عندما قام الدكتور خليل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة بمغامرته العسكرية المذهلة التي قاد فيها جيشاً من الصبية وصغار السن قليلي التجربة من أقصى حدود البلاد الغربية إلى قلب العاصمة مخترقاً آلاف الأميال كمن يلبس طاقية الإخفاء«، حتى أصبح على مشارف القصر الجمهوري، كتبْتُ في هذا الباب أقول بأن هذا التحرك الذي يعتبر بحق إنجازاً عسكرياً تاريخياً برغم ما حصل عليه من عون لوجستي واستخباراتي ومعلوماتي أجنبي، يستحق معه أن يصبح مادةً أساسية تدرَّس في كل مناهج الدراسة في الأكاديميات العسكرية في كل العالم. ومع ذلك وبرغم الدماء البريئة التي أريقت، وبرغم ما أثارته في السودان من حيرة وقلق، سيعودان إلى طاول البحث والتقصِّي طال الزمن أو قصر، فقد كان تحركاً عبثياً طائشاً محكوماً عليه بالفشل حتى لو حققت الغزوة هدفها في الوصول إلى القصر الجمهوري والاستيلاء على مبنى البرلمان وكافة مكاتب الأجهزة العسكرية والتنفيذية في الدولة. ستخمد في حينها ويطويها النسيان، أو تتحول إلي حرب قبلية أهلية شبيهة بالذي يحدث في الصومال. ذلك لأن حركة الدكتور خليل كانت وتظل محصورة في إطار ضيق محدود ينطلق من أفق قبلي وجهوي معروف مهما حاول قادته توسيع دائرته بإدخال عناصر فردية هائمة على وجهها لا تغير من الصورة شيئاً، وأية محاولة كهذه للسيطرة على السودان كله، جاءت من الغرب أو الشرق أو الوسط أو الشمال أو الجنوب مصيرها الفشل. والفكرة التي ظل يكررها البعض بأن أية حركة يقوم بها أهل الشمال والوسط تكتسب صفة القومية بينما توصف أية حركة يقوم بها أهل الهامش بأنها عنصرية فكرة خاطئة ومضللة. فكل الحركات التي انبثقت من المركز لم تكن فيها شبهة عنصرية أو يمكن نسبتها إلى قبيلة أو جهة بعينها. كانت كلها - الناجح منها والفاشل- تنبثق من جيش قومي يمثل كل أطياف المجتمع وجهاته وقبائله. لم يخرج إبراهيم عبود أو جعفر نميري أو سوار الدهب من رحم حركةٍ جهوية أو قبلية. ولم يدّع أحدهم تمثيل جهة محددة. فالتحرك القبلي أو الجهوي بأي مبرر يؤدي إلى تحركٍ قبلي مضاد. وللتحركات القبلية عدة رؤوس إذا ارتفع أحدها ارتفعت الأخرى مما ينتج عنه بالضرورة صراعات قبلية تنتهي إلى ما انتهت إليه الصومال. صحيح أن هنالك توتراً يسود العالم العربي كله، وغضباً مكبوتاً يوشك أن ينفجر، وتجربتين ثوريتين ناجحتين تغريان بالتكرار والتقليد. وفي السودان أخشاب كثيرة ملقاة على قارعة الطريق، وأعواد ثقاب في أيدٍ كثيرة خارجة عن سيطرة العقل والتروي، وهناك عاطلون وجائعون وحاقدون ومغبونون يتحينون الفرصة للنهب والحرق والتدمير، وذئاب ذات عيون زرق تحوم خارج السور تحمل الإغراءات ويتجمع حولها الذباب. وصحيح أيضاً أن السودانيين قوم ضجرون لا يطيقون أن يحكمهم فرد أو جماعة لأكثر من عام ونصف عام، حتى لو ملك حكم سليمان وعدل ابن الخطاب. وصحيح أن هنالك ثقوباً لا ينشط المسئولون لرتقها خوفاً أن يؤدي الرتق إلى لفت الأنظار إليها. وقد تنطلق شرارة غير مقصودة تؤدي إلى حريق هائل جبار. وكل ذلك قد يغري الحركة الشعبية بصرف جهدها عن حماية دولتها التي تتأرجح فوق الصخور لتجمع ما تراه حصاداً سائباً وافراً في الشمال عن طريق نكرات لا يعرفون النبات من الألغام، وبمعاونة قوى أجنبية أجسادها أضخم من عقولها، فتشعل بدل الثورة ناراً ستكون ودولتها الوليدة المتعثرة أول من يحترق بها. والثورة الحقيقية التي قادها الشباب الشرفاء في مصر وتونس وليبيا لا تشعلها الضغائن والخيانة والعمالة لأعداء الوطن. نقلاً عن صحيفة الرأي العام السودانية 6/3/2011م