تواجه الولاياتالمتحدة اليوم اختباراً يتعين عليها فيه أن تجد صيغة لسياستها الخارجية في الوطن العربي توفق فيها بين مصالحها الحيوية والاستراتيجية، التي كانت تعتمد في ضمانها على دعم أنظمة غير تابعة لها، وبين قيمها الديمقراطية التي تسوّقها لفظيا فقط كأداة ضغط تهدد بها الأنظمة الحليفة لها في الوطن العربي، لابتزاز المزيد من الانصياع... وقد أكد رئيس موظفي البيت الأبيض وليام دالي في مقابلة مع بلومبيرغ أن الشرق الأوسط قد لا يعود أبدا ولهذا السبب فإن أمريكا تخطط لسلسلة كاملة من السيناريوهات تضمن ألا تكون أي حكومة جديدة معادية عداء كاملا لأمريكا ولا معادية عداوة صريحة لإسرائيل، كما أكد ذلك ستيفن م.والت الأستاذ بجامعة هارفارد الأميركية بأن السياسة الأميركية الجديدة تنطبق على أي تغيير سياسي في الدول العربية الحليفة والصديقة لأمريكا. وقد لاحظت الولاياتالمتحدة من خلال تقارير مخابراتها ودبلوماسييها الموجودين في سفاراتها في أنحاء العالم بأنه حتى لو أنها حاولت حماية أصدقائها في بعض الدول العربية من خلال تقديم الدعم السياسي والمادي والمعنوي، فإن هناك استحالة في إخماد الثورات الشعبية التي اشتعلت في بعض الدول العربية فكانت هناك ثورة الياسمين في تونس وسقوط نظام الرئيس المصري مبارك, فضلاً عن احتجاجات الجزائر واليمن وليبيا والبحرين وغيرها، إضافة إلى ذلك فإن التصريحات الأخيرة لإدارة أوباما تشير إلى أن واشنطن ومن خلال تبنيها لمصالحها الخاصة فإنها لا تنوي اتخاذ أي إجراءات فعالة لتقديم مساعدات إقليمية لقادة المنطقة من أصدقائها الراغبين بالسعي للبقاء في السلطة, حتى لا تتم إثارة قوى المعارضة الساعية لقلب الأنظمة الحليفة لأمريكا ضدها. ويعتقد المحللون أن مثل هذا الموقف للبيت الأبيض يمكن توضيحه من خلال العوامل التالية : 1- يعكس بوضوح رغبة واشنطن في تعزيز نفوذها في المنطقة، من خلال قيام ممثليها بزيارات متكررة للمنطقة بهدف السعي إلى إقامة اتصالات مع قادة المعارضة المختلفة من أجل الحصول منهم على ضمانات لمصالح الولاياتالمتحدة الاستراتيجية تحت أي احتمال من احتمالات تطور الأحداث. 2- ضبط نفس الولاياتالمتحدة أعقاب الإطاحة بنظام الرئيس بن علي في تونس تسبب في إثارة الشارع العربي للاحتجاج في بلدان أخرى نظراً لرغبة البيت الأبيض في إضعاف دور الأوروبيين عموماً, والفرنسيين خصوصاً في المنطقة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط. وفي الوقت الحالي يجري تنفيذ مرحلة جديدة من الخطة الأميركية، والميزة الرئيسة لهذه المرحلة هو رفض إدارة أوباما استخدام التدخل السافر لمصلحة الأنظمة الحاكمة في تلك الدول ضد المعارضة وقيام أمريكا بدعم مشاعر الاحتجاج بين سكان تلك الدول بهدف حث السلطات على القيام بإجراءات إصلاحية تخدم المخططات الأميركية وفي حالة التمرد القيام باستبدال حلفائها من القادة الحاليين بقادة أكثر طاعة واستجابة للسياسة الأميركية. ويميل أغلبية علماء السياسة إلى الاعتقاد بأن مثل هذا الموقف الأميركي تجاه الأحداث التي جرت في تونس ومصر، وكذلك تزايد الاحتجاجات في الجزائر واليمن تريد أميركا من ورائه أن تثبت لجميع الأفراد الموجودين في السلطة عدم استقرار وضعهم وأنهم يعتمدون اعتمادا كليا على الدعم الأميركي في المستقبل. إن كل متتبع للسياسة الأميركية الخارجية يدرك أن هناك تغييراً في أسلوب التعامل مع الدول الصديقة والحليفة، فلم يعد منطق الحروب مقبولاً كما شاهده الأميركيون أولاً والعالم ثانياً الذي قاد الولاياتالمتحدة إلى الخسائر المادية والمعنوية وساعد على نشر كره بغيض للولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم ولذلك نلاحظ التحول في السياسة الأميركية الخارجية تجاه الدول العربية الحليفة لها نظرا لعدم قدرة الإدارة الأميركية على تقديم المزيد من الخسائر في ظل وضع اقتصادي داخلي مأزوم، ونظرا لرغبة الإدارة الأميركية في تلميع صورتها لدى شعوب العالم العربي والإسلامي من خلال ظهورها بمظهر المدافع عن الحريات والديمقراطيات ورغبات الشعوب. وقد أكد المحلل السياسي الأميركي غراهام فولر في مقال لصحيفة كريستيان سيانيس مونيتور أن الولاياتالمتحدة لا يمكنها إلا أن تلوم نفسها على الغضب الذي يغلي حاليا في المنطقة... كما كتب تيد غالن كاربنتر- الباحث في معهد كاتو للدراسات في واشنطن- مقالا لصحيفة يو اس تود أكد فيه محاولة واشنطن تقديم نفسها نصيراً للحركات المنادية بالحرية والديمقراطية. وهذا الدور الجديد لأمريكا لا يخفي حقيقة أن المصالح الأميركية، من وجهة نظر الإدارة، هي خطوط حمراء لا يمكن المساس بها وقد بات ذلك واضحاً من خلال المواقف العلنية للبيت الأبيض الذي لم يخف خيوط اللعبة الأميركية في بعثرة الأوراق وخلطها في المنطقة تحت شعار الإصلاح والتغيير ودعم الديمقراطية بطريقة يتم من خلالها استحداث حالة فوضى في الدول العربية والإسلامية، تتيح المجال أمام الولاياتالمتحدة لاستغلال هذه الفوضى لمصلحتها ولحماية مصالحها. تلك الفوضى هي برنامج أميركي قديم قائم منذ سنوات تستخدمه الولاياتالمتحدة بديلاً عن استخدام قوتها العسكرية المباشرة. هذا التحول المفاجئ في سياسة الولاياتالمتحدة ينطوي على عواقب سلبية خطيرة، ليس فقط بالنسبة للوضع في المنطقة، ولكن أيضا بالنسبة للوضع في العالم كله، وخصوصا في مجال مكافحة الإرهاب. المصدر: تشرين السورية 15/3/2011