قدم السودان الذي يتوشح بالسواد – حالياً – نموذجين أبيضين ناصعين لفن السلوك السياسي، والزهد عن السلطة استجابة لصيحات الجماهير المدوية المطالبة بالتنحي عن سدة الحكم.. وبالمقابل نشهد الآن ثلاثة مشاهد شائنة لفن السلوك السياسي المشين في الساحة العربية التي ظل حكامها الطغاة يتلهون بجماليات التعذيب والقتل المبرمج لبني أوطانهم، طمعاً في الحفاظ على السلطة، ولو أدى ذلك إلى إبادة الشعوب عن بكرة أبيها. النموذج الأول قدمه الفريق إبراهيم عبود في ثورة أكتوبر 1964، حينما أطل من شرفة مكتبة، أو نافذة سيارته على حسب بعض الروايات وقال لمن كان معه ما الذي يجري؟ فقال له إن الجموع المحتشدة تطالب بتنحيكم عن السلطة.. فرد الفريق عبود قائلاً: طيب إذا كان كل هؤلاء مش عايزنا نحن قاعدين ليه؟" وعلى الفور خاطب الفريق عبود جماهير الشعب السوداني في خطاب إذاعي فريد معلناً تسليم السلطة للشعب.. علماً بأنه سقط شهيد واحد في ثورة أكتوبر هو أحمد القرشي طه. والنموذج الثاني قدمه الفريق سوار الذهب عندما تسلم رئاسة الحكومة الانتقالية التي أعقبت حكم الرئيس نميري 1969 – 1985، لقد التزم الفريق سوار الذهب بتسليم السلطة الانتقالية بعد عام واحد.. وفعلاً التزم بما قال رغماً عن النداءات الداخلية والخارجية بضرورة استمراره في الحكم إلى أن تتهيأ الظروف الملائمة لتطبيقات الديموقراطية. المشاهد العربية الحالية تدعو للحسرة والأسى: فالرئيس الليبي معمر القذافي ماض في قتل شعبه بصورة مرعبة ومعيبة.. ولم يستجب لنداء الضمير ولا لمقتضيات الحال.. كما لم ينحن لعاصفة حلف "الناتو" ولا لمجاهرات الثوار، وعوضاً عن ذلك ظل يعزف على طبل أجوف بألحان نشاذ تشنف أسماع الجن، وليس البشر. وعلي صالح الجريح، تسلم ابنه سدة الحكم بتوريث – افتراضي – ولم يكن بمقدور نائب الرئيس اليمني – المنزوع السلطات – أن يوقفه.. وبالمقابل فإن الثورة اليمنية التي عمت كل الأصقاع لن تتوقف حتى ولو عاد الرئيس اليمني من مشفاه الأخير. وفي سوريا، ورغماً عن سقوط ما يناهز الألف قتيل، فإن الرئيس الأسد لم يتقن لعبة الحيوان التي سطرها ميكافيللي: لأن زئير بشار الأسد لم يرعب الذئب الأشهب.. وأنه لم يجد لعبة الثعلب لنصب الفخاخ لمعارضيه، لأن الفخاخ التي نصبها أضحى هو ضحية لها. ونحن نجد أنفسنا حيارى في زمن المحارق التي أعدت ونفذت بإحكام لإبادة المناضلين، وعشاق الحرية، فانعدام الحرية كان السبب الأساسي في اندلاع ثورات الربيع العربي. وأن فقدان الحرية يؤسس للطغيان والجبروت والتسلط، ويعتبر بيئة خصيبة لتفريخ الفساد والإفساد، والظلم، وازدراء الكرامة الإنسانية. أحد أسباب الحيرة المعيارية هي أنه لا أحد في عالمنا العربي يود تكرار تجربة التدخل الأطلسي في ليبيا في بلد عربي آخر.. كما أنه لا يوجد أحد يمجد مقاربات الحذلقة باستمرار أنظمة فقدت شرعيتها ومشروعيتها شعبياً، ومحلياً، ودولياً. المصدر: الشرق القطرية 12/6/2011