يفخر الناس بالإنجازات الإيجابية التي يحرزها بنوهم، ويتمنون أن يتفوقوا عليهم في كل ناحية من نواحي الخير. وأن يقوموا بمهمة التعويض، فيينجزون بعض ما كان يطمح آباؤهم في إنجازه، وحالت بينهم وبينه صروف الزمان. وما من أب رأيناه يفخر بفساد ابنه أو ابنته، أو فشله أو فشلها، أو تطوحه أو تطوحها في دروب الشر النُّكر. ولكنا ها قد تراخى بنا العمر حتى رأينا أبا سودانيا من آباء آخر الدهر، يفخر بشطح ابنته في التيه والضلال الذي ما بعده ضلال، وانغماسها في الكفر المبين الذي ما بعده كفر. وإذا كان سيدنا لقمان الحكيم، وهو سوداني صميم، ودنقلاي قديم، قد قال لابنه وهو يعظه: (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، فإن هذا السوداني اللئيم الذي كان شيوعيا، ثم أصبح جمهوريا، والذي يدعى الدكتور محمد أحمد محمود، قد قال لابنته، وهو يثني عليها، وعلى الظلم العظيم يَحُضها: يا لشجاعتك وجرأتك يا بنتاه وأنت تعلنين إلحادك وتنفين وجود إله للكون! ولو قال لها: يا لفداحة جرأتك على إلهك أي بنية لأصاب! ولكنه كشف عن إلحاده هو الآخر، عندما زكى مسلك ابنته الطائشة، وأضفى عليها مدحا ليس بمستطاب، فقال إنها:« كانت محظوظة إذ دخلت كلية العلوم، بجامعة الخرطوم، وتخصصت في علم الأحياء، الذي فتح لها باب الشك والرفض على مصراعيه، كما أخبرتني، عندما درست نظرية التطور. فتحت نظرية التطور - وهي أساس علم الأحياء المعاصر في تفسير سيرورة الحياة منذ بدايتها - عينيها على زيف الوعي، الذي ظلت تتغذي به منذ طفولتها، ووضع دارون في يديها أدوات تحرير وعيها، وأخرجها من منطقة عالم الأسطورة لمنطقة العقل والعلم ». ومعنى هذا أن الملحد دارون أقنعها بنظرية التطور، وهداها إلى الحق، فكفرت بالمعارف الدينية الزائفة التي تتحدث عن الإله الخالق. ومعنى قوله إنه بحسبانه والدها البيولوجي أو الروحي أو الفكري، كان مع جمع آخر من الناس يعلمونها باطلا من القول وزورا، خلاصته أنه يوجد إله لهذا الكون! ولم يخبرنا الدكتور متى اهتدى هو - أو بالأحرى متى ضل وصبأ!- وانتمى إلى ملة الملحدين التي تشتق حجتها في الإلحاد من المبدأ الدارويني؟! ولم يخبرنا الدكتور من اهتدى أو ضل وصبأ أولا هل هو أم ابنته التي دعيت نهلة؟! هذا مع العلم بأن المبدأ الدارويني الذي تذرع وتذرعت به لا يدعم دعواهما في الإلحاد ضربة لازب. فمن العلماء من يستشهد ببعض مقولات نظرية دارون (نظرية النشوء والارتقاء) لدعم الإيمان وتأكيد قضية الخلق كما قال بها الدين. وهي المقولات التي عبر بها دارون عن مشاهدات العلماء المطردة لظاهرة اتساق الخلق. ونها قوله:« الاستنتاج الأساسي الذي تم التوصل إليه هنا، والمعتنق حاليا عن طريق الكثير من علماء التاريخ الطبيعي، الذين كانوا على درجة كبيرة من الكفاية لأن يكونوا حكما صحيحا، هو أن الإنسان تم انحداره عن شكل حي ما، أقل ارتفاعا في التعْضِية (less highly organized). والأسس التي يرتكز عليها هذا الاستنتاج، غير قابلة للزعزعة على الإطلاق، وذلك لأن التشابه الحميم الموجود بين الإنسان والحيوانات المتدنية في التكوين الجنيني، علاوة على الموجود في نقاط لا حصر لها من التركيب والبنية، سواء لها أهمية عالية أو في منتهى التفاهة، مثل البقايا الأثرية غير المكتملة التي يحتفظ بها، والارتدادات غير العادية التي يكون معرضا لها أحيانا، تمثل حقائق لا يمكن إنكارها. وقد كانت معروفة منذ وقت طويل، ولكن إلى عهد قريب لم تدلنا على أي شيئ، بل بالنسبة للنشأة الخاصة بالإنسان. وعندما يتم النظر إليها الآن، على ضوء معرفتنا الخاصة بالعالم المُتعَضِّي بأجمعه، فإن معناها لا يمكن الخطأ فيه. والمبدأ العظيم الخاص بالتطور، يقف واضحا وراسخا، عندما يتم التأمل في تلك المجموعات والحقائق بالترابط مع الأخرى، مثل التشابهات المتبادلة الخاصة بنفس المجموعة وتوزيعهم الجغرافي، في الأزمان الماضية والحاضرة، وتعاقبهم الجيولوجي. والشيئ غير القابل للتصديق هو أن جميع تلك الحقائق من شأنها أن تحدث بشكل زائف«. (راجع: تشارلس دارون، نشأة الإنسان والانتقاء الجنسي، ترجمة مجدي محمود المليجي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005م، المجلد الثالث، ص 216-217) إن ظاهرة التناسق في الخلق والتشابه فيه أحرى أن تقود إلى الإيمان بوجود خالق وحيد للكائنات، إذ لا نرى في خلق الرحمن من تفاوت! ولقد عجبت في مقال قديم لي، نشر في أوخر ثمانينيات القرن الماضي، من تبني هذا الدكتور لنظرية دارون، ودفاعه المستميت عنها، ورفضه أي تشكيك فيها، ولو جاء من قبل العلماء الطبيعيين الراسخين، الذين لهم الحق، كل الحق، أن يدلوا بقولهم في هذا المجال. وهنالك قلت: إن بضاعة الدكتورمحمد أحمد محمود، التي احتطبها من الغربيين، قائمة كلها على التشكيك في أصول الدين وفروعه. ولكنه مع ممارسته الشك كمبدأ منهجي بحثي علمي، إلا أنه لا يشك أبدا في نظرية قديمة، هي نظرية دارون، وهي النظرية التي غدا يتشكك في صحتها كثير من علماء الغرب، من المتخصصين في علوم الأحياء بالذات. أما هذا الدكتور الذي نال إجازته العلمية في الآداب، لا في العلوم الطبيعية، فإنك تجده في هذا المجال الذي ليس هو مجاله، ملكيا أكثر من المليك. ولقد عجبت لشأنه أي عجب عندما تصدى، وهو أديب، لدحض رأي طبيب، هو البروفسورعبد العال عبد الله، الذي قام لنقد نظرية دارون مقاما كان له دوي. ثم نقل الدكتور محمود تخصصه من الآداب إلى علم مقارنة الأديان، وأصدر قبل أشهر كتابا يدعو فيه دعوة صريحة وحارة إلى الإلحاد. وهو الكتاب الذي بدأت الاطلاع عليه قبل يومين، وسيرى ردنا الشامل عليه عن قريب إن شاء الله. الإنتباهة