لم أكن لأتخيل يوماً أن يكون عمودي الأول في صحيفة "إيلاف" مثقلاً بكل هذه الأحزان؛ أحزان أكبر من قدرة قلبي الهش على احتمالها، فالسابع عشر من يناير لهذا العام لم يترك لنا فرصة تقليب رزنامة أحزاننا السنوية لرحيل مصطفى سيد أحمد فقط فقد أهدانا هذا اليوم حزنا ًغامراً برحيل فنان الشباب الأول محمود عبدالعزيز. أيام انقضت على رحيل الغمام وسكوت الرباب وتشييع آلاف المعجبين لمحمود إلى مرقده الأخير في مشهد كان الحزن حاضراً في أدق تفاصيله فلا صوت علا فوق صوت الانتحاب وغدا الحزن كائناً يمشي على أنهار من الدموع. محمود صوت الشارع العام الذي أعلن عن نفسه بوضوح في منتصف التسعينات فما زلت أذكر صوته الذي تسلل إلى أذني أول مرة وأنا أستقل حافلة مواصلات عامة في طريق عودتي من المدرسة، وثاني مرة كان ينبعث من كشك لبيع عصير الليمون بموقف الشهداء فسألت زميلة لي بعد أن التقطت جزءاً من الأغنية التي كان يرددها بتعرفي الفنان دا؟ فما كان منها إلا أن وبختني وقالت "إنتي قاعدة وين أصلك يا خ دا ما محمود عبدالعزير؟". فكانت هي المرة الأولى التي أسمع فيها اسمه وأذكر أنني كنت أحس بخليط من الشجن والطرب كلما استمعت إليه أيام الدراسة الثانوية إلا أنه بعد ولوجي أسوار الجامعة في معركة البحث عن الذات التي كنت أنشدها وفهمي غير المدرك لماهية الثقافة في ذلك الوقت حصرت نفسي في ما يسمى بثقافة الصفوة التي تفرض عليك نوعاً معيناً من القراءة ونوعاً معيناً من الاستماع.. فأسقطت سهواً أو عمداً كثيراً من التفاصيل والأشخاص القادرين على إسعادي وفي تلك الفترة لا أذكر أنني كنت أحفظ من أغاني محمود سوى "أقمار الضواحي"، ولاحقاً عندما أدركت ماهية الأشياء وكفرت بالنهج الصفوي للثقافة كان الوقت قد مضى ودهستني عجلة الحياة تحت إيقاعها السريع. الا أن زيارة قمت بها إلى جوبا قبل أن تصبح عاصمة جنوب السودان هي التي أرجعتني مرة أخرى إلى مراجعة نفسي في الاستماع إلى غناء محمود، فصوت محمود كان ينبعث من زوايا المدينة وهو يردد (مدينة جوبا أجمل مدينة).. فأيقنت أن أغنية خفيفة تبدو في ظاهرها أنها من أجل الرقص فقط، يمكن أن تكون جسراً لتجاسر الجنوب باتجاه الشمال. وبعد عودتي كانت رحلة البحث عن محمود فتوقف مؤشر بحثي كثيراً عند محطة محمود الإنسان قبل الفنان ...الرمز.. قبل الشخص.. الوحدة قبل الانفصال.. فتحسرت على السنوات التي أضعتها وأنا لا أستمع إليه.!! غيّب الموت محمود جسدياً إلا أنه لا يستطيع أن يغيبه كصوت، فالموت في حضرة الفنانين والمبدعين يقف عاجزاً على الرغم من كل السطوة التي يتمتع بها، فمحمود بكل الحصيلة الغنائية التي خلفها من بعده وكل الحب الذي يتمتع به في قلوب معجبيه ومحبيه أصاب الموت في مقتل وأكد مقولة هزمتك يا موت الفنون جميعها.. وبما أن الموت لا يوجع الأموات بل يوجع الأحياء فقط فنم قرير العين محمود ما يغشاك شر، ودع لنا حق البكاء فنحن شعب ممنوع من الفرحة، من حقنا أن نبكي رحيلك بحرية.