني عن القول أن جميعنا يحفظ عن ظهر قلب، لا وبل نتناقله جيلاً بعد جيل ذلك النص الشعري القائل:
إذا ما الشعب يوماً أراد الحياة،
فلابد أن يستجيب القدر،
ولابد لليل أن ينجلي
ولابد للقيد أن ينكسر
واليوم؛ وبعد كل الذي نشهده من تحوّلات كارثية عميقة مستمرة في نسيج وروابط مجتمعاتنا وبنية وهيكل الدولة على مدي يزيد على الربع قرن من الزمان على أقل تقدير ما زلت أتساءل هل كنا ندرك المعاني العميقة لمقولة "حياة الشعوب" وإرادتها التي تقهر حتى القدر نفسه؟؟!! في النص الشعري السابق، أم أنها كانت مجرد تراكيب بلاغية ذات جرس شعري طنان، ظلت ألهبت ظهر مشاعرنا الوطنية بسياط نزعة "قومية" زائفة، حملتنا على أجنحة السراب إلى أحلام دولة/وطن أكثر زيفاً، خاصة نحن (شهود يهوه) العصر من أجيال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، الذين قال فيهم القدر كلمته بأن قذف بهم إما إلى المنافي القسرية أو الموت كمداً أو الحياة المهينة بأشكالها المختلفة داخل السودان.
هذه المقدمة كانت ضرورية لكي نسلّط بصيص من الضوء على إشكاليتنا الكبري التي تواجهنا كسودانيين في المستقبل والتي قد يكون حدوثها أقرب مما نتصور!! وضعنا عنوان هذا المقال (تفكك الدولة السودانية: لماذا؟، وكيف؟، ولمصلحة من؟. بهذه الصورة الصادمة عن قصد، مستهدفين من ذلك طرح مناقشة موضوعية صارمة حول:
1. فرضية تفكك الدولة السودانية، ماهي فرص حدوثها، وبالتالي البحث عن الأسباب التاريخية والسياسية وغيرها التي تقف وراء هذا التفكك، بمعني؛ محاولة الإجابة على سؤال لماذا؟
2. الكيفية التي من المحتمل أن يتم بها،
3. وأخيراً محاولة إقتراح تصورات لمواجهة هذا الإحتمال الكارثي.
1. التفكك والإنهيار لماذا؟ جينالوجياالإسباب:
تجمع كافة المصادر التاريخية على أن "السودان الحديث" بحدوده الجغرافية المتعارف عليها منذ فجر إستقلاله في 1956 وحتى عشية انفصال جنوبه في 2011، قد بدأت في التشكّل مع نهايات 1820 وبدايات 1821، وهو التاريخ المرتبط ببداية الغزو والإحتلال (التركي المصري) للسودان. والذي تكوّنت فيه أول دولة مركزية حديثة تحت إدارة الإستعمار (التركي المصري). والشاهد أن هذا التحُوّل الجيوسياسي وعلى أهميته لم يضيف إلى بلاد السودان جديداً في التنوّع الموجود أصلاً لشعوبه منذ تاريخها القديم المنحدر من الممالك المختلفة التي حكمت أراضيه الشاسعة، لكن كان المعلم الأبرز والأهم، أنه أفضى إلى خلق دولة مركزية تتحكم فيها أشكال حكم جديدة مصطنعة. فقد جلب الأتراك معهم حضارة وثقافات من الامبراطورية العثمانية والعالم العربي في القرن التاسع عشر، بينما أدخل البريطانيون لاحقاً إمبريالية وتعاليم وديانة وتكنولوجيا الغرب في ذات القرن. وقد ترك كل طرف من أؤلئك الغزاة وراءه، وكلٍ على طريقته الخاصة، طبقات إضافية من المؤسسات الغربية فوق عناصر أصلية عميقة الجذور في نسيج الماضي السوداني. وقبيل نهاية القرن التاسع عشر شنّ السودانيون الجهاد تحت لواء المهدية، في صورة شبه قومية، وقد كانت ثورتهم من القوة بحيث تمكّنت من دحر الإمبراطورية المصرية (الإحتلال التركي المصري) وتأسيس دولة مهدية قوية كبديل لها .
صحيح إن القائد الإنجليزي (كتشنر) لاحقاً، سحق الدولة المهدية في واقعة أمدرمان (المعروفة في التراث التاريخي السوداني بمعركة كرري، أو معركة النهر كما سمّاها ونستون تشرشل في كتاب حمل نفس الإسم) وصحيح أيضاً أن حكم الإستعمار الجديد (الإنجليزي المصري) قد بدأ من حيث إنتهي الإحتلال(التركي المصري الذي سبقه، إلا أن الشعور الوطني والتنظيم القومي الذي إكتسبه السودانيون كنتيجة مضادة للموجة الأولي من موجات الإستعمار الحديث (التركي المصري) ساعد على الإسراع بتحريرهم في الموجة الثانية (الإنجليزي المصري)، أو ماعُرف بالحكم الثنائي (1889 1956). وقد تم حدث الإستقلال على خلفية الجهود التي قامت على أكتاف ماعُرف ب"الحركة الوطنية"، التي ورثت نخبها الدولة بعد خروج الإستعمار الثنائي (الإنجليزي المصري).
وبشكل عام، فقد درج الفكر السياسي المعاصر على تعريف بنية الحكم والسياسة الناشئة من بعد أي حقبة إستعمارية ب (دولة مابعد الحقبة الكولونيالية) Post-Colonial State والتي تأتي في بعض التوصيفات والكتابات كمترادفة لمصطلح "الدولة الوطنية". عموماً، يستمد تعريف الفكر السياسي المعاصر المشار إليه، دقته في التوصيف من صحة مظهر تولي النخب الوطنية لإدارة الدولة مع بقاء الهياكل والمؤسسات، والعلاقات السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي خلّفها المستعمر كما هي، دون مساس، أو أدني تغيير. وهي مظاهر يصعب معها توصيف البنية الناشئة ب "الدولة الوطنية". ذلك، لأن هنالك فروقات عميقة بين مفهوم دولة (مابعد الحقبة الكولونيالية/الإستعمارية) ومفهوم (الدولة الوطنية)؟! لا وبل يعتبر المفهوم الأول في كثير من الأحايين كما ذكرنا أكثر دقةً في توصيف أوضاع الدول التي إستقلت عن الإستعمار من حيث هو إحتلال وإدارة مباشرة، لأن الحلقة المركزية في توضيفها بذلك هي إستمرارية إرتباطها وتبعيتها لمراكز الإستعمار في شكله الحديث إقتصادياً وسياسياً. ويمكن ملاحظة ذلك في نماذج من أفريقيا، أمريكا اللاتينية وآسيا.
عموماً يشير تعريف Post-Colonial State أو دولة ما بعد الحقبة الكولونيالية إلى توصيفات ودلالات يمكن تتبع مظاهرها من خلال السياسات التي سارت عليها النخب الوطنية في هذه البلدان والتي لم تختلف من السياسات التي إنتهجها الإستعمار قبلها، أنماط الحكم وأشكال التطور الإقتصادي، طبيعة العلاقات الإجتماعية والتراتبيات التي تخلّقت في المجتمع من بعد خروج الإدارات الإستعمارية. هذه السياسات والمؤسسات والعلاقات ظلت في مجملها، وعند دراستها بعناية، تعطي مؤشرات ومظاهر مادية ومعنوية تدلل علي إستمرارية الإستعمار بصورة من الصور عبر هذه النخب الوطنية الحاكمة. أما الدولة الوطنية في التصوّر العام، هي تلك الدولة التي تخلق"قطيعة" كاملة مع الماضي والإرث الإستعماري، وهذه القطيعة تشمل العلاقات بأشكالها المختلفة، والبنيات والسياسات وإنماط التطور الإقتصادي والإجتماعي التي خلفها الإستعمار، لتحل محلها علاقات، وبنيات وأنماط تطور إقتصادي وإجتماعي مستمدة من تراث وتاريخ هذه البلدان وربطها بالتطور والتحديث الذي تم في مفهوم الدولة وأساليب الحكم والإدارة. أي أنها يجب أن تمضي في عمليات بناء وطني Nation Building يلبي حاجات هذه البلدان وشعوبها أكثر مما يلبي متطلبات الإستعمار الحديث.
في تقديرنا إن السودان لا يُعتبر حالة إستثنائية، بل يُمثل حالة نموذجية لدولة ما بعد الحقبة الكولونيالية Post-Colonial State في أفريقيا. فعندما خرج الإستعمار الثنائي الإنجليزي المصري ترك هياكل لمؤسسات دولة من خدمة مدنية ومؤسسة عسكرية وغيرها،حزمة سياسيات إقتصادية، بنية علاقات إجتماعية ونخب إجتماعية سلّمها مقاليد الحكم من بعده. وفي ذلك يشير كولينز إلى أنه: "قد حدث من بعد نهاية الدولة المهدية مباشرة أن أُسندت إدارة السودان لضباط بريطانيين من الجيش المصري، لكن "اللورد كرومر" بدأ في عام 1905بناء إدارة سياسية سودانية مدنية (SPS) Sudan Political Service من خريجي الجامعات من ذوي الكفاءة من البريطانيين، وكان معظمهم من خريجي أكسفورد وكمبريدج (..) وعلي سبيل الرقابة على المصالح الإدارية في السودان كان "ونجت" قد أنشاء ثلاثة وظائف جديدة شغلها بريطانيون، (سكرتير قانوني)، (سكرتير مالي) و(سكرتير مدني)، وكانت الوظيفة الأخيرة هي الأقوي، حيث عمل شاغلها كرئيس لهيئة موظفي الحاكم العام، وتصله التقارير من كل المديرين البريطانيين في المديريات، بينما قام الأخيرون بالإشراف على المفتشين البريطانيين الذين أُطلق عليهم بعد العام 1922مفوضوا مراكز (DCs) Districts Commissioners ويساعدهم عادة مأمورون مصريون، حلّ محلهم سودانيون بشكل تدريجي منذ العام 1915. كم تم تشجيع التعليم بإفتتاح كلية غردون التذكارية عام 1902 لتعليم أبناء النخبة (وكانوا في الغالب من "أولاد البحر") لتوفير الكتبة والمحاسبين اللازمين للأعمال الحكومية . هؤلاء الكتبة والمحاسبين أو "الأفندية" بتعبير خالد الكد، هم على وجه التحديد تلك النخبة التي أورثها الإستعمار الإنجليزي الدولة من بعده، والذين بحسب كولينز كان معظمهم من (أولاد البحر)!!!، فمن هم (أولاد البحر) هؤلاء؟؟، والذين شكّلوا النخبة الإجتماعية المسيطرة التي ورثت الدولة من المستعمر و إلى يومنا هذا؟
تشير الدلائل إلى أن مصطلحي "أولاد البحر" (وهم أبناء الشمال النيلي)، و "أولاد الغرب" (وهم أبناء دارفور وكردفان)، في الغالب الأعم بدأ أول ما بدأ إستخدامهما مع الدولة المهدية، وأصبح أكثر وضوحاً خلال وبعد مرحلة الصراعات التي خاضها الخليفة عبدالله محمد ود تور شين الشهير ب( الخليفة عبدالله التعايشي) لتثبيت أركان الدولة المهدية. فقد ترك قائد الثورة المهدية محمد أحمد المهدي وراءه بعد وفاته إدارة هيكلية يتحكم فيها ثلاثة من تلاميذه، والذين خلع على كل واحد منهم لقباً لأحد صحابة النبي (ص) وهم: عبدالله محمد ود تورشين (خليفة الصديق)، علي إبراهيم الحلو (خليفة الفارق)، ومحمد شريف (خليفة الكرار). ولما كنت التسمية التي مُنحت لعبدالله قد إقترنت بإسم أبي بكر أقرب صحابة الرسول (ص) فإنه كان المرشح الأوفر حظاً. (..) وبالرغم من أن الخليفة عبدالله التعايشي إمتلك أقوي المسوغات لخلافة المهدي، بالإضافة إلى أن فرق (البقارة) الموالية له من مقاتلي (الراية السوداء) كانت متحصنة في أمدرمان، فإن الإستخلاف لم يمر دون تحدِ. وبذلك كشفت وفاة المهدي إلى العلن، التنافس الكامن بين سودانيّي الوسط والشمال النيلي (الجعليين، والدناقلة والشايقية) أو (أولاد البحر) ومنهم عشيرة المهدي ممن عرفوا ب(الأشراف)، وبين (أولاد الغرب)، أو أولئك (البقارة) الخشنين. وقد رأي كلٍ من الأشراف وأولاد البحر إن الحاكم الجديد يجب أن يكون الخليفة محمد شريف زوج إبنة المهدي، لكن البقارة (أولاد الغرب) مؤيدي عبدالله التعايشي دانت لهم السيادة في أمدرمان. ويعود ذلك لأسباب عديدة منها المساندة والدعم السياسي والعسكري والمعنوي الذي وفّره أولاد الغرب من البقارة ومن القبائل الأخري للثورة المهدية حتي عُرفوا وإلى اليوم ب"الأنصار"، تشبيهاً بأنصار الرسول (ص)، لمناصرتهم للمهدي، في الوقت الذي تنكّر أبناء الشمال النيلي من عشيرة المهدي (أولاد البحر) ل(مهديهم)، التواجد الكثيف لأولاد الغرب كمحاربين في صفوف جيش المهدي في أمدرمان بعد سقوط الخرطوم عاصمة الإحتلال التركي المصري ووفاة المهدي بعد ستة أشهر من ذلك، هذا التواجد العسكري كان بمثابة آلية ردع وتخويف لأبناء البحر من مغبة إختيار خليفة للمهدي ليس منهم، إضافة إلى وضع المهدي نفسه لعبدالله التعايشي في مرتبة أبي بكر الصديق، وهي إشارة إلى أن الأمور يجب أن تجري كما جرت في تاريخ وسيرة النبوءة، بأن يتولي من وضعه هو في مقام أبوبكر زمام الدولة. كلها عوامل جعلت من إختيار عبدالله التعايشي أمراً واقعاً لامحالة، وفي ذات الوقت جعل من منافسيه من أولاد البحر وعشيرة المهدي (آل البيت) يرجئون الأمر لوقت آخر.
لذلك، فمن الناحية التاريخية، فالصراعات التي دارت على خلافة المهدي بين (أولاد البحر) و (أولاد الغرب) مثلت العامل الجيني الأولي لجرثومة الإنقسام الإجتماعي والسياسي في السودان، والتي ربما تكون مستمرة إلى يومنا هذا. إذا ما هو البعد الأيديولوجي أو النظري في الموضوع؟ أيضاً يمكن إرجاع ذلك إلى زمن الفتح التركي المصري أو ماقبله، حيث تم تبني الهوية العربية الإسلامية بصورة صريحة من جانب سكان السودان الشمالي، وتمثّلت مقومات ذلك في التحدث بالعربية، والإدعاء بالأصل العربي، وإعتناق الديانة الإسلامية. أما في سنوات الحكم الثنائي البريطاني المصري (1898 1956) فقد أدخل المسئولون البريطانيون اللغة الإنجليزية والفكرة الغربية عن القومية وسط من علّموهم من أبناء العائلات العربية المرموقة، ولكن هؤلاء بدورهم بدأوا في البحث عن الهوية السودانية. ورغم الإيحاءات بالدونية التي ينطوي عليها مصطلح "سوداني" في ذلك الوقت. فالنخبة الناشئة التي تلقت تعليماً غربياً قد أعطت لهذا المصطلح معني جديداً ليدل على هوية وطنية، لكنها تحددت أيضاً بكونها "عربية" و "إسلامية"، وهو ماجعلها ضيقة وإستبعادية ولا تستجيب إلا في القليل أو لا تستجيب على الإطلاق لمشاعر أكثر من ثلث سكان السودان، وهم من الأفارقة غير المسلمين وغير العرب. والمفارقة الجديرة بالذكر، أنه حتى بقية العالم العربي لم يشاركوا النخبة السودانية إعتقادها بأن السودانيين عرب أصلاً .
وعلى أية حال، يبدو أن سكان السودان النيلي "أولاد البحر" قد أظهروا منذ زمن ليس بالقصير، إزدرائهم للعرقيات الأخري في الغرب "أولاد الغرب" والمناطق الأخري، حيث إعتبروهم أجلافاً غير متحضرين، وهو ما أفضي إلى عنصرية ثقافية/سياسية بيّنة، إستطاعت بمقتضاها إثنيات "الجعليين" و "الشايقية" و "الدناقلة" الذين يشكّلون معاً "أولاد البحر"، الإحتكار الفعلي لجميع المناصب الحكومية، بدأ بمنصب الوزير وإنتهاء بالوظائف الحكومية الصغيرة، وذلك على مدي الخمسين عاماً التالية على إستقلال السودان، الأمر الذي بات يشكل أحد العراقيل الرئيسية في طريق البحث عن هوية وطنية موحدة.
ماحاولنا النظر إليه من خلال ما أسميناه "جينالوجياً الأسباب"، هو تلك العناصر الجينية المتنحية البعيدة في تلافيف التاريخ والتكوين الثقافي، والتي قد تكون واحدة من المحركات الدافعة ضمن محركات أخري بالطبع لتسارع تفكك الدولة السودانية المتوقع، والمتمثلة في الأبعاد التاريخية والإجتماعية، ذلك لأن أي مظاهر لتحلل دولة ما في الحاضر، لا تتواجد معزولة عن سياقها التاريخي والإجتماعي، فلابد لها أن تكون ذات صلة عضوية وثيقة بالماضي (=التاريخ) والتفاعلات الثقافية بين التكوينات الإجتماعية المختلفة. فإنفصال جنوب السودان في 2011 علي سبيل المثال، لا يمكن قراءته كحدث معزول في الزمان والمكان لا تربطه صلة بتاريخ العلاقة المتوترة بين السودانين الشمالي والجنوبي منذ فترات بعيدة. وبالتالي، فإن إحتمال تفكك السودان إلى دويلات مكونة من دولة وسط نيلي، ودولة في دارفور، وكردفان، وشرق السودان أمراً ليس بالمستبعد، ذلك لأن الأسباب ظلت واحدة على الدوام وفي معظم الحالات. ومن الجلي إن النخب الوطنية النيلية التي ورثت السلطة من الإستعمار ومضت في نفس سياساته التي أدت لإنفصال الجنوب، ستلعب أيضاً الدور المركزي في تفكك ما تبقي من السودان، بحكم إستمرارية هيمنتها وسيطرتها على مفاصل الدولة السياسية والإقتصادية وإستبعادها للكيانات الإجتماعية الأخرى، مشكّلة بذلك (مركزاً) ليس سلطوياً فحسب، وإنما مركزاً إجتماعياً وإقتصادياً عميق التجذّر. لذلك يسود إعتقاد في أوساط ممن لا ينتمون إلى الشمال النيلي أو أولاد البحر، بأن هذه النخب ليست سوى مستعمراً جديداً شاءت الإعتراف بذلك أم أبت. وإذا كان هنالك من يقولون بأن هذه النخب بريئة من ذلك، فهذا إدعاء فيه أكثر من قول أو Debatable، كما يقال، وهو ما حاولنا تبيانه من خلال الإستعراض السابق لجينالوجيا الأسباب وراء التفكك والإنهيار. فهذه النخب النيلية كانت أول من قاد الصراع ضد الثورة المهدية منذ نشؤها وحتى وفاة مؤسسها وزعيمها محمد أحمد المهدي، وضد المهدية الدولة مع بدايتها في زمن الخليفة عبدالله ود تورشين التعايشي (المؤسس الفعلي للدولة المهدية)، حتى نهايتها في معركة كرري وبداية الإستعمار الثنائي. وكان المنطق في ذلك عرقي إستند علي مبرر أحقية آل البيت بخلافة المهدي، قاصدين بذلك (الخليفة محمد شريف)، على نفس المنوال الذي جري في التاريخ الإسلامي عندما طالب علي بن أبي طالب بالخلافة، مستنداً في ذلك بنفس الحجة التي أحتج بها أبوبكر الصديق على الأنصار من المدينة في ثقيفة بني ساعد، وهي صلة الدم (أل البيت). لذلك فإن إزدراء (أولا البحر) الذين ينتمون إلى آل البيت (الأشراف) لهؤلاء (الغرابة) الأجلاف، له الكثير من المبررات والتي يطفو من ثناياها عاملي العرق والدين معاً. ومع ذلك، فالملاحظة الجديرة بالتدوين هي أن هؤلاء الأشراف وأولاد البحر كان هم أول من تنصل عن المهدي في بدايات دعوته لا وبل ناصبوه العداء، كما فعلت قريش مع النبي محمد (ص)، ولم يظهروا إلا بعد وفاته طلباً لتركته المتمثلة في سلطة الدولة. وهو المدخل الذي قادهم للتآمر على الخليفة عبدالله التعايشي بعد أن آلت الأمور إليه بالطريقة التي شرحناها. وبالتالي كان تآمراً على الدولة المهدية التي قاد ثورتها حتى إنتصارها المدوي على الإستعمار التركي محمد أحمد المهدي، وقامت دولتها على أكتاف الخليفة و (أولاد الغرب)، وتعاونوا في ذلك مع الشيطان نفسه، والذي لم يكن بعيداً منهم حينها.... الإحتلال الإنجليزي المصري.
من الواضح أيضاً إن الإستعمار في كلتا الحالتين سواء (التركي المصري) أو (الإنجليزي المصري) قد لعب دوراً مهماً في تعميق هذا الإنقسام الإجتماعي، ودافعه في ذلك كان معلوماً، وهو بسط سيطرته على الدولة المركزية الناشئة لإستخدامهما في تحقيق أهدافه الإستعمارية التي من أجلها قام بغزو السودان. وبالضرورة فإن أي إستعمار في حاجة لقاعدة إجتماعية موالية له من المُستعَمرين (بفتح العين والميم)، فكان إن وجد ضالته في أبناء الشمال النيلي، والذين كانت آثار إستبداد حكم الدولة المهدية مازالت حية في ذاكرتهم. لذلك، فسيطرة (أولاد البحر) هذه لم تكن مصادفة، وإنما لها تاريخ طويل يعود إلى عهد التركية، أي مع بداية تشكُّل الدولة المركزية في السودان، وهذا أمر مهم لابد من الإنتباه له.
لم يختلف عن النموذج الإستعماري لا شكلاً ولا مضموناً الدور الذي لعبته النخب الوطنية خلال كل الحقب إبتداء من الديمقراطية الأولي المتعارف عليها بحكومة الأزهري (1955 1958)، مروراً بحكومة الفريق إبراهيم عبود (1958 1964)، حكومة سرالختم الخليفة الإنتقالية (1964 1965)، حكومة الديمقراطية الثانية (1965 1969)، حكومة المشير جعفر النميري (1969 1985)، حكومة سوار الدهب الإنتقالية (1985 1986)، حكومة الديمقراطية الثالثة (1986 1989) وحتى وصلنا إلى حكومة الجبهة الإسلامية القومية (1989 وحتي كتابة هذه السطور). فالثابت وخلال كل عهود تلك الحكومات "الوطنية" هو:
1. إستمرارية توصيف هذه النخب للدولة السودانية ب"الدولة العربية الإسلامية"، في إنكار واضح للتعدد الثقافي والعرقي والديني، ترتب عليه إستبعاد/إقصاء لا تخطئه العين للمكونات الإفريقية الأخري. مما أدي إلى أزمة هوية لازمت ولا زالت تلازم السودان مجتمعاً ودولة، وكان ذلك من الأسباب الرئيسية التي نتج عنها إنفصال جنوب السودان في 2011.
2. إستمرارية سيطرة وهيمنة ذات النخب التي إرتبطت بالإستعمارين (التركي المصري) و (الإنجليزي المصري) على مفاصل الدولة السياسية والإجتماعية والإقتصادية، وإقصائها المتعمد للآخرين الذين لا يشاركونهم نفس السمات الثقافية والعرقية، وتدلل على ذلك الكثير من الشواهد، غير أن أهمها على الإطلاق ما برهنت عليه أسباب الحروب الأهلية الطويلة التي خاضتها هذه الحكومات المركزية بلا إستثناء على بقية أطراف السودان من جنوبه إلى غربه وشرقه، والتي بدأت بدعوى قمع التمردات التي يقودها أبناء هذه المناطق ضد الحكومات المركزية، إلى أن وصلت إلى حروبات جهادية مقدسة من أجل رفع راية الإسلام في عهد حكومة الإنقاذ (=الإسلام السياسي) بحيث أصبح هناك في السودان، دار "إسلام" ودار "كفر"!!.
3. إستمرارية نهج التطور الإقتصادي الذي خلّفه المستعمر لخدمة مصالحه بتركيز التنمية والخدمات في الوسط النيلي وتجاهل المناطق الطرفية البعيدة. فإذا كانت حجة المستعمر إقتصادية بحت تمثلت في تقليل كلفة إدارته لمستعمرة مترامية الأطراف كالسودان إلى أقل حد ممكن، بغرض إستخراج أكبر قدر ممكن من الموارد وإرسالها إلى بريطانيا، فما هي حجة الحكومات "الوطنية" المتعاقبة في السير على نفس المنوال؟؟. من الجلي أيضاً أن السير على نفس نمط التطور الإقتصادي الذي تركه الإستعمار قد تكون لعبت فيه عوامل كثيرة أدواراً شتى، لكن في تقديري من أهمها الطريقة التي تم بها نيل الإستقلال نفسه ، لأنها حددت بصورة حاسمة شكل وملامح الدولة فيما بعد. وعموماً، تشير كثير من الدلائل إلى أن الأنجليز سلموا الدولة لهذه النخب وغادروا لأسباب تخصهم، وليس نتاج للمماحكات التي كانت تتم داخل ماعُرف ب"الحركة الوطنية"، والتي كان فيها الجدل محتدماً والمساومات تجري على قدم وساق بين القوى الطائفية (حزب الأشقاء والأمة) والقوى التي أفرزها مؤتمر الخريجين بقيادة اسماعيل الأزهري. حول هل السودان للسودانيين أم يبقي تحت التاج المصري، ولم يكن الأمر نضالاً ولا حركة وطنية ولا يحزنون. وبذلك وجدت هذه النخب النيلية نفسها تحكم بلداً غنياً صبيحة مغادرة الإنجليز الخرطوم، فسارت على ماهو موجود. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نصنّف الدولة السودانية كدولة (مابعد حقبة إستعمارية) نموذجية A typical post-colonial state، أكثر من كونها دولة وطنية. وعليه، فقد إنتهي الأمر إلى أن أصبحت هذه النخب مسيطرة على الجهاز البيروقراطي للدولة، ومتمكّنة إقتصادياً، وأعطتها السلطة مزيداً من الوجاهة والمكانة الإجتماعية. تم ذلك في وقت لم يكن بمقدور معظم الأطراف المقصية من السودان رؤية ذلك بالوضوح الكافي، عدا النخبة الجنوبية، والتي رأت ذلك مبكراً حيث طالبت فيه بالحكم الفدرالي لجنوب السودان على الأقل من خلال المقترح الذي قدمه السيد (بوث ديو) إلى اللجنة التي كوّنها الحاكم العام للسودان آنذاك برئاسة القاضي ستانلي بيكر في 1951 . وهو الأمر الذي سفّهته النخب الحاكمة الجديدة، ولم تر فيه أمراً جديراً بالإهتمام. مما أدي إلى أول بدايات إنزلاق السودان في مستنقع الحروب الأهلية، والتي أشعل فتيلها تمرد كتيبة مسلحة من الجيش السوداني بمدينة توريت في 1955، أي قبل الإعلان الرسمي للإستقلال في صبيحة الأول من يناير 1956. نتجت عنها حرب أهلية قضت على الأخضر واليابس أمتدت 17 عاماً إنتهت بإتفاقية أديس أبابا في 1972. إستمرت هذه الإتفاقية عشرة أعوام فقط وتجددت الحرب مرة أخري في 16 مايو 1983، هذه المرة وأيضاً عن طريق تمرد الكتيبة 105 التابعة للجيش السوداني في مدينة بور، حيث أدت إلى حرب أهلية ثانية كانت أكثر فظاعة ودموية من سابقتها، أمتدت 21 عاماً أختتمت بإتفاقية السلام الشاملCPA في 2005، ليستقل بعدها جنوب السودان في 2011. بعد إستفتاء على حق تقرير المصير كما نصت على ذلك الإتفاقية.
إن محصلة البحث الذي قمنا به في " التفكك والإنهيار لماذا؟جينالوجيا الأسباب"، كان في واقع الأمر محاولة لرؤية أبعاد وأسباب الهيمنة والسيطرة البيّنة للنخب النيلية على دولة مابعد الحقبة الكولونيالية السودانية، والذي تبدو الأسباب التاريخية والثقافية والدينية، كواحدة من الدعامات التي إستندت عليها هذه السيطرة، مضافاً إليه وبالأساس، السياسات التي إتبعتها النظم الإستعمارية وسارت عليها هذه النخب فيما بعد. وفي تقديرنا، إن جملة هذه الأسباب مازالت تحتاج إلى المزيد من البحث العميق، ليس فيها كأسباب فحسب، وإنما عن الدوافع والمصالح ذات الصلة، التي جعلت هذه النخب تستمر على نفس خطي الإستعمار!!. لكن، ومع ذلك، يبدو ومن الناحية الموضوعية أن طبيعة التكوين الجيوبولتيكي والتاريخي لماعُرف بالسودان ما قبل 1821، والدولة المركزية الحديثة التي كونها الإستعمار التركي في هذا التاريخ وبعده، مروراً بالثورة المهدية والحكم الثنائي، كلها عوامل أدت بصورة من الصور لسيطرة هذه النخب النيلية. عززت منها وبصورة لا مثيل لها، فترات الحكم الوطني من 1956 وإلى اليوم، والتي كان متوقعاً منها أن تكسر حدة هذه السيطرة والإحتكار بالإتجاه نحو عملية بناء وطني حديث يكافح الإقصاء ويستوعب التباين أملاً في خلق "أمة سودانية" تستطيع تجاوز كل هذا الركام التاريخي المستمر للتناقضات الإجتماعية الموروثة، وتلك التي خلقها الإستعمار. لكن يبدو أن تلك النخب لم يكن بمقدورها فعل ذلك. والنتيجة أنها أدخلت الدولة والمجتمع في نفق أزمة هوية قوامها الإصرار على عروبة وإسلامية الدولة والمجتمع وفرضه على بلد متعدد على كافة الأصعدة عبر إستخدامه كسلاح إيديولوجي لقمع الآخر ولو إلى حين. على الصعيد الإقتصادي، إزدادت هذه النخب ثراء بصورة مضطردة، وإزدهر محيطها الجيوبولتيكي (الوسط والشمال النيلي) على حساب تهميش الأطراف وتزايد فقرها وإنقسامها. هذه المعادلة نتج عنها تفضيل الجنوب لخيار الإستقلال عن هذه الدولة، ويبدو أن بقية الأطراف ماضية على نفس الطريق، لأن الأسباب التي أدت إلى إنفصال الجنوب مازالت باقية، هذا إن لم تكون قد إزدات حدة بعد إستيلاء تيار الإسلام السياسي على السلطة في 30 يونيو 1989، وبداية مواجهاته مع بقية الأطراف في الغرب والشرق والنيل الأزرق، في مطلع هذه الألفية.
2. التفكك والإنهيار كيف؟ من الدولة الفاشلة إلى محور التبعية:
إن الإجابة على سؤال التفكك والإنهيار كيف؟ يحيل مباشرة إلى مهمة البحث عن سيناريوهات محتملة، وبالتالي يصبح من الضروري وضع إفتراضات أو تصوُّرات عن هذه الكيفيات. وبما وأنه لا توجد قوالب قياسية محددة، ففي الغالب الأعم تتطلب صياغة هذه السيناريوهات الإستفادة من تجارب مشابهة، ومن ثم تركيب الصياغات المفهومية لهذه الفروض إستناداً على المقارنة. وقد سبق وأشرت إلى ذلك عندما ذكرت النموذج الصومالي في المقدمة. وعموماً، فإن الفرضيات من المحتمل أن تكون على النحو التالي:
1. تفكك وإنهيار عشوائي: حيث تبدأ عملية الإنهيار للدولة بكاملها من نقطة ما في مسيرتها السياسية، لكن السمات العامة غالباً ماتكون فقدان الحكومة المركزية لسيطرتها على أراضيها ومواطنيها، وقيام الحروبات الداخلية ذات الطابع الفوضوي بين الكيانات الإجتماعية المختلفة بينها، ويتطور ليصل مرحلة تسمية كل كيان لدولة له على قطعة أرض يفرض عليها سيطرته بالقوة(البحث عن شرعية). وهو ماحدث في نموذج الصومال، والذي إنتهي إلى أن أصبح الصومال الدولة المركزية الكبيرة عدة "صومالات" صغيرة (مثل أرض الصومال، صومال بونت وغيرها) كل واحدة يديرها كيان محددة، قبيلة كانت أو ما هو أقل منها، والتي غالباً ما تكون في حالة صراع فيما بينها بصورة من الصور.
2. تفكك وإنهيار محسوب: وهذا يتم عبر سلسلة من الإتفاقات والتسويات، تتبعها سلسلة من الإجراءات السياسية والتنظيمية والإدارية والقانونية المؤدية لإنفصالات لإقليم أو عدة أقاليم تنتج دولاً. هذه التسويات/الإتفاقيات عادة ما تتم بمستويات متعددة ما بين المركز المسيطر والأطراف في الدولة الأم، وفي غالب الأحوال ما يمر عبر محطات تقرير مصير يتبعه إستفتاء شعبي يفضي لتكوين دولة، كما حدث في نموذج جنوب السودان ونماذج أخري من العالم ما بين الهند وباكستان على سبيل المثال.
صحيح قد تكون هنالك تصورات أخري مثال بقاء الدولة على حالها، أو أن تصحح مسارها وتبدأً في عمليات الإصلاح، وفي هذه الحالة لا تقع ضمن فرضيتنا الأساسية القائمة على التفكك. وعلى أية حال، فإن التفكك والإنهيار، سواء إن كان عشوائياً أو محسوباً لا يتم بين عشية وضحاها Over night، إنما بعد فترات طويلة من الصراعات والنزاعات الداخلية على السلطة والثروة والحقوق الإجتماعية، والتي قد تصل فيها الكيانات المتصارعة لنقطة عدم القدرة على الإستمرارية في سياق الدولة. معظم الدراسات التي إهتمت بتفكك وإنهيار الدولة ركّزت بصورة كبيرة على المراحل التي تسبق الإنهيار والتفكك الكارثي، وذلك من منظور أن التفكك هو في واقع الأمر نتيجة، وليس سبباً، وبالتالي، فإن معرفة أسبابه الحقيقية، تكمن في معرفة ماذا حدث قبله؟؟، أي العوامل المؤدية للإنهيار ثم التفكك، وهو ما تم التعارف عليه بمرحلة "فشل الدولة" أو "الدول الفاشلة".
وبشكل عام، فإن الدولة تصبح الدولة فاشلة، عندما تعجز عن أداء مهامها ووظائفها وواجباتها؛ المتمثلة في توفير السلع السياسية لمواطنيها ك (1) تنظيم الحقوق والحريات المدنية (2) العناية الصحية والطبية (3) توفير بنى تحتية ذات كفاءة عالية (4) توفير نظام مؤسساتي إقتصادي ناجح يستطيع المواطنون من خلاله أن يسعوا إلى تحقيق أهدافهم ومشاريعهم (5) ولعل تحقيق الأمن والأمان في قمة هرم تراتبيّة السلع السياسية، الذي يضمن توفير التمتّع بالسلع الأُخرى. إن تقصير الحكومات في أداء هذه الواجبات ينتج عنه: (1) انتشار الفساد وسوء الإدارة، (2) فقدان السيطرة على الحكم، لتحكمها بعد ذلك ملشيات مسلحة أو ماشابه من أمراء الحروب مُخلفين من ورائها معاناة؛ إنسانية، سياسية، إقتصادية، ثقافية، أمنيّة كبيرة. عند وصول أي دولة أو حكومة إلى هذه المرحلة فإنها تُعّرف حينها بأنها "دولة فاشلة" Failure State.
وعموماً يُعْتَبَرْ مفهوم الدولة الفاشلة كظاهرة، قديم الوجود بدأ إستخدامه أدبيّات السياسة في أوائل تسعينيات القرن العشرين وتحديداً مع بداية انهيار الحكومة الصومالية. وهو الأمر الذي دعى الباحثين والمفكرين للبحث في ماهيّة فشل الدولة، أسبابه، محدداته، وتبعاته. وقد ظهرت دراستان لعبتا دوراً أساسياً في تشكيل مفهوم الدولة الفاشلة. الدراسة الاولى كانت ل (جيرالد هيرمانGerald B. Helman – ) و (ستيفن راتنر Steven R. Ratner ) عن الدولة الفاشلة، ونُشرت في مجلة السياسة الخارجية الامريكية عام 1993، أما الثانية فهي ل (وليام زارتمان William I. Zartman ) عن الدولة المنهارة والتي صدرت في عام 1995.
أشار كلاً من راتنر و هيرمان Helman & Ratnerفي دراستهما إلى أنّ مفهوم الدولة الفاشلة يمكن أن يُختصر"بتلك الدول التي لا تستطيع أن تلعب دوراً ككيان مستقل". وضربا المثل بهايتي، يوغوسلافيا، والاتحاد السوفياتي، السودان، ليبيريا، وكمبوديا. في حين أشار زارتمان Zartman في دراسته حول الدول المنهارة، بأنها "تلك الدول التي لم تعد قادرة على القيام بوظائفها الأساسية"، وضرب مثالاً على ذلك بالكونغو في الستينيات من القرن العشرين، وتشاد وغانا وأوغندا في أواخر ثمانينيات القرن نفسه، والصومال وليبيريا وإثيوبيا مع بداية تسعينيات القرن العشرين. ورأى آخرون أنّ الدولة الفاشلة؛ "هي الدولة التي تحكمها الملشيات المسلحة". فيما عبّر بعض الباحثين وقالوا بأنها: "تلك الدولة التي تفقد السيطرة على وسائل العنف الخارج عن الإطار القانوني. ومن ثم تكون عاجزة عن تحقيق السلام والاستقرار لشعوبها، وفي فرض السيطرة على أراضيها أو جزء منها، وعليه لا تستطيع ضمان النموّ الإقتصادي، أو أي توزيع عادل للسلع الاجتماعية، وغالباً ما تتميز بانعدام المساواة الإقتصادية والمنافسة العنيفة على الموارد ."
إن معظم التعاريف السابقة تتمحور حول قدرة الحكومات على القيام بواجباتها السيادية على ما تملك بأكمل وجه، وأنه كلما ما ضعفت وتفككت وكانت على وشك انهيار حكومي، كلما باتت الدولة أقرب إلى الفشل. وفي هذا السياق، تبلورت مقاربة كمية رقمية تحت مسمى "مقياس الدول الفاشلة Fragile States Index"، والذي يصدر عنه قائمة بترتيب الدول، حسب درجة إخفاقها، وفقاً لمؤشرات إقتصادية، واجتماعية، وسياسية، وأمنية، بحيث أصبح هذا المقياس السنوي يحظي باهتمام وسائل الإعلام العالمية، ودوائر صنع القرار في الدول الكبرى، بما يعيد تشكيل الخطاب السياسي، وتوجّهات السياسات الدولية بشكل عام فضلاً عن اتجاهات تأثيره في السياسات الدولية.
متى يمكن القول عن الدولة أنها دولة فاشلة؟ منذ عام 2005 بدأ صندوق السلام Fund For Peace))، بالإشتراك مع مجلة السياسة الخارجية (Foreign Policy)، في إصدار تقارير سنوية حول الدول الفاشلة، وقد حددت منظمة (FFP) Fund For Peace خصائص رئيسية للدول الفاشلة تمثلت ب:
1. فقدان سيطرة الدولة على أراضيها أو جزء منها، أو فقدان إحتكار الإستخدام المشروع للقوة والسلطة داخل أراضيها.
2. تآكل السلطة الشرعية، لدرجة العجز عن إتخاذ قرارات موحدة.
3. عدم القدرة على توفير الخدمات العامة.
4. عدم القدرة على التفاعل مع الدول الأخرى كعضو كامل العضوية في المجتمع الدولي.
كما وضع صندوق السلام (Fund For Peace) مجموعة من المعايير وفق آلية علمية تستخدم برامج معقدة ومتطورة تقوم بمسح عشرات الآلاف من المصادر الإخبارية لجمع المعلومات وتحليلها، ومن ثم تأطيرها ضمن ما بين 11 إلى 12 مؤشراً فرعياً وهم: (1) الضغط الديموغرافي، (2) اللاجئين والنازحين، (3) انتشار الظلم، (4) حق السفر والتنقل، (5) الناتج الإقتصادي المتفاوت، (6) الإنحدار الإقتصادي، (7) شرعية الحكم، (8) الخدمات العامة، (9) جهاز الأمن، (10) الفصائل والطوائف المختلفة، (11) التدخل الخارجي، وتتراوح قيمة كل منها بين (0-10)، وكلما حازت الدولة علامات أعلى كلما تصدرت قائمة تصنيف الدول الفاشلة. ولتوضيح كيفية فشل الدولة سنلخص هذه المؤشرات حول عناوين رئيسية للتسهيل وهي:
1. المؤشرات السياسية:
وأهمها يتمحور درجة شرعية ومصداقية نظام الحكم، تراجع قدرة الدولة على تقديم الخدمات العامة، تعطيل أو تعليق تطبيق حكم القانون وانتشار ممارسات انتهاك حقوق الإنسان، تنامي حالة من ازدواجية المسؤولية الأمنية بحيث تتمتع جهة بسلطة تضاهي سلطة الدولة، وجود حالة من عدم الاستقرار السياسي خاصة على المستوى المؤسساتي، تزايد حدة التدخل الخارجي سواء من جانب دول أو فاعلين من غير الدول.
2. المؤشرات الإقتصادية:
وأهمها عدم انتظام معدل التنمية الاقتصادية، استمرار تدهور وضع الاقتصاد الوطني بدرجات تدريجية متفاوتة أو حادة، بالإضافة إلى ازدياد معدلات الفساد وانتشار المعاملات العرفية.
3. المؤشرات الاجتماعية:
من ملامحها تصاعد الضغوط الديمغرافية، ويُعبر عنه بارتفاع كثافة السكان في الدولة، وانخفاض نصيب الأفراد في المجتمع من الاحتياجات الأساسية، تزايد حركة اللاجئين بشكل كبير إلى خارج الدولة، أو تهجير عدد من السكان في منطقة داخل الدولة بشكل قسري، وجود إرث عدائي لدى أفراد الشعب، انتشار ظاهرة هروب العقول والكفاءات.
غالباً ما يأتي فشل الدول على أصعدة متوازية لا يمكن الإمساك بأيهما السبب وأيهما النتيجة، بمعنى أنه يمكن للفشل على الصعيد الاجتماعي أن يكون مسبباً لفشل على الصعيد الإقتصادي، وعليه تفشل المؤسسات السياسية في تدارك الفشل المترتب على الصعيدين السابقين. وقد تبدأ دائرة الفشل بالعكس، بحيث تكون العوامل الخارجية هي نقطة البداية في حلقة الفشل، فإمّا أن تتسبب العوامل الخارجية فيه، أو أن تُعَزِّز عوامل الفشل الكامنة داخل الدولة فتظهر أعراضها الاجتماعية والسياسية والإقتصادية والمؤسساتية، وتعد هذه النظرة نظرة واسعة فضفاضة تتضمن جوانب ومجالات متعددة ومتشابكة مما يضمن الحكم بالفشل على أي دولة، وهو بذلك يصبح لفظًا تحكميًّا غير موضوعي، مما دفع إلى تصميم مؤشرات قابلة للقياس تستطيع تقديم صورة أكثر تفصيلاً لحالة الفشل تسمح بالحكم على شكل ودرجة ونمط الفشل الذي تعاني منه كل دولة.
إنّ هذه الخصائص إذا ما تحققت داخل دولة ما يمكن أن يؤدي إلى ظهور اللاجئين وحركة نزوح لا إرادية من السكان، ترغمهم على النزوح أو اللجوء نتيجة التدهور الإقتصادي الحاد. ووفقاً لنظريات الباحث السياسي "ماكس فيبر" Max Weber التي تقول: "من الممكن أن تكون الدولة ناجحة وأن تبتعد عن معيار وخصائص الدولة الفاشلة عن طريق المحافظة على احتكار الإستخدام المشروع للقوة والسلطة داخل أراضيها، دون السماح لجماعات مسلحة أو أمراء الحرب أو أي تنظيم مسلح من السيطرة على أي جزء داخل الأراضي، بحيث أن تبقى الكلمة الفصل والسلطة للدولة وحدها". إلا أنّ احتكار الدولة وحدها للقوة والسلطة داخل مناطقها لا يكفي على حسب محددات ومؤشرات صندوق السلام (Fund For Peace)، فتوفير السلع السياسية ،وضمان عدم هجرة العقول وغيره من المحدادات هي أيضاً عامل هام لضمان نجاح الدولة من منظور صندوق السلام.
ومع ذلك فإنه يمكن القول أنه ليس هناك إجماع حقيقي حول تعريف "الدولة الفاشلة"، فهناك تعريف يستند إلى شرعية الحكم، وآخر محدد بقدرة احتكار السلطة بيد الدولة وحدها على ما تملك، وثالث مربوط بقدرة الدولة على توفير السلع السياسية للمواطنين، إذن؛ فلكل دولة فاشلة طريقتها في الفشل. إلا أنه يبقى تصنيف صندوق السلام (Fund For Peace)، بالإشتراك مع مجلة السياسة الخارجية (Foreign Policy) هو التصيف الأساسي والمعتمد من قبل أغلب الباحثين في دراسة الدولة الفاشلة، ذلك لأنه يقدم تقريراً سنوياً عن تصنيف تلك الدول وفق معايير مدروسة، كما يفتح أبواب النقاش في قضايا مرتبطة بالظاهرة مثل: لماذا تفشل الدول؟، وما الذي يجب فعله لإنقاذها؟، تمهيدًا لإيجاد حلول لها.
على خلفية الإضاءة النظرية حول مفهوم الدولة الفاشلة، والذي كما ذكرنا، يمثّل المعبر نحو التفكك وإنحلال الدولة، وعند مقاربته بحالة السودان، نجد أن كل ماذكر يكاد يتطابق بنسبة عالية. فكل المظاهر التي أشار إليها الباحثون موجودة وواضحة للعيان بصورة شديدة. ودعونا نضعها في جدول على سبيل المقارنة:
المؤشر النموذج/ المثال في الحالة السودانية
فقدان سيطرة الدولة على أراضيها أو جزء منها، أو فقدان إحتكار الإستخدام المشروع للقوة والسلطة داخل أراضيها. (1) إنفصال الجنوب (2) وجود مناطق تحت سيطرة الحركات المسلحة في دارفور، النيل الأزرق، جنوب كردفان (3) الحكومة ليست الجهة الوحيدة التي تستخدم العنف، فهنالك مليشيات مسلحة وجهات أخري غير محددة الهوية(وهو ماظهر في كثير من الحالات مثال حالة الجرائم التي أرتكبت في سبتمبر 2013، إذ لم تُعرف بعد وإلى اليوم الجهات التي أعطت الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين).
تآكل السلطة الشرعية، لدرجة العجز عن إتخاذ قرارات موحدة.
شرعية النظام مفقودة لأنه ببساطة إنقلاب على سلطة منتخبة بإرادة شعب، لكن عند التعامل بالأمر الواقع، حتي شرعية الإنقلاب فقدها عبر الإنقسامات المتتالية داخل الحزب الحاكم بحيث أصبح من الصعب تحديد من هو الذي يتخذ القرار، هل الرئيس أم الجيش ، أم المؤسسات الأمنية، أم الحزب. أي موضوعياً يمكن القول أن عملية صناعة القرار غير معروفة على وجه التحديد القانوني والمؤسسي.
عدم القدرة على توفير الخدمات العامة أدت سياسية الخصخصة التي أتبعتها الحكومة وبموجبها تمت تصفية مشاريع إستراتيجية كانت ترفد خزينة الدولة مثل مشاريع الجزيرة، النيل الأبيض والأزرق، والفاو وغيرها من الصناعات الإستراتيجية الأخري لصالح أفراد من الحزب الحاكم. فعجزوا عن إدارتها إلى إنهارت هذه المشاريع وبالتالي فقدان إسهامها مجمل الدخل القومي، (ومؤخراً تم تمليك جزء كبير من هذه الأراضي للصين لتغطية مديونيتها ومنحت أراضي أخري لدول ومستثمرين عرب. نتج عن ذلك تباعاً عدم قدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية مثل التعليم، الصحة والتي قامت أيضاً بفتحها للقطاع الخاص(مامون حميدة نموذجاً) وممارسة الإنسحاب التدريجي من تقديمها، وأخير عجزها عن توفير فرص العمل. لذلك تكون الحكومة السودانية عملياً قد فقدت قدرتها توفير هذه الخدمات سواءاً بسبب تلك السياسات أو بغيرها، فالنتيجة واحدة في نهاية التحليل).
عدم القدرة على التفاعل مع الدول الأخرى كعضو كامل العضوية في المجتمع الدولي (1) السودان ظل ولفترة طويلة متهم برعاية ودعم الإرهاب، وساهم في إضطرابات إقليمية كثيرة (2) رأس الدولة مطارد ومطالب أمام محكمة الجنايات الدولية ولا يستطيع السفر إلى أي دولة أوروبية أو أمريكا، لابل وفي كثير من الأحيان يتعرض للإبتزاز والمذلة في سفرياته الخارجية حتى صار أضحوكة الدنيا، لا وبل صارت الكثير من الدول تهدد بمقاطعة أي مؤتمرات أو لقاءات دولية يكون البشير مشاركاً فيها.
تنامي حالة من ازدواجية المسؤولية الأمنية بحيث تتمتع جهة بسلطة تضاهي سلطة الدولة (1) بروز هيمنة جهاز الأمن والمخابرات على كثير من مناحي الحياة العامة السياسية والإقتصادية والإجتماعية حتى صار مؤثرا في صناعة القرار (2) تحكم المليشيات في القرار القومي و(قوات حميدتي) أنصع مثال (3) وجود مليشيات أخري مسلحة قابعة في الظل تابعة لمراكز قوى من متنفذين بالنظام، جيوب مسلحة لداعش ولجماعات سلفية أخري، جماعات مستجلبة من غرب أفريقيا، وبقايا لجماعات من حماس وغيرها من النماذج التي يمكن إيرادها.
استمرار تدهور وضع الاقتصاد الوطني بدرجات تدريجية متفاوتة أو حادة، بالإضافة إلى ازدياد معدلات الفساد وانتشار المعاملات العرفية لا يخفي حالة التدهور الإقتصادي سواء إن تم قياسه بمستوي إرتفاع العملة أو تدهور الناتج القومي مضافاً إلى الفساد المعلوم.
تزايد حركة اللاجئين بشكل كبير إلى خارج الدولة، أو تهجير عدد من السكان في منطقة داخل الدولة بشكل قسري، وجود إرث عدائي لدى أفراد الشعب، انتشار ظاهرة هروب العقول والكفاءات. الحركة الكبيرة لهروب السودانيين إلى المنافي وطلب اللجوء، ويمثل السودان اليوم من أكبر الفئات الطالبة للجوء في كثير من البلدان، في أوروبا، وأمريكا وأستراليا. أما ظاهرة هجرة العقول فيكفي القول أن أيرلندا وحدها تحتضن ما يقرب من ال 20 ألف طبيب سوداني.
عليه، يمكننا القول إن السودان دولة فاشلة بإمتياز، وهو نفس ما قاله الأمين العام السابق للحركة الشعبية السيد (باقان أموم) إبان الحكومة الإنتقالية التي تلت التوقيع على إتفاقية السلام الشامل في 2005، فقامت الدنيا ولم تقعد، ووصفته صحف صفراء بالعمالة والخيانة وغيرها من الأوصاف والنعوت. وجرت مياه كثيرة تحت الجسر حتي تبيّن لبعض العقلاء ممن كان مع "العصبة أولي البأس" كما يصفهم الصحفي والكاتب فتحي الضو إن السودان أصبح ودون مغالطات في لجة الفشل والذي يعتبر المرحلة التي تسبق التفكك إلى دويلات، فإين هي إذن إتجاهات التقسيم او التفكك؟ هل سيتم بصورة عشوائية كما حدث في النموذج الصومالي، أم أنه سيحدث بصورة مدروسة ومتحكم فيها؟؟
وللمفارقة فإن هذا السؤال أغنتنا عن الإجابة عليه ورقة "السودان المحوري" ذائعة الصيت والتي قدمها السيد عبدالرحيم حمدي وزير المالية الأسبق والإسلامي المعروف إلى مؤتمر للحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) والتي حملت عنوان : "مستقبل الإستثمار في السودان" ودعت إلى تركيز الإستثمار فيما عرّفته ب "السودان المحوري" الذي يضم المناطق من دنقلا إلى سنار وكوستي، مضافاً إليها كردفان.، وقد إشتهر هذا المحور الذي أشار إليه السيد حمدي في الأدب السياسي ب "مثلث حمدي".
هناك ملاحظات عديدة تجعلنا على قناعة راسخة بأن هذه الورقة تمثل الإطار المرجعي النظري لتفكيك وتقسيم السودان بصورة مُتحكم فيها، وليست المسألة رؤية لمستقبل الإستثمار في السودان كما ينطق بذلك عنوان الورقة. أي، أن قراءة العنوان تقول شئ، بينما النص يقول شيئاً آخر. ولا أظن أن مثل هذه البديهة (إتساق العنوان مع النص) من الأشياء التي تسقط بحسن نية، في مثل هكذا ظروف. ومع ذلك، سنحاول البرهنة على مقولتنا بأن هذه الورقة تمثل الإطار النظري لتفكك الدولة السودانية من خلال إستعراض وتحليل نصوصها. والبحث عن الأسباب/الدوافع/المحركات التي قد تقف خلف هذا التفكير.
أولاً: دعوى التقسيم في بنية النص:
الورقة دعت بصراحة فجة إلى تركيز الدعم والإستثمارات على ما أسمته ب "السودان المحوري" دون غيره، لأسباب سنراها كلما مضينا عميقاً نصوص الورقة. هذا المحور يغطي المساحة من دنقلا إلى سنار وكوستي، ملحقاً بها كردفان!. وهذا في تقديري، يقف بمثابة إعتراف في الشروع بقيام هذا الكيان، إذن لسنا في حاجة للبحث عن براهين، لأن الإعتراف سيد الأدلة. وعلى الرغم من أن السياق العام للورقة ومبرراتها كانت تدور حول الإستثمارات، غير أن كل ذلك التمويه لم يسعف كاتبها من تغطية دعوى التقسيم التي تفصح عن نفسها في كل مرة يمضي فيها قارئ الورقة العادي سطراً إلى الأمام.. ولنأخذ دعوة التقسيم نفسها، حيث جاء في الفرضية الثالثة للورقة:
" إن الجسم الجيوسياسى فى المنطقة الشمالية المشار إليه أعلاه وسأطلق عليه اختصاراً {محور دنقلا – سنار + كردفان} أكثر تجانساً.. وهو يحمل فكرة السودان العربى/الاسلامى بصورة عملية من الممالك الاسلامية القديمة قبل مئات السنين.. ولهذا يسهل تشكيل تحالف سياسى عربى/إسلامى يستوعبه. وهو "أيضا" الجزء الذى حمل السودان منذ العهد التركى/الاستعمارى/الاستقلال.. وظل يصرف عليه.. حتى فى غير وجود البترول ولهذا فأنه حتى إذا انفصل عنه الآخرون {أن لم يكن سياسياً فاقتصادياً عن طريق سحب موارد كبيرة منه} لديه إمكانية الاستمرار كدولة فاعلة يصدق هذا بصورة مختلفة قليلاً حتى إذا ابتعدت دارفور.. رغم إمكانية خلق علاقات اقتصادية أكثر مع دارفور حتى لو أنفصلت أو أبتعدت سياسياً."
الملاحظة التي يستشفها القارئ للوهلة الأولى للنص عاليه، أن فكرة التقسيم التي نتحدث عنها قد لا تكون واضحة بما يكفي، ذلك، لأنها جاءت محمولة على نظرية المؤامرة التلقليدية التي أشرنا إليها في البداية، بإعتبار أن التقسيم سيكون مفروضاً. غير أن الأمر ليس كذلك، فإنقسام الدول تلعب فيه العوامل الخارجية آخر الأدوار، ونموذج إنفصال جنوب السودان مازال فصله الدراسي مفتوحاً لم يغلق أبوابه بعد، حيث تقول الحقيقة المرة فيه، إن هذا الإنفصال تقع المسئولية الأكبر فيه على عاتق النخب الوطنية وليست الصهيونية العالمية، والإمبرالية والغرب وغيرها من إكليشيهات نظرية المؤامرة. لذلك ففرضية "إنفصال الآخرون" التي يتحدث عنها السيد حمدي تخوفاً، أو كنوع من "التقية"، على غرار بيت شعر للشاعر العربي عمرو بن أبي ربيعة والقائل:
فإن كان ما لابد منه، فغيره ،،،،،،، من الأمر أدني للخفاء وأستر
وإذا جئت فأمنح طرف عينك غيرنا،،،، لكي يحسبوا الهوي حيث تنظر.
فإنفصال الآخرون المزعوم ليس إلا محاولة إستباقية لتحميل الأطراف في الهامش مسئولية تفكك الدولة السودانية ووضع الشمال النيلي ونخبه المهيمنة منذ الأزل في موقع الضحية، بينما العكس هو الصحيح. وبالتالي نحن في حاجة لإعادة بناء المقولات المفتاحية للنص، والتي سنتجزئها ونعيد تركيبها من جديد لنرى ماذا ستعطينا من دلالات.
1. (جسم جيوسياسي) في المنطقة الشمالية وسمته (=هويته) العربية الإسلامية، سهولة (تشكيل التحالف العربي الإسلامي) بناء على فرضية التجانس.
2. تحمّل هذا الجسم الجيوسياسي لبقية السودان منذ (العهد التركي والحكم الثنائي ومابعد الإستقلال).
3. إنفصال الآخرون (سياسياً أو إقتصادياً)
4. إمكانية إستمرارية هذا الجسم (كدولة فاعلة).
فعندما نضع هذه المقولات المفتاحية في صيغة معادلة منطقية ماذا سينتج؟ لنرى إذن:
(جسم جيوسياسي مكون من تحالف عربي إسلامي) + (الدولة الفاعلة، أي غنية ومتطورة تلعب دور دولة محور) = (إنفصال آخرون) + (تفكك بقية الإقاليم إلى دويلات مستقلة).
والمفارقة إن هذه النتيجة الأولية في تحليل ماقاله حمدي تتفق إلى حد كبير مع الإستنتاجات التي وصل إليها مبكراً الزعيم والمفكر الراحل د. جون قرنق أثناء تحليله لمستقبل نماذج الحلول في السودان. والذي تصوّر في واحدة من فرضياته إنقسام الدولة العروبية الإسلامية عن دولة السودان ذات الكيان الإفريقي(الإفتراضية في تصوراته) . وهي النتيجة التي برهنت على صحتها ورقة السيد حمدي. وهذا يتسق مع جمع المقولات المفتاحية لمقولة الرجل. ومن الواضح أن هذه النتيجة تمثل الحلقة المركزية لكل الورقة، وما عداها لا يتجاوز كونه حيثيات للتبرير من جانب، وتغطية وتمويه للهدف الأساسي. فالإستثمار الذي تسوق له الورقة، يصب في نهاية التحليل في صالح هذا المحور وليس سواه:
."....عكس ذلك فأن التدفقات المالية العربية والاسلامية الرسمية وبالذات الخاصة أتت وسوف تأتى إلى الشمال الجغرافى. ويسهل أن تجذب إليه.. (وربما بتوجيه وحث من الشمال يمكن أن يذهب بعضها إلى مناطق أخرى بعض أطراف الجنوب ودارفور). وعليه فأن المصدر المستهدف فى العملية الاستثمارية من قبلنا يجب أن يكون هذه الاستثمارات.. لما لنا فى الشمال من علاقات شخصية ورسمية مع هؤلاء المستثمرين (الصنادق العربية – المستثمرين العرب والمسلمين – البنك الاسلامى للتنمية ومؤسساته"
"الأفتراض الرابع : وهو ليس إفتراض بل أنه واقع حصل فى الجنوب وسوف يحصل فى دارفور وبدرجة أقل فى الشرق وهو:
انحسار موارد اقتصادية هائلة من المركز الشمالى {محور دنقلا – سنار - كردفان} قد تصل بحسابات اليوم الثابتة الى 65% من موارد الميزانية العامة للدولة.. والى 25% من الناتج القومى الاجمالى للسودان. ويترتب على هذا ضرورة تطوير موارد السودان الشمالى التقليدية بصورة دراماتيكية وسريعة جداً لمقابلة تطلعات أهله اذا أردنا أن نكسب اهل هذا المحور لمشروعنا {السياسى}.
أظن أن المسألة الآن قد باتت أوضح من شمس الظهيرة. وأن التوقعات بتفكك الدولة السودانية الذي أشارت إليه الكثير من المصادر، أمر وارد الحدوث بدرجة إحتمال كبيرة، والكل في إنتظار "صوملة" تطيح بماتبقي من الدولة السودانية. لكن الغير متوقع في هذا الأمر، أن هذا التفكك سيتم بصورة مخطط لها بواسطة تفكير شيطاني بحق. فما هو هذا التفكير إذن؟؟ تثبت الورقة نفسها، ذلك بقولها:
" ان الوحدة قد لا تتم، ولهذا يجب أن نعمل "للبديل" بجد ومنذ الآن، وألا نستسلم لافتراض أن الوحدة "ستصبح" جاذبة بقدرة قادر ! إن القوى الاجنبية ذات التأثير الفاعل قد تلجأ لتاجيج نار الانفصال إذا فشلت فى تحويل الوحدة إلى ميكانزم لتفكيك السودان وحكمه على شروط الأقلية غير العربية والاسلامية كما فعلت كل دول الحزام العازل للاسلام جنوب الصحراء (من اثيوبيا إلى السنغال مروراً بنجيريا)". [لاحظ العبارات بالبنط العريض وتحتها خط].
حقيقة لم أفهم على وجه الدقة كيف أن: [[ ... القوى الأجنبية قد تلجأ لتاجيج نار الانفصال إذا فشلت فى تحويل الوحدة إلى ميكانزم لتفكيك السودان وحكمه على شروط الأقلية غير العربية والاسلامية....]] !!! التفسير الوحيد المتسق مع منطق الجملة هو: "إما تحكم هذه النخب النيلية ذات التوجهات الإسلامية العربية، الدولة السودانية التي ورثتها من استعمار كاملة بشروطها هي، أو أن تفككها. والدليل على ذلك الكلمة المفتاحية [[ البديل]]، فماهو هذا البديل الذي تعمل له هذه النخبة؟؟ إن تعليق مسئولية التفكيك على شماعة (القوى الأجنبية)، لم يكن أمراً موفقاً على الإطلاق في هذه الجملة، لانه متناقض داخلياً، إذا كيف تكون الوحدة مدخلاً للتفكيك أصلاً في حال إستخدمتها قوى أجنبية أو غيرها، ما تكون الوحدة التي يتحدثون عنها وحدة من نوع أخر!!!. لكن دعونا نرى الأمر من زاوية أخرى.
ثانياً: منطق وأسباب التقسيم (تفكيك الدولة):
خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي ظهرت نظرية في الإقتصاد السياسي عُرفت ب"نظرية التعبية" Dependacy Theory""، وروادها هم (هانس سنجر) و (راوؤل بيربش)، والذين لاحظا "أن عقود التجارة للدول تحت النامية Underdeveloped Countries مقارنة بالدول النامية Developing Countries تنحل بمرور الوقت، وأن الدول تحت النامية تقل قدرتها الشرائية للمواد المصنّعة بمرور الوقت، مقارنة بالدول النامية عندما تقوم بتصدير موادها الخام. هذه الفكرة عرفت ب (مقولة بيربتش _ سنجر). وبيربتش هو إقتصادي أرجنتيني عمل لدي مفوضية أمريكا اللاتينية بالأمم المتحدة.(UNCLA) وقد وصل بيربتش إلى نتيجة مفادها أن على "الدول ما تحت النامية أن تستخدم درجة من الحماية في التجارة إن كانت تريد إدخال تنمية ذاتية مستدامة في بلدانها". وقد ناقش ذلك من خلال مقولة أن إستيراد التصنيع وليس توجهات التجارة والتصدير، هي أفضل الإستراتيجيات لدول ما تحت النامية. نظرية التبعية تم تطويرها من خلال وجهة نظر ماركسية عن طريق بول باران في 1957 والذي نشر كتاب "الإقتصاد السياسي للثروة". تشترك نظرية التبعية في كثير من النقاط مع الماركسية في نظرية الإمبريالية التي وضعتها روزا لوكسمبيرج وفلادمير لينين.
حدد الإقتصادي (ماتياس فيرنينقو) من جامعة بوكنيل إتجاهين رئيسين لنظرية التبعية وهما: الإتجاه اللاتيني أمريكي والذي عُرف من خلال أعمال (بيربتش) و(شيلو فيرتادو) و(أنابيل بنتو) في مفوضية أمريكا اللاتينية بالأمم المتحدة، ومن خلال أعمال الماركسيين الأمريكيين التي تم تطويرها بواسطة (بول باران) و(بول سويزي) و (لأندري قوندر فرناك). وقد إستخدم الكاتب الغيني (والتر ردوني) الإتجاه الذي برز من كتاب أمريكا اللاتينية في كتابه "كيف أفقرت أوروبا أفريقيا" How Europe Underdeveloped Africa, والذي وصف في 1972 كيف أن أفريقيا تم إستغلالها بوعي بواسطة الإمبريالية الأوروبية مما أدي مباشرة إلى ما دون التنمية الحديثة في كل القارة .
عموماً تعتبر نظرية التبعية "إن حركة الموارد من دول الهامش الفقيرة أو دون النامية إلى مركز الدول الغنية، إنما تزيد من غني الأخيرة على حساب الأولي". وتعتبر أيضاً ان الدول الفقيرة تزداد فقراً بينما الدول الغنية تزداد غناً عن طريق إدماج هذه الدول الفقيرة في النظام العالمي. وقد ظهرت هذه النظرية كرد فعل لنظرية الحداثة والمقولات المبكرة لنظرية التنمية، والتي تقول أن كل المجتمعات تتقدم من خلال مراحل متشابهة من التنمية التي تشهدها الدول النامية اليوم في كثير من الحالات. عليه، فإن الغرض من مساعدة الدول التي في مستوي ما دون النامية Underdeveloped countries للخروج من دائرة الفقر، هو عن طريق تسريعهم في هذا المسار العام للتنمية من خلال وسائل مختلفة مثل الإستثمار، ونقل التكنولوجيا وإدماجهم في السوق العالمي.
نظرية التبعية ترفض هذا المنظور محتجة بأن الدول ما تحت النامية Underdeveloped countries هي ليست بالضرورة نسخة متخلفة من الدول النامية Developing countries، إنما لديها ملامح بنيات فريدة تخصها، ومن المهم أنها في حالة تكون فيها عضو ضعيف في السوق العالمي.
إن نظرية التبعية ليس لديها مؤيدون كثيرون، لكن بعض الكتاب يحجتون بها بناءاً على إستمرارية ملائمة نظرتها وتوجهاتها على تقسيم الثروة العالمي. فنظرية التبعية نظرية علاقات دولية بالأساس، تختبر العلاقات والتفاعلات بين دول الشمال والجنوب، والتي تكون فيها دول الجنوب في غالب الأحوال تعتمد على دول الشمال في التجارة والإقتصاد والإعانات. وقد شرح كلٍ من (فيوتي و كوابي 2013) نظرية التبعية بقولهم: " إن دول الجنوب الفقيرة إقتصادياً تعتبر دولاً أقل وتحت سيطرة الدول ذات الدخل العالي من العالم الأول أو دول الشمال، ومن خلال التحليل الطبقي كما نجد أن العمال يتم إستغلالهم بواسطة مالكي رأس المال (البرجوازية).
إذن، بعد هذه المداخلة عن نظرية التبعية، يقفز سؤال مشروع، عن علاقة نظرية التبعية بمقولة تفكك الدولة السودانية؟؟. يمكننا مقاربة الإجابة هنا إنطلاقاً قاعدتين أساسيتين، هما:
1. المتابعة التي أجريناها خلال هذا المقال عن طبيعة الدولة السودانية التي تكونت بعد الإستعمار Post-Colonial State، والتي وصلنا فيها إلى إستنتاج إن هذه الدولة، هي دولة مابعد إستعمارية بإمتياز بناءاً على الصيرورات الواقعية التي تخلقت عقب الحقبة الإستعمارية وإرتباطها وثيق الصلة بمراكز الإستعمار الحديث، بالإضافة إلى الدور المحوري الذي لعبته النخب الوطنية، وتحديداً النيلية منها في ذلك، من خلال هيمنتها على جهاز الدولة، وتمكّنها الإقتصادي والإجتماعي. والذي نتج عنه الفشل الذي لازم مسيرة هذه الدولة حتى أصبحت ضمن قائمة الخمسة دول الأكثر فشلاً، والآيلة للإنهيار والتفكك، حسب تقارير ودراسات المراكز ذات الصلة.
2. الكتابات والتيارات السياسية التي ظهرت مؤخراً على الساحة الداخلية، والتي تحدثت بوضوح لا لبس فيه عن ضرورة تكوين دولة محورية قوامها الإجتماعي والسياسي والثقافي هو الوسط والشمال النيلي مستندين في ذلك على تنظير السيد حمدي، والكتابات التي سبقته، والتي نوّهت إلى خطورة ما أسمته ب"الحزام الأسود" الذي يحيط بالعاصمة إحاطة السوار بالمعصم.
3. وأخيراً، الإنسحاب الكامل للدولة من الأطراف في كافة المجالات الخدمية والتنموية، وكل الذي حافظت عليه من مظاهر السيادة، هو ممارسات العنف عبر الحروبات المباشرة وبالوكالة التي تشنها الدولة على مواطنيها في هذه الأطراف.
هذه العوامل أظن ظناً قوياً أنها أدت إلى أن يفكر السيد حمدي، وربما آخرين معه في طريقة ذكية لتفكيك الدولة السودانية بأقل كلفة، وأكبر ربح تجنيه هذه النخب!!!، فهداه التفكير وهو الإقتصادي المعروف إلى نفض الغبار عن نظرية التبعية، ليفتل منها حبلاً جديداً أكثر سماكة يربط به هذه النخب المهيمنة في المركز مرة أخرى بالأطراف المختلفة معه والمتحدية لسيطرة النخب النيلية على السودان منذ إستقلاله وإلى اليوم، وذلك بشبكة علاقات جديدة، قائمة على التبعية الإقتصادية والسياسية. وقد كشف عن ذلك بوضوح تحليل الورقة وإتجاهاتها الإقتصادية السياسية. والشاهد أنه تمت تغطية الهدف الجوهري لهذه الورقة بإدعاء توظيف الإستثمار في السودان ككل، والذي لم يكن في واقع الأمر إلا مرحلة جديدة من "التمكين" لهيمنة المركز عبر التكوين الجيوسياسي الجديد الذي تقترحه الورقة (محور دنقلا، سنار كوستي + كردفان)، في مقابل إفقار متعمد للأطراف الأخري. وقد جاء هذا التفكير محمولاً على مصطلح "محورية" الدالة على الكيان الجديد الناشئ، وضروراته السياسية والإدارية والقانونية. فالمعروف، أن أي محور لا يكتسب سمته "المحورية"، ما لم يلعب دور النواة المركزية التي تدور في فلكها أجسام طرفية تابعة له. لذلك فالتصوّر النهائي المتسق مع منطق الورقة والإجراءات السياسية المصاحبة وغيرها، هو: "أن تسعى النخب الحاكمة في الخرطوم على فصل بقية الأقاليم أو إجبارها على الإنفصال كما فعلت بالجنوب للتخلص من الأعباء الإدارية والمالية الكبيرة كما فعل الإستعمار الثنائي عندما إبتدع ما عُرف بالإدارة غير المباشرة وخرج عبرها إلى منح السودان حق تقرير مصيره والإستقلال من بعده لكنه في ذات الوقت أحكم ربطه بعلاقات تبعية سياسية وإقتصادية، لعبت النخب التي أورثها الدولة، الدور المركزي فيه. وبالمقابل، لا مفر من أن تصبح هذه الأقاليم المنفصلة حتى إن نجحت هذه الأقاليم في النهوض مجرد أفلاك تدور حول دولة السودان المحوري. لأنه وحسب نظرية التبعية: "فإن الدول الفقيرة لن تزداد إلا فقراً عندما ترتبط مع الدول الغنية بعلاقات إقتصادية وتجارية. (راجع الجزئية المتعلقة بنظرية التبعية عاليه)، وهذا التصوّر قليل الكلفة من الناحية الإقتصادية بالنسبة للنخب النيلية، فما كانت تدفعه من أموال طائلة في الإدارة المباشرة للسودان، ستجنيه بأقل من من ذلك بكثير عن طريق علاقات التبادل الإقتصادي في النظام الجديد في حال إنفصال هذه الإقاليم وصيرورتها إلى دول مستقلة، وهذا جوهر ما قصده السيد حمدي بقوله: ".. أيضاً هو الجزء [يقصد الوسط الشمالي النيلي] الذى حمل السودان منذ العهد التركى/الاستعمارى/الاستقلال.. وظل يصرف عليه.. حتى فى غير وجود البترول ولهذا فأنه حتى إذا انفصل عنه الآخرون {أن لم يكن سياسياً فاقتصادياً عن طريق سحب موارد كبيرة منه} لديه إمكانية الاستمرار كدولة فاعلة". وإمكانية الإستمرارية "الفاعلية" في النص هنا، من الصعب أخذها بحسن نية حسب مسكوت النص والسياق العام، والأرجح أن هذه الفاعلية هنا المقصود بها هو دور الهيمنة الذي ستمارسه البؤرة الجديدة على أطرافها (أفلاكها) بحكم قوة أوضاعها الإقتصادية والسياسية بصورة عامة.
وإذا أجرينا مقارنة بسيطة فيما يتعلق بالموارد المادية، والبشرية التي يحظي بها هذا المحور مقابل الأطراف الأخري لكي نري الفارق الفعلي والواقعي، نستطيع فقط أن نتعرّف على أهمية نظرية التبعية في موضوعنا الذي نناقشه، فهذا المحور:
1. غني بالموارد الهيدرولوجية (يجري فيه النيلين الأزرق والأبيض، والفروع الأخري التي تغذي نهر النيل، مثل نهري الدندر وعطبرة، بالإضافة إلى وجود امتداد كبير للحوض النوبي داخله، والذي يعتبر أكبر مخزون للمياه الجوفيه في العالم).
2. تتواجد فيه بنية تحتية لمشاريع زراعية ضخمة تأسست إبان فترة الإستعمار وبعده وهي: (الجزيرة، النيل الأبيض، الفاو، النيل الأزرق، السوكي، الزراعة الآلية في القضارف)، هذا غير المشاريع والإستثمارات التي بنيت حديثاً مثل مشاريع غرب أمدرمان، والتي تم تمويلها برؤوس عريبة خليجية وتركية ولبنانية وسورية).
3. أكبر قاعدة صناعية في السودان تتواجد في هذا المحور.
4. كل محطات الطاقة تتواجد بهذا المحور بإستثناء محطة توليد خزان الرصيرص وهي: (محطة توليد خزان سنار، محطة توليد خزان مروي، المحطات المزمع إنشاؤوها في نهر ستيت، والمحطات الأخري بالعاصمة الخرطوم). وغني عن القول أن الطاقة تمثل العامل الأهم في أي عمليات تنمية.
5. كل الخزانات بهذا المحور بإستثناء خزان الرصيرص وهي( خزان سنار، خزان جبل أولياء، خزان مروي، خزان ستيت، وخزان خشم القربة، ومازال الجدل قائماً حول خزان الحماداب). كل هذه الخزانات بمقدورها توفير كميات هائلة من المياه، تكفي لري المشاريع الزراعية وتغيير البيئة المناخية، الذي بدأت ملامحه بالظهور في الولايات الشمالية.
6. الموارد المعدنية المتمثلة في الذهب، والذي حظي بإهتمام كبير، وبه مخزون ضخم.
7. بنية تحتية للخدمات تتمثل في شبكة الطرق الجاهزة وتلك التي أُنشئت حديثاً، وقد لُوحظ أن معظم هذه الطرق القارية الجديدة التي إنشئت، تتجه شمالاً لترتبط بمصر، أكثر من إتجاهها جنوباً وغرباَ وشرقاً لتربط مناطق الإنتاج في أطراف السودان ببعضها وبموانئ التصدير!!!!. وينطبق ذلك على خطوط السكك الحديدية، ففي الوقت الذي يتم فيه تحديث تلك المتجهة شمالاً، يتم تجاهل وتدمير حتى تلك الخطوط القديمة المتجهة جنوب الخرطوم، التي كانت تربط أطراف السودان بالعاصمة بدلاً عن ترميمها، وذلك عن طريق بيع قضبانها إلى مصاهر تحولها إلى حديد يستخدم في الإنشاءات السكنية والبني التحتية وغيرها التي تقوم في الوسط النيلي بنايات تشق عنان السماء.
8. أيضاً، يحظي هذه المحور بتراكم خبرات كبير وسط سكانه نتيجة لإرتفاع مستوي التعليم فيه، وتطور بنيته التحتية والمستوي الإقتصادي.
9. وأخيراًو ليس آخراً، قلة تعداد السكان في هذا المحور. فقد كان تعداد السكان في السودان قبل إنفصال جنوب السودان في 2010 هو 38 مليون نسمة، وبخروج الجنوب خرج معه الثلث، أي أن المتبقي هو حوالي 28 مليون نسمة. وعلينا إن نتخيل تعداد السكان في هذا المحور في حال إنفصال دارفور وجنوب كردفان، والنيل الأزرق، فعلي أقل تقدير سيصبح المتبقي من سكان السودان المحوري ما يساوي ثلث ماتبقي من ال 28 مليون نسمة وربما أقل، أي حوالي 9 مليون نسمة في أحسن التقديرات. وبالتالي فإن دولة المحور ستكون دولة فاحشة الغني بلا أدي شك عندما نقارن وفرة الموارد مقابل عدد السكان.
هذه الخصائص التسعة التي تتوافر في دولة السودان المحوري التي تخطط لتكوينها النخب النيلية، تفتقر بقية الإقاليم في السودان إلى معظمها إن لم يكن كلها. وغني عن القول أنها كانت السبب الرئيسي وراء قيام النزاعات والحروب الأهلية طوال فترة الحكم الوطني في السودان. وبالتالي تصبح المعادلة في غاية البساطة، وهي قيام دولة سودان محوري غني بالموارد والخبرات وتحظى بالدعم العربي الإسلامي، وإنفصال بقية الإقاليم لتكوين دولاً جديدة فقيرة ومدمرة البني التحتية، تمزقها الصراعات بين كياناتها الإجتماعية المختلفة، وهو وضع نتيجته الحتمية، إزدياد غني دولة المحور، وفقر ودمار دول الأطراف، لذلك فأي علاقات إقليمية قد تنشأ ما بين دولة المحور والدول المحيطة بها في مثل هكذا شروط، ستظل موسومة بصفة التبعية مهما فعلت هذه الدول. وهذا ليس حلاً، لأن الصراع والنزاع الذي نشب قبل التقسيم حول الثروة والسلطة والحقوق الإجتماعية في السودان، سينتقل إلى صراع ونزاع بين دولة المحور الغنية وبقية الدول الفقيرة التي تدور في فلكه. لأن علاقات التبعية المفروضة بحكم الأوضاع السياسية والإقتصادية الجديدة لهذه الدول حديثة التكوين لم تختلف عن علاقات الإضطهاد والتهميش في سابق العهد والأوان عندما كانت أقاليم داخل دولة السودان الموحدة، وكل الذي حدث هو إستمرارية هذه العلاقات المشوهة تحت أوضاع وترتيبات دستورية جديدة.
وفي ختام هذه المقالة المطولة، سنحاول تلخيص أفكارنا الأساسية حول الموضوع قدر المستطاع، قبل أن ننتقل إلى الجزء الثاني من هذه الدراسة.
إن فرضيتنا الأساسية التي ضمناها في العنوان : " تفكك الدولة السودانية: لماذا؟ كيف"؟ تحاول القول بأن مصير الدولة المركزية التي نشأت في السودان من بعد 1821، آيلة للتفكك والعودة إلى ما قبل هذا التاريخ. وكل التحليلات والإستشهادات التاريخية التي أوردناها في الصفحات الماضية كانت من جانب، بغرض البرهنة على هذه الفرضية، ومن جانب آخر، التنبيه إلى أهمية هذا الحراك السياسي/التاريخي المدمر. وليس الغرض بأي حال من الأحوال إثبات الإدانة على هذه الفئة أو تلك، لأن أوان ذلك قد فات.
صحيح إن هذه الدولة المركزية لم تقم بإختيارنا كسودانيين، ولكنها في كل الأحوال تركة إيجابية، لسوء الحظ، لم نستغلها في تقوية الدولة، بل تم إستثمارها بواسطة نخب بعينها، لتكوين بنية إستعمارية وطنية جديدة. إن الأسباب والمبررات التي سقناها إستندت على الدور المركزي الذي لعبته النخب النيلية في هذا الصدد، وذلك من خلال إسترجاع الأوضاع التاريخية التي جعلت من هذه النخب مهيمنة. فإذا كانت المحجّة الرئيسية في أن هذه النخب، غير مسئولة عن هيمنتها تلك، وإنما هي ترتيبات إستعمارية تحت خلال فترتي الحكم التركي المصري، والإستعمار الثنائي الإنجليزي المصري، فإن ذلك يكون مفهوماً في سياقه التاريخي، بالرغم من إمكانية المجادلة حول هذه المسألة. لكن الأهم هو، لماذا إستمرت هذه الهيمنة خلال فترات الحكم الوطني؟ أي لماذا لم تعمل هذه النخب على التخلص من دولة مابعد الحقبة الإستعمارية Post Colonial State وتكوين دولة وطنية حقيقة تلبي تطلعات جميع السودانيين؟؟ هذا السؤال سيظل محل جدل واسع ما بين المدافعين عن تلك الحقبة الوطنية، والتي يعتبرونها أرثهم، ومن يعتبرون هذه الحقبة إمتداداً طبيعياً للإستعمار، أي أن السودانيين إستجاورا بنخبهم الوطنية لتخلصهم من الإستعمار، فإذا بها تستعمرهم. ويستحضرني هنا نص شعري معبرّ لشاعر بولندي قاله إبان الغزو السوفيتي لبولندا:
"لقد إنتظرناك أيها الطاعون الأحمر لتنقذنا من الموت الأسود"،
والرواية هي أن الثوار البولنديين عندما شعروا بقدوم السوفيت، قامواً بالثورة على الألمان النازيين متوقعين قدوم ستالين لإنقاذهم، لكنه خيب أملهم، ولم يفعل، وعاد الألمان وأبادوا الثوار البولنديين بعد ذلك.
ومع ذلك، يبدو أن النتيجة النهائية هي أن كل تاريخ هذه الحقبة الوطنية سوف ينتهي إلى أن تعود الدولة السودانية إلى ما قبل 1821، اي التفكك، تشهد بذلك إنماط الصراعات ونتائجها المتوقعة مقارنة بتجارب حدثت في القارة الإفريقية (النموذج الصومالي). الجديد في الموضوع، هو الإشارة إلى التفكيك المتعمّد للدولة الذي ستمارسه هذه النخب، وهو ما ناقشناه في الكيفية التي سيتم بها. وقد إستندنا في ذلك، وأيضاً، على طابع الهيمنة طويلة الأمد للنخب النيلية على مفاصل الدولة الإقتصادية والسياسية والإجتماعية، وتهميشها للآخرين. هذه الهيمنة من جانب، خلقت نزوع مستمر لدي الأطراف للإستغناء عن دولة لا تعبّر عنهم، والذي بدأ مبكراً مع جنوب السودان، ومن جانب آخر، أفكاراً ورؤى للنخب النيلية في الكيفية التي تتعامل بها مع الدولة التي تديرها. والثابت أن إدارة هذه الدولة بواسطة هذه النخب، وطوال فترات الحكم الوطني، كانت معضلة بحق وحقيقة، إذ لم تتمكن هذه النخب، وعلى الإطلاق من التغلب على الحواجز الآيديولوجية في بناء الدولة أو إجراء عملية البناء الوطني Process of nation building، وأنصع مثال لذلك هو الإصرار على فرض الهوية العروبية الإسلامية، وعدم القدرة الداخلية/الذاتية على فتح الباب لإشراك الآخرين في دولة مواطنة حقيقية. وظلت هذه السمة ملازمة للدولة في بنيتها الهيكلية، والأطر القانونية والدستورية، والأوضاع الإقتصادية والإجتماعية. إن إدارة الدولة بهذه الطريقة بواسطة النخب النيلية والنزوع نحن الإستغناء عن الدولة المركزية، عاملين كانت نتيتجهما المباشرة وقوع الدولة في دوامة الفشل، والذي وصل قمته مع دولة الإسلام السياسي المسيطرة في السودان منذ 1989.
في تقديري أن هذه الأوضاع قرأها بذكاء مفكرو الإسلام السياسي، فالورقة التي قمنا بتحليل نصوصها، لا تعبّر عن ذاتها فقط، بمعني؛ أنها ليست نصاً مستقلاً كامل الإستقلال عن كاتبها، وإنما هي في واقع الأمر، إنعكاس لإرادة نخب معينة، هي نخب الإسلام السياسي على أقل تقدير. وهذا ليس محض إستنتاج، لأن السيد حمدي لم يحوّجناً حتى لمشقة ذلك، فقد ذكر نصاً في ورقته: "... والتكليف يجئ من حزب سياسى. وليس من الدولة. ولهذا يفترض أن تراعى الإجابة عليه مصلحة الحزب فى الاستفادة من الاستثمار خلال الفترة الانتقالية ليحقق له مكاسب تضمن استمرارية الحزب فى الحكم والاحتفاظ له بقسط وفير من السلطة السياسية".
وكما لاحظنا سابقاً خلال تحليلنا لهذه الورقة، مقرونة بالسياق العام والأبعاد التاريخية التي ذكرناها، لم نجد مناصاً من الوصول إلى نتيجة مفادها، أن السيد حمدي ومن أوكلوه، لم يكن يفكروا في الإستثمار فقط، وإنما كان تفكيرهم منصب حول معضلة الدولة الآيلة للسقوط وكيفية، إدارة هذه الأزمة. ولسوء الحظ، إوصلنا هذه التحليل إلى النتيجة المرعبة، وهي أن كل التصوّرات التي تحلينا إليها الإستنتاجات، تقول بإستفادة هذه النخب من فشل وإنهيار الدولة لصالح بناء جيوبولتيكي جديد، قائم على مبدأ وفلسفة التبعية التي تعيد إنتاج نفس الأوضاع القديمة في الدولة السودانية قبل الإنهيار، بصورة جديدة، أقل كلفة لهذه النخب، وتحت حماية ترتيبات دستورية وسياسية جديدةً أيضاً، فيما بعد الإنهيار والتفكك. وللأمانة، فهو تفكير إستراتيجي غاية في الذكاء الشيطاني.
وأخيراً سأكتفي بهذا الجزء، على وعد بتناول الجزء الثاني لاحقاً حول كيفية تجاوز معضلة تفكك الدولة السودانية، وهل كانت هناك جهود حقيقية بذلت في هذا الصدد، وماهي التيارات الرئيسية في هذا المضمار.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.