بعد الموقف الواضح الذي اتخذته الولاياتالمتحدة الأميركية تجاه ما يجري في ليبيا، صار لدينا أكثر من حالة يمكن من خلالها تحليل مواقف إدارة أوباما تجاه قضية الديمقراطية في عالمنا العربي، والوقوف على طبيعة المعايير التي تستخدمها لاتخاذ مواقفها. فخلال الفترة القصيرة الماضية وقعت مظاهرات في عدة دول في منطقتنا، كانت كلها ذات مطالب تتعلق بالحريات والديمقراطية، لكن الموقف الأميركي اختلف من حالة لأخرى اختلافات كبيرة. فالموقف الأميركي تجاه ما حدث في مصر يختلف كثيرا عن الموقف من المظاهرات الإيرانية، والموقف إزاء ما يجري في ليبيا اختلف تماما عن الموقف الذي اتخذته إدارة أوباما إزاء المظاهرات التي خرجت في الأردن أو البحرين. ومن يتابع بدقة التطورات اليومية للموقف الأميركي بالنسبة لكل حالة، يجد نفسه أمام الكثير من العلامات المهمة التي تساعد على رصد المعايير الحاكمة. أولى هذه المعايير، في ظني، هي طبيعة علاقة الولاياتالمتحدة بالنظام السياسي الذي يواجه الاحتجاجات الشعبية. فلو كان ذلك النظام السياسي خصما للولايات المتحدة، يكون الموقف بالغ السهولة. ففي تلك الحالة، لن تخسر الولاياتالمتحدة شيئا على الإطلاق، إذا ما تحدثت بطلاقة عن دعمها الكامل للديمقراطية والحرية ووقوفها ضد القمع «الذي يمارسه النظام». أما إذا كان النظام حليفا لأميركا، فإن الموقف يختلف جذريا. بل إن موقف الإدارة إزاء النظم الحليفة يختلف من حالة لأخرى وفق معايير مختلفة، منها حجم الخدمات التي يقدمها ذلك الحليف للقوة العظمى، ومدى قدرته على البقاء وسحق المحتجين دون فضائح كبرى. فضلا عن مدى التوافق في الداخل الأميركي حول الموقف مما يجري. بعبارة أخرى؛ فإن الحالة الأسهل على الإطلاق بالنسبة لأميركا، هي حالة الخصوم. انظر مثلا للموقف الأميركي إزاء المظاهرات الإيرانية، فقد اتخذت أميركا مواقف بالغة الوضوح. فأوباما وجه بنفسه اتهامات مباشرة للحكومة الإيرانية بقمع المتظاهرين، وراحت وزارة الخارجية تسرد علنا عن الأشكال المختلفة «غير المقبولة» التي استخدمها النظام الإيراني ضدهم. ثم وجه أوباما والكثير من المسؤولين الأميركيين كلامهم مباشرة إلى المتظاهرين الإيرانيين، في صياغات واضحة تتحدث عن دعمهم وتشجيعهم على «امتلاك الشجاعة للتعبير عما يتوقون إليه من حرية وما يصبون إليه من حكومة تعبر عنهم». ويقترب من ذلك الموقف كثيرا الموقف من ليبيا، فالعلاقة الأميركية الليبية، رغم تحسنها، لا يمكن وصفها بأنها علاقة شراكة أو تحالف وثيق. ومن ثم، كان من السهل على الإدارة، خصوصا في ظل وجود وفاق داخلي أميركي، التخلي مباشرة عن نظام العقيد القذافي متى اتضح لها أنه غير قادر على البقاء، وأن سحقه للثوار يمثل فضيحة كبرى لأميركا إذا هي اتخذت موقفا آخر غير الوقوف ضده بقوة. أما في حالة الحلفاء، فإن الأمر جد مختلف. فالولاياتالمتحدة تفضل بقاء حلفائها في الحكم، بغض النظر عن طبيعة نظمهم السياسية، بشرط أن تكون لديهم القدرة على البقاء دون فضائح كبرى تهز الدنيا. أما إذا صار البقاء غير مؤكد أو بات مكلفا لأميركا، فإنها تتخلى عنهم. ومن هنا، كان الاختلاف الواضح بين الموقف الأميركي مما جرى في البحرين والأردن من ناحية، وما جرى في مصر من ناحية أخرى. ففي حالة البحرين والأردن كانت الأوضاع تسمح للإدارة الأميركية بأن تثني على جهود النظامين في احتواء التظاهرات. فأميركا تفضل بقاء النظامين ولا تسعى للمخاطرة بخسارتهما. والأمر نفسه كان ينطبق بالمناسبة على الحالة المصرية، حتى أيام قليلة قبل تنحي مبارك. والحقيقة أن دراسة تطور الموقف الأميركي من الحالة المصرية، يعتبر كاشفا إلى درجة كبيرة. فعلى عكس الحالة الإيرانية التي وجهت فيها أميركا اتهامات وإدانات صريحة للنظام، وتحدثت مباشرة إلى المتظاهرين وعبرت بوضوح عن دعمها لهم، فإن الموقف في الأيام الأولى للثورة المصرية، كان شبيها بالموقف الأميركي تجاه الأوضاع في البحرين والأردن. ثم حدث تحول طفيف مع تطور الأحداث، إذ صارت أميركا تتحدث عن دعمها «للحقوق المعترف بها عالميا للإنسان» بما في ذلك المصريون، ثم جاءت المرحلة الثالثة التي طالبت فيها الإدارة النظام المصري باتخاذ بعض «الإجراءات». لكن الجدير بالقول هو أن الإدارة الأميركية منذ اندلاع الثورة المصرية وحتى سقوط نظام مبارك، لم تتحدث ولو مرة واحدة إلى الثوار كما فعلت في إيران، ولم تعلن في أية لحظة دعما صريحا لهم. بل على العكس، ظلت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية، طوال أيام الثورة تثني في كل مناسبة على «الشراكة مع مصر التي أدت للالتزام بالسلام مع إسرائيل». وبينما كانت الثورة تطالب «بتغيير» النظام، كانت الإدارة الأميركية بكل رموزها تتحدث عن «إصلاحات» يقوم بها نظام مبارك، و«حوار وطني واسع» تجريه «حكومته» مع كل التيارات، بينما لم تظهر كلمة «تغيير» في لغة الخطاب الأميركي، إلا في أول تصريح تدلي به هيلاري كلينتون بعد سقوط مبارك! ولعل التصريح الذي أدلت به هيلاري عشية اندلاع الثورة المصرية، هو أفضل شرح للموقف الأميركي من الحلفاء. فعند بدء الثورة قالت الوزيرة الأميركية إن «النظام المصري مستقر ويسعى للاستجابة للمطالب». والتصريح كما هو واضح تماما، لم يكن يعبر عن واقع ولا معلومات، وإنما كان في الحقيقة تعبيرا عن «أمنيات» أميركا. فأميركا تتمنى من حلفائها أن تكون أنظمتهم الحليفة مستقرة، وأن يسعوا «للاستجابة» للمطالب، لئلا يصبحوا في وضع لا يحسدون عليه فيحرجونها. المصدر: البيان 9/3/2011