«الأستاذ فتحي خليل النقيب السابق للمحامين السودانيين والوالي الحالي للشمالية يعد أحد أبرز القيادات القانونية والملتزمة سياسيًا وأسلاميًا، كما أنه أحد الذين خاضوا معركة السودان ضد المحكمة الجنائية الدولية ولعب دورًا كبيرًا في تسويق الموقف والحجة السودانية على المستوى الدولي كما يعد فتحي أحد «البدريين» الذين ناصروا وساندوا المشروع الإسلامي في السودان وتصدوا لكل الخصوم الذين حاولوا إجهاضه أو تعطيله .. ولأن البلاد أو بالأحرى الدولة السودانية الأم انعتقت عبر شرعية الاستفتاء من الجنوب السوداني الذي اعتبر في الفقه السياسي السوداني أحد أهم مُقعدات دولة الشمال كان لابد من قراءة مآلات ذلك ومحاولة توصيف ماجرى وما قد يجري في المشهد السياسي السوداني.. «الإنتباهة» التقت «خليل» داخل طائرة الخطوط الجوية السودانية التي أقلت وفدًا رسميًا إلى حاضرة الولاية الشمالية «دنقلا» لافتتاح إحدى محطات «سودانير» هناك ولأن هذه لم يكن مرتبًا لها فإنها طرحت بعض أشتات من قضايا وتداعيات...» بداية.. ما هو التحرك المطلوب لتكييف الأوضاع الدستورية والقانونية بين الشمال والجنوب في مرحلة ما بعد الانفصال؟ حقيقة بعد إعلان نتيجة الاستفتاء والتي أقرت انفصال الجنوب فإن كل البنود والفصول والأبواب المتعلقة بالجنوب والجنوبيين وحقوقهم الواردة في الاستفتاء تعتبر ملغاة وهذا الدستور نفسه يعتبر ساري المفعول إلى حين وضع دستور آخر ودائم ويجب أن يفهم الجميع أن هذا الدستور الدائم ليس مرتبطًا بالفترة الانتقالية التي تستمر حتى الثامن من يوليو 2011م، ومعلوم أن هذه الفترة معنية بتوفيق الأوضاع بين الشمال والجنوب والدستور يتحدث عن أنه إذا كان النائب الأول لرئيس الجمهورية من الجنوب عند إعلان الانفصال فإنه يعتبر مستقيلاً «تلقائيًا» وهذا يعني أن كل التمثيل الجنوبي في الحكومة يعتبر ملغيًا. وهل تعتقد أن الجنوبيين داخل مؤسسات الدولة كانوا على إدراك واستعداد لاستيعاب هذه الحقيقة؟ حكومة الجنوب كان يجب عليها أن تكون مهيأة وترتب أوضاعها لاستقبال كل الجنوبيين خارج الإقليم الجنوبي بما في ذلك الجنوبيون في الشمال وفي بلاد المهجر بأن تعمل على إصدار جنسية خاصة بهم وتوظيفهم في مؤسساتها كدولة قائمة بذاتها وتمنحهم هُويتهم الجنوبية إذن كيف تنظر لخيار استمرار الجنوبيين في وظائفهم بالشمال حتى انقضاء أجل الفترة الانتقالية؟ أعتقد أن هناك من يرى أن المعالجة السياسية للمسائل المعلقة تقتضي استمرار الجنوبيين في مواقعهم كعلاج سياسي. هناك من يرى أن هُوية السودان قد حُسمت مع الانفصال خصوصًا من النواحي الدينية والعرقية والثقافية؟ إن كنا نتحدث عن هُوية بين شمالي وجنوبي هذا صحيح، أما إن كنت تقصد الهُوية بين عنصر وعنصر هذا غير صحيح لأنه ما زالت هناك عناصر عربية في الجنوب وعناصر أخرى من غير العرب وغير المسلمين موجودون في الشمال، ولذلك لا يمكن أن تُحسم الهُوية بهذه الطريقة «الميكانيكية» ولكنها تحسم في إطار الشمالي والجنوبي. ألا تعتقد أننا في حاجة إلى تشريع قانوني جديد يحكم العلاقة بين الشمال والجنوب ويضع لها فواصل محكمة؟ هذا صحيح، ولكن يجب أولاً التفريق بين الإقامة والحقوق المكتسبة بموجب المواطنة ويجب أن نكون دقيقين في هذا التوصيف لأن المواطن من واجباته الأساسية الولاء للوطن والدفاع عنه ولذلك مسألة الجنسية المزدوجة غير واردة لأنها لا تتوافق مع مبدأ السيادة والوطنية، وأعتقد أن كل ما أُثير عن الجنسية المزدوجة حديث سياسي لا قانوني، وهذا ما حسمته الحكومة في مبرراتها لرفض الجنسية المزدوجة، ويبدو أن الحركة الشعبية قصدت تضليل الجنوبيين بدعوتها إياهم إلى التصويت للانفصال مع الاحتفاظ بحقوقهم كاملة في الشمال بما في ذلك الجنسية المزدوجة. وماهو مصير الجنوبي الذي وُلد في الشمال وأصبح ولاؤه أكبر للشمال منه للجنوب؟ مثل هذه الحالات يمكن النظر فيها بمنح الجنسية المزدوجة «حالة بحالة وليس مجموعات». كيف تقرأ مآلات وتوقعات ما بعد الانفصال على الواقع التاريخي للتعايش بين قبائل التمازج؟ يجب أن تنتفي حالة العداء في العلاقات بين الشمال والجنوب، وفي ظني أن العلاقات بين قبائل التمازج أزلية والتر كيز على ما يصلح الطرفين، ومسوؤلية القيادات في البلدين وفي الجنوب تحديدًا الحفاظ على هذه العلاقات وعدم العودة للحرب مجددًا. وهل تعتقد أن ما تبقى من المرحلة الانتقالية كافٍ لحسم كل ما تبقى من إشكالات بين الشمال والجنوب؟ أعتقد أن الفترة كافية... صحيح أنه طوال فترة الانتقال كانت هناك حالة تشاكس خاصة من جانب الحركة وهي التي كانت تعمل من الداخل لإسقاط الحكومة، وكثير من الوقت ضاع في التشاكس، فالجنوب أكثر حاجة للشمال. أستاذ فتحي.. كيف تقيِّم ردة فعل المعارضة حيال دعوة رئيس الجمهورية لحكومة القاعدة العريضة؟ مواقف المعارضة بالنسبة لنا معروفة منذ مجيء الإنقاذ وكان هدفها الإستراتيجي ولا يزال إسقاط الحكومة بالقوة سواء من الداخل أو الخارج، ولذلك ماتطرحه المعارضة الآن ليس جديدًا والشعب السوداني أدرك ذلك بوعي تام وبالتالي هو الذي يقرربشأن الحكومة القائمة، وفي ظني أن الانتخابات الأخيرة كشفت أوزان وأحجام الأحزاب بشكل واضح، ولهذا فالمطلوب من القوى السياسية الإسراع من أجل خطوات توحيد الصف والحرص على المصالح العليا للبلد، وأقول إنه ينبغي أن تُشرك كل القوى السياسية في وضع الدستور القادم ولهذا فإن أي حديث عن المؤتمر الدستوري يمكن معالجته في إطار لجنة للدستور الدائم، أما بخصوص دعوة الحكومة العريضة فإن السيد رئيس الجمهورية أعلن استعداده لذلك، وهذا الطرح قابل للحوار والنقاش مع كافة القوى السياسية للنظر في الحكومة العريضة، والآن الحوار يجري في هذا الإطار. وهل المعارضة مستعدة للاستجابة لهذه الدعوة؟ المعارضة الآن منقسمة على نفسها وداخل كياناتها الخاصة ولكن المهم أن تشرك الحكومة كل الراغبين في المشاركة ولن تُرغم الحكومة الذين يشتمّون رائحة تونس أو مصر، ويبدو أن المعارضة لديها قراءة خاطئة للخارطة السياسية ولطبيعة القوى الاجتماعية الجديدة ولكنها ظلت تراهن على أوهام، وفي اعتقادي أن هناك متغيرات كبيرة في المجتمع السوداني ينبغي إدراكها وقراءتها بشكل صحيح. ألا تعتقد أن الجنائية ما زالت تشكِّل أحد اهتمامات المراهنين على سقوط الحكومة؟ حقيقة أن الشعب السوداني «قبر» قرارات كبيرة لمجلس الأمن وسوف نسقط أيضًا قرار المحكمة الجنائية الدولية ونقيم لها قبرًا كبيرًا في السودان لكن الواضح أن هناك من لازالون في أوهام الجنائية، وحتى الدول الكبرى التي كانت تقود هذه الجنائية مثل أمريكا وفرنسا وبريطانية بدأت في تغيير مواقفها إزاء المحكمة الجنائية. وما هي مظاهر هذا التغيير بنظرك؟ المواقف والحوارات والمتغيرات واضحة وملموسة على المستوى الدولي وحتى الاتحاد الإفريقي أصبح أكثر صلابة في صف السودان، وما حدث في أديس أبابا مؤخرًا خير شاهد على ذلك. وما الذي دفع بهذه التحولات والتغييرات في المواقف الدولية والإقليمية بشأن الجنائية وما هي توقعاتك لمآلات هذا الملف؟ أتوقع في أي لحظة أن تتراجع المحكمة الجنائية عن مواقفها ضد السيد رئيس الجمهورية، وحتى أوكامبو نفسه أصبح لا يتحدث كثيرًا عن هذه القضية، بل إن الحكومة البريطانية في آخر مواقفها طالبت باتخاذ إجراءات ضد اوكامبو نفسه باعتباره نشر معلومات كاذبة عن رئيس الجمهورية حول امتلاكه لأموال بالبنوك البريطانية، ولذلك بعض الجهات داخل بريطانية تطالب بفتح بلاغ واتخاذ إجراءات قانونية ضد أوكامبو لأنه أساء لسمعة البنوك البريطانية، ومعلوم أن بريطانية تعتبر الدولة الثانية في قضية المحكمة الجنائية ضد السودان بالإضافة إلى ذلك فإن أمريكا لها مواقف جديدة ضد السودان. إذن هناك تأثيرات أو تحولات جديدة على صعيد علاقات السودان مع الغرب عبر بوابة الجنائية؟ واضح أن الدول الغربية تتجه الآن نحو مواقف أمريكا التي بدأت في حوار مع السودان خاصة بعد أن أقرت واشنطون بأن الحكومة السودانية لعبت أدوارًا إيجابية في عملية الاستفتاء، والآن تتجه المواقف السودانية الأمريكية نحو التطبيع، وفي تقديري إذا ما تمت هذه العملية فإنها سوف تؤثر بشكل كبير على مواقف دول كبيرة. إلى أي مدى يمكن أن تتأثر الدولة السودانية «الأم» بالوضع الدولي والقانوني للدولة الوليدة في الجنوب؟ الدولة الجديدة في الجنوب لا يمكن أن تؤثر على دولة الشمال بسبب ما ينشأ من علاقات بين المجتمع الدولي والدولة الجديدة في الجنوب وأعتقد أن السودان يجب عليه المساهمة في قيام دولة الجنوب طالما أن هذه الدولة أصبحت رغبة الجنوبيين فهي تحتاج إلى الخبرات في كل المجالات ودبلوماسية وعلاقات مع الدول الأخرى. ولكن الحكومة السودانية يبدو أنها متخوفة من حالة الانفتاح الكبير التي يمارسها المجتمع الغربي تحديدًا تجاه دولة الجنوب الوليدة؟ لا أبدًا، ليس هناك تخوف لكني على قناعة بأن علاقات السودان الخارجية مقبلة على انفتاح كبير رغم أن هذه الدول ظلت تضيِّق الخناق على السودان وتحاول عزله بل إن صندوق النقد الدولي وصل إلى مرحلة محاولة طرد السودان من عضوية الصندوق، ولكن السودان استطاع أن يرتب نفسه طيلة هذه الفترة ولذلك السودان خرج من أخطر مرحلة في تاريخه، وأمريكا عندما تتحدث بأنها دعمت السودان فهي تقصد دولة جنوب السودان وليس الدولة الأم. وكيف يمكن للسودان إعادة ترميم ما خرّبته المحكمة الجنائية؟ السودان في المرحلة القادمة ليس في حاجة لصياغة الخطاب السياسي فقط، وإنما لإعادة صياغة الدولة نفسها في ظل المتغيرات الجديدة. نقلاً عن صحيفة الانتباهة 13/2/2011م