بعدما كادت الشراكة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في جنوب كردفان، ممثلة في والي الولاية مولانا أحمد هارون ونائبه عبد العزيز الحلو، تصبح مثلا يحتذى وأنموذج يشار إليه كواحدة من النوافذ الأكثر ضياءً في اتفاقية السلام الشامل، انقلب الحال ما بين عشية وضحاها. وعادت المنطقة من جديد لتعيش على وقع قعقعة الرصاص ودوي المدافع، ووقع أقدام آلاف الفارين والهائمين على وجوههم بين الغابات وشعاب الجبال، لتصبح جنوب كردفان على ألسنة المجتمع الدولي، وتدور حولها طواحين وسائل الإعلام بمختلف أنواعها. وبدلا من أن تؤدي الانتخابات التكميلية التي جرت بالولاية مؤخرا إلى استكمال حالة الاستقرار والأمن، كانت منطلقا لحالة "اللا أمن ولا استقرار"، ويلقي الشريك الأكبر في اتفاقية السلام المؤتمر الوطني، باللائمة والمسئولية على شريكه الأصغر، الحركة الشعبية، التي خسرت معركة الانتخابات، وأعلن مرشحها لمنصب الوالي عبد العزيز الحلو أنه سيقود بنفسه المعركة من أجل تغيير نظام الحكم، وقال في بيان تناقلته الوكالات "نريد أن نسقط النظام لتحقيق التغيير الجذري في المركز وإزالة كافة أشكال التهميش في مختلف صوره سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ودينياً"، الأمر الذي دفع بالمؤتمر الوطني، على لسان الوالي أحمد هارون، لوصف شريكه السابق بالخيانة وأنه مطلوب للعدالة ولن يفلت منها، فلم يصدق القول هنا بأن "الملح والملاح أمضى من السلاح"، ومن غير المألوف في كثير من التجارب أن تنقلب الصداقات والأخوة والمحبة والعمل المشترك، من ذلك المحراب إلى مرحلة من العداء كما هو حادث الآن بولاية جنوب كردفان، حيث انقلبت تلك العلاقة والصداقة و"الملح والملاح" بين الوالي أحمد هارون ونائبه عبد العزيز الحلو، إلى عداء بسبب أن الأخير انطبق عليه القول الشعبي "الحسنة تلد السيئة"، كما قال بذلك أحمد هارون، وأضاف قائلا "إن الأخ عبد العزيز لم يضع للعهود والمواثيق قيمة، وذلك لخرقه للاتفاق والعلاقة والشراكة بيننا بفعل فاعل لم يجنِ من ورائه إلا الخراب والدمار لأهله في سبيل تنفيذ أجندة طرف آخر هدفها زعزعة أمن أهالي الحلو إلى جانب تنفيذ أجندة انفصاليين بالجنوب"، هذا الوصف الدقيق الذي ساقه مولانا هارون في حديثه لبرنامج مؤتمر إذاعي والذي ذهب فيه بطريقة محزنة ومؤلمة للخطوة التي قادها شريكه الحلو والذي اعتبره أخ وصديق كانت أياديهما في الملاح على الدوام، وقد وصف طريقة الحلو التي خرج وقام بقيادة حرب ضد صديقه هارون وضد مواطني الولاية من أهاليه بأنها تعتبر معزولة وغير مألوفة، ولم يجد هارون تعبيرا ابلغ من أن يقول "الحلو قام بإطلاق الرصاصة في خصر الشراكة"، وهي الرصاصة التي قضت على تلك الشراكة ولم تترك مجالاً للحوار مجددا أو حتى خيط رفيع من خيوط الصداقة بين الطرفين، لأن الحلو قد قتل العديد من قيادات المؤتمر الوطني وكذلك القوات المسلحة والتي كان هو أحد المسئولين عنها باعتباره نائبا للوالي، واعتبر هارون الخطوة التي أقدم عليها الحلو بقيادته حرب بالولاية عملية مدفوعة وتحريض من قبل نائب رئيس الحركة بقطاع الشمال ياسر عرمان، وذلك حينما قال "إن الشراكة بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني بجنوب كردفان قد انتهت بعد تلك الرصاصة وان ما يدور الآن هو حرب وليست شراكة"، معلنا أنه قد أقال كافة الدستوريين والتنفيذيين من ممثلي الحركة الشعبية من أتباع الحلو وتكليف بعض المسئولين بقيادة العمل بالوزارات والمعتمديات التي كان يشغلها منسوبو الحركة الشعبية الذين وقفوا في صف الحلو، ومضى هارون بالقول "إن عبد العزيز الحلو خرج من الشرعية الدستورية وانه ومجموعته متمردون بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ وسيلقى الجزاء الرادع، وسيتم تقديمه للمحاكمة العادلة باعتباره مجرم حرب أستهدف المدنيين والقوات المسلحة النظامية، وأضاف "ثبت أن الحلو ومجموعته خلال ال20 عاما في صفوف الحركة الشعبية يعملون "بندقجيه" لخدمة الجنوب الانفصالية"، إلا أن أحمد هارون عاد مؤكدا "نحن رواد سلام ومتمسكون بالحوار مع محبي السلام من قيادات الحركة الشعبية بالولاية الذين رفضوا أسلوب الحلو وانتهاج أسلوب الحرب"، وقال إن من يتحمل مسئولية أحداث جنوب كردفان بالدرجة الأولى المتمرد ياسر عرمان ومجموعته من اليساريين وإنهم سيقدمون لمحاكمة قانونية، موضحا أن تلك الأحداث بدأت فور وصول عرمان ومجموعته برفقة لجنة من الخرطوم، وتمت خلال اجتماع بمنزل الحلو إبان الانتخابات والتي أدت لتغيير الخطاب الإعلامي للحركة بعد أن كان متوازنا، وقال هارون إن الخطاب انقلب 180درجة عداءً للمؤتمر الوطني، وأبان أن ما حدث هو ثأر للحركة بخسارتها لانتخابات الولاية ،وتابع "لا مجال لإعادة تلك الانتخابات" مستبعداً في الوقت ذاته وجود بوادر للحوار مع الحلو. وكان قد سبق أن تم تشكيل لجنة مشتركة لمعالجة أوضاع أبناء النوبة بالجيش الشعبي بعد التاسع من يوليو بالولاية، واتفق الطرفان على أن تبدأ اللجنة أعمالها قبيل وقوع الأحداث الأخيرة وأكد هارون حرص المؤتمر الوطني على معالجة أمر قوات الجيش الشعبي بالولاية من أبناء النوبة، والنيل الأزرق باعتبارهما ولايتين شماليتين، بعد توجيهات رئيس الجمهورية بتوفيق أوضاعهم، وقال إن الطرفين كانا قد توصلا لاتفاق حول الترتيبات الأمنية من خلال الشروع في بروتوكول وقف إطلاق النار في الأماكن التي يتواجد فيها الجيش الشعبي جنوب حدود 56 عودة القوات المشتركة للمناطق المتفق عليها إلا أنه وبعد 32 ساعة من الشروع في البروتوكول قامت قوات الحلو بإطلاق النار على القوات المسلحة. واستبعد هارون مشاركة الحركة الشعبية الأم بطريقة رسمية في الأحداث، إلا أنه أشار لاحتمال مشاركة بعض أصحاب الأجندة فيها في تلك الأحداث الذين يضمرون عداءً للشمال، واثنى هارون على حكمة رئيس الحركة بالشمال مالك عقار ودوره في احتواء الموقف بجنوب كردفان إلى جانب وقفته بالولاية لحفظ الأمن، وقال نحن مع هؤلاء نسعى لإكمال السلام جميعاً. وقال إن عقار الآن يقود اتصالات لإثناء الحلو عن موقفه. وسادت حالة القلق بين الأوساط السياسية والدولية لم تسود الحكومة ممثلة في المؤتمر الوطني فيما حدث بجنوب كردفان كثيراً في وصفها بأنها ربما تؤدي لتدخل دولي بجانب أنها تعتبر جنوب آخر بعد أن أكدت الحكومة إمكانية السيطرة على الأوضاع في القريب العاجل، سواء الأوضاع الأمنية أو الإنسانية، وقال هارون إن ما حدث لم يوصفه بأنه جنوب آخر ولكنها تعتبر حالات تمرد مقدور عليها بعزيمة القوات المسلحة وأبناء جبال النوبة من محبي السلام، وقال إن الحلو لم يمكث كثيراً في وضعه الآن وان يد الحق ستطاله، مشيراً لتماسك النسيج الاجتماعي لأبناء جبال النوبة في كافة السودان خاصة الولاية، وقال إن إنسان جبال النوبة سئم الحرب ولم يرغب في العودة لها ويتطلع للاستمتاع بالسلام والتنمية، وقال إن خطوة الحلو قد عبر عنها معظم أبناء النوبة بالرفض والتنديد، واستبعد أن تقود لعملية قبلية. وأوشكت أحداث قبلية خلال الانتخابات الأخيرة، وقعت بمنطقة الفيض، بالقطاع الشرقي من الولاية، وأسفرت عن مقتل وإصابة ما يزيد عن الأربعين شخصا، وكادت أن تشعل فتيل الحرب من جديد لولا الجهود التي تسارعت لاحتوائها، وقد تبادل الشريكان – المؤتمر الوطني والحركة الشعبية – المسئولية في تلك الأحداث، لكن الطرفين أكدا لأكثر من مرة عدم العودة بالمنطقة إلى أتون الحرب مهما كانت الأسباب، وأعقب ذلك مقاطعة الحركة الشعبية بجنوب كردفان، لعملية فرز ومطابقة أصوات الناخبين، ومن بعد إعلانها عدم الاعتراف بنتيجة الانتخابات التكميلية الأمر الذي اعتبر حينها نذر ومؤشرات من شأنها أن تعيد أوار الحرب للمنطقة من جديد. المخاوف من عودة التوتر والحرب إلى جنوب كردفان، إبان الانتخابات دفعت بالقوات المسلحة أن تقطع بعدم السماح لأية جهة بزعزعة الأمن والاستقرار بولاية جنوب كردفان، والتأكيد بأن جنوب كردفان ولاية شمالية وتقع في قلب الشمال وأن أي محاولة لإدارة شؤونها من قبل الحركة الشعبية أو مجرد الوصاية عليها مرفوضة، وقال المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة، العقيد الصوارمي خالد سعد، في تصريحات حينها "لا تفريط أبداً في أمن ولاية جنوب كردفان ولا حق لأي وجود عسكري غير القوات المسلحة وبقية القوات النظامية الأخرى، التابعة لحكومة السودان في التواجد في هذه المنطقة"، مؤكداً أن القوات المسلحة لن تسمح لأي جهة بزعزعة الأمن والاستقرار بولاية جنوب كردفان، وأبان العقيد الصوارمي، أن كل من تسول له نفسه المساس بأمن المنطقة فإن القوات المسلحة ستعصف به في الحال، وجاءت تصريحات القوات المسلحة على خلفية اجتماع عقدته قيادات من الحركة الشعبية في جوبا مؤخرا بحضور مرشح الحركة الشعبية لمنصب الوالي في انتخابات جنوب كردفان، عبد العزيز الحلو، وقررت اتخاذ ما أسماه خطوات أمنية وتعبوية بالولاية بدعم مباشر من جوبا، وذلك في أعقاب إعلان الحركة الشعبية انسحابها من عمليات مطابقة نتائج الانتخابات التكميلية بحجة التزوير. وبرغم الجهود الحثيثة التي يقودها الوسيط ثامبو أمبيكي، رئيس الآلية الأفريقية رفيعة المستوى لمتابعة الشأن السوداني، لجمع رئيس الجمهورية، ونائبه الأول في اجتماع حاسم بأديس أبابا، بعد أن قدم مقترحات للطرفين - المؤتمر الوطني والحركة الشعبية - لحل الأزمة. والجهود الموازية التي تقودها عدة جهات والقلق الذي يساور المجتمع الدولي، تبقى الأوضاع بجنوب كردفان رهينة بوقف التصعيد وعودة قيادات الحركة الشعبية هناك إلى نصابها لتجنيب المنطقة المزيد من التدهور. نقلاً عن صحيفة الرائد 12/6/2011م