إن فلاناً كالسوري خطوته بطيئة ولكنها ثابتة «مثل أرجنتيني» لكم هو مؤلم أن يكون الإنسان بعيداً عن وطنه في مثل هذه الظروف، وكم يعزّ على المخلص لوطنه وأهله وقومه وأمته أن يتابع من بعيد أخبار الوطن وأحداثه عن طريق الإذاعات والتلفزيون، وكم يعزّ عليه أن يشاهد من بعيد جنود وطنه الأشاوس وهم أبناء الشعب نفسه يحاولون أن يعيدوا الابن الضال إلى جادة الصواب متحملين مكائد الأعداء من كل حدب وصوب ومؤامراتهم الرامية إلى تقويض هذه القلعة الصامدة الشامخة التي كانت ولا تزال وستبقى حجر عثرة أمام مخططاتهم الدنيئة. وعلى الرغم من ذلك فإن للبعد إيجابياته أحياناً، فقد يكون أصحاب البيت على وشك الاختناق بغاز المدفأة دونما شعور فيأتي أحدهم من الخارج ويشم تلك الرائحة الكريهة ويفتح نوافذ البيت ليستعيدوا وعيهم وينهضوا مجدداً، وهذا ما يحصل، فأبناء الجالية السورية في هذا المهجر تراهم يتهافتون ليل نهار سائلين عن أوضاع البلد والوطن والأهل، وينظمون مظاهرات الوفاء لسورية ولشعب سورية ولوحدة سورية، ويعقدون الندوات المتتابعة لفضح المؤامرة، ويعبرون عن استغرابهم لكيفية قيام زمرة مأجورة أو مضللة بترويع أهاليهم وذويهم خدمة لمخططات خارجية تنبعث منها رائحة النتن دون أن تتنبه تلك الزمر إلى ما يمكن أن تجرها أفعالها الشنيعة على الوطن من ويلات. يسألني الكثيرون والكثيرون جداً هل نصدق ما نسمع؟! أو حقاً أن أولئك الذين يتشدقون بالمطالبة بالديمقراطية يستمدون قوتهم وسلاحهم من الغرب ومن بعض الدول التي هي أبعد ما تكون عن الحرية والعدالة والإنصاف والمساواة والديمقراطية. فلو كانت الولاياتالمتحدةوفرنسا والغرب عموماً يريدون الديمقراطية فلماذا يا ترى تآمروا مباشرة للإطاحة بالرئيس الفنزويلي هوجو شافيز عدة مرّات برغم فوزه شرعياً ودستورياً بالانتخابات؟ ولماذا وقفوا وراء الانقلاب في هندوراس وضغطوا لتعترف حكومات المنطقة بأسرها بالحكومة الانقلابية؟ ولماذا تآمروا لقلب الحكم الدستوري الديمقراطي في بوليفيا؟ ولماذا تآمرت الولاياتالمتحدة مع المنشقين في شمال بوليفيا الغني بالنفط لدعم انقسامهم عن البلد ما أدى إلى طرد السفير الأمريكي؟ ولماذا جن جنون هؤلاء عندما فازت حماس بالانتخابات ورفضوا الاعتراف بها؟ بل ولماذا رفض الفرنسيون والغرب الاعتراف بشرعية انتخابات في مناطق أخرى؟ إن كل ذلك يدلنا على أن الهدف ليس الديموقراطية ولا حرّية الرأي ولا مصلحة المواطن، فمثلما حاولوا أن يفعلوا في أمريكا اللاتينية وغيرها فإنهم يحاولون أن يفعلوا بسورية لأن الهدف هو زعزعة سورية الأبية التي كانت ولا تزال حسكة في حلاقيمهم والتي لم يستطيعوا الالتفاف عليها وشراء ضميرها ولا تطويعها لخدمة مصالحهم وخصوصاً في هذه المرحلة التي باتت فيها أركان دولهم تتضعضع من كثرة فسادها، إذ لم يشهد التاريخ عمليات فساد أسوأ من تلك التي أدت إلى وقوع الأزمة المالية العالمية وما جرته من آثار على العالم بأسره، والتي يريدون أن يرغموا دول العالم الأخرى بتحمّل أوزارها ومن بينهم سورية. إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين، فالولاياتالمتحدة تدعمها فرنسا وبريطانيا ودول الباطل المعروفة غزت العراق واحتلته وانتهكت حقوق الإنسان والأعراض فيه، واحتكرت موارد البلد وثرواته النفطية وأعادته عقوداً إلى الوراء وكل ذلك بحجة الديموقراطية والتحرر ومحاربة الإرهاب، وكذلك فقد غزت أفغانستان بحجة محاربة الإرهاب فأمعنت في أهلها تقتيلاًَ وقمعاً وإفقاراً، فأين هي المحاكم الدولية من هذه المجازر؟ وأين هو العالم من هذا الاحتلال؟ وأين هي منظمات حقوق الإنسان؟ وأين هو الأمين العام للأمم المتحدة؟ وأين هو مجلس الأمن، وأين.. وأين..؟ هل الولاياتالمتحدة وأوروبا معصومة عن الخطأ ومنزهة ومغفور لها سلفاً؟ وهل هناك عاقل يصدّق فعلاً أن دولة ديمقراطية حقّة يمكنها أن تشن حروباً ظالمة وترتكب المجازر بحق البشر أجمعين؟ أهذه بالله عليكم هي الديمقراطية التي يتبجحون بها؟ أهي ديمقراطية فييتنام، وأفغانستان، والعراق، وأبو غريب وغوانتانامو؟ ومن كان في مثل ذلك الوحل هل باستطاعته أن يتشدق بشرف ومروءة وإخلاص عن الحريات وعن العدل وغيرها من الأقانيم؟ وكذلك فمن كان يمدّ يده لهؤلاء هل يمكن أن نأمن جانبه، وهل يستحق التكريم والتبجيل ؟! يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز «ولقد كرّمنا بني آدم» وهو قد كرّمنا بالعقل، والمسلم الصحيح العاقل يؤمن بالوحدانية أي أن الله سبحانه وتعالى واحد، والحق واحد، والعدل واحد، والإنصاف واحد، والمنطق واحد، والحرية واحدة، والكرامة واحدة، وكل المثل العليا واحدة، فكيف لأولئك الذين يدعون أنهم يدافعون عن الدين والعدل والحرية أن يجعلونا نشرك، وأن نوافق على مبدأ الكيل بمكيالين؟ ولماذا اتفقوا على الحد من انتشار رسائل الفيس بوك في أوطانهم لدرء التظاهرات المحتملة؟! ولماذ سمحوا لإسرائيل بأن تخمد «الفيس بوك» لتمنع الفلسطينيين من التنادي لشن انتفاضة جديدة؟! ولماذا مثلاً لم يهبوا لنصرة الشعب الفلسطيني الذي تحدى الألغام محاولاً العودة سلمياً إلى أرضه مستنداً إلى مقررات الأممالمتحدة والشرعية الدولية؟! ولماذا مارسوا ويمارسون كل أنواع التمييز العنصري ضد المسلمين والعرب في بلدانهم مع أن معظمهم هاجر إلى هناك لشدة الفقر في بلده الناجم عن الاستعمار أو الاحتكار الغربي لثروات الوطن؟! ولو أردنا المتابعة لما انتهت التساؤلات. إن المهاجر القديم أحياناً يقول كلمات بدهية قد لا تخطر ببال المقيم، فقد قال لي البعض كيف لنا أن نأمن جانب تركيا وفرنسا وبريطانيا؟! فتيار الهجرة الأول أي أهلنا في العشرينيات لم يهاجروا من سورية طمعاً في المال بل هروباً من الاضطهاد والقمع والقتل والمجاعات في الزمن العثماني، والتيار الثاني جاء نتيجة القمع والاضطهاد والجوع في فترة الانتداب الفرنسي والبريطاني، وحتى تاريخه لم يتم الاتفاق على اسم الجالية فهذا يسميها التركية، وهذا يسميها السورية والآخر يسميها السورية اللبنانية، وكل ذلك لأننا قدمنا في عهد الاحتلال العثماني، فسموناً أتراكاً، ثم جاءت معاهدة سايكس بيكو فقسمت أجزاء سورية فتحيّروا في اسمنا. والآن يأتي أناس من أبناء جلدتنا يأمنون جانب هؤلاء ويثقون بهم، فهل يريدون لنا مسميات جديدة لا سمح الله؟!. وآخرون قالوا لي إن الناصر صلاح الدين الأيوبي الذي أعاد مجد الإسلام قد حارب الفرنجة، يعني الفرنسيين وجاء سلطان باشا الأطرش وحاربهم، وجاء عبد القادر الجزائري وحاربهم، وجاء عبد الكريم الخطابي فحاربهم وهكذا دواليك فكيف يأتي أحد منا ويعلن بأنه يريد نصرة الإسلام وينتظر منهم المنّ والسلوى؟! والأمر نفسه ينطبق على الإنكليز الذين ابتدعوا إسرائيل، وحدث ولا حرج عن الإسرائيليين، وعن الأمريكيين، والطليان، فلو كان هؤلاء أصحاب حق لكانوا قد كفّوا بلاهم عنا فنحن بألف خير من دونهم، ونحن بغنى عن تأييدهم وتدخلهم. وآخرون يقولون إنهم يشكرون الله لأن بعض الأقنية العربية لم تعد تصل إلى المنطقة، إذ ينطبق على هذه الأقنية قول الشاعر العربي: وأخوان اتخذتهمو دروعا فكانوها ولكن للأعادي فكم كان العرب في هذه المغتربات يمنّون أنفسهم بمشاهدة قنوات فضائية عربية متعددة للتخفيف من غربتهم ولمتابعة أنباء الوطن من مصادرها الفعلية، ولكم أشاد المغتربون بتغطية القنوات العربية أثناء عملية الاحتلال الأمريكي للعراق وما اقترن بها من جرائم وفظائع، ولكن وبقدر ما كان سرور وارتياح المغتربين بهذه الأقنية كان إحباطهم عندما لمسوا مؤامرتها، فالمغترب إنسان متفتح عاقل وواع، وقد استطاع مقارنة تلك الأخبار المصطنعة بأخبار الأقنية السورية، واستخدم عقله وتوازنه، وعرف الحق من الباطل، وهو يشعر بالأسى وخيبة الأمل لأنه يسمع من الأقنية الغربية المعروفة بمناهضتها للعرب والمسلمين أنباء تقل حدة وشراسة عن التي تذيعها وتبثها بعض الأقنية العربية، وكأن هذه الأقنية تعلن سلفاً عما ينتظر المواطن في البلدان العربية من مؤامرات ومن دسائيس مغرضة. ولهذا، فإن ما تبثه تلك الأقنية شكل مادة مهمة للتعريف بالدور الهدّام الممكن أن يلعبه الإعلام في تضليل الشعوب ، وقد تم تنظيم الكثير من الندوات لفضح هذه المؤامرة، ويعتقد الكثيرون هنا بأنه سيصعب على تلك الأقنية العميلة استعادة مصداقيتها، فمثلما تصاعدت قيمتها أثناء تغطيتها لحرب العراق فإنها خسرت حربها أمام صخرة الصمود السورية، وسوف يتضح لها ذلك قريباً لأن «حبل الكذب قصير» و»على نفسها جنت براقش!!». إن من لا يعرف سورية، ومن لا يعرف حقيقة الإنسان السوري، ومن لا يعرف الكم الذي يحمله هذا المواطن من ذكاء مقترن بتجارب وخبرات استمدها على ممر التاريخ، لا يستطيع أن يستشرف ماذا سيحصل في سورية، فالإنسان السوري لا تنطلي عليه الأحابيل، وهو مضرب مثل في العالم في حكمته ورويّته ومعرفته الحقيقية، فثمة مثل في الأرجنتين يقول «إن فلاناً كالسوري خطوته بطيئة ولكنها ثابتة!!»، وإن ثبات وصمود الحكومة السورية ومقارعتها للأعداء وللمؤامرات لا تنبع فقط من الحنكة التي تحلت بها بقيادة السيد الرئيس بشار الأسد، ولا تنبع من تماسك جيشها الذي هو في نهاية المطاف جزء من الشعب نفسه، بل إن صمود ومتانة الحكومة ينبع من التلاحم القوي والعميق ومن العروة الوثقى التي ربطتها وتربطها مع أبناء الشعب، والتي لم تستطع أميركا زعزعتها في محاولاتها السابقة، وهذا ما حيّر أعداء الوطن، ولذلك، فإن ما نسمعه من فحيح من الأقنية المتآمرة، من تضخيم لا يصدق للأحداث، ومن ابتداع لشهادات زور، ولمظاهرات، وتجمعات، وعمليات قمع وغيرها، ومن رقص أمريكي وفرنسي وبريطاني وإسرائيلي وغربي في المحافل الدولية، وما نسمعه من تهديدات وضغوط خارجية، ومن مساعٍ للتضييق الاقتصادي والسياسي وغيره، ومن أضغاث أحلام لفئات منعزلة محبطة، إنما ينبع من فشلها في زعزعة البنيان الداخلي السوري المرصوص.. وهيهات لهذه الرياح أن تغبّر على أقدام سورية، فكما يقول الشاعر ميخائيل نعيمة: سقف بيتي حديد ركن بيتي حجر فاعصفي يارياح وانتحب ياشجر واسبحي يا غيوم واهطلي بالمطر واقصفي يا رعود لست أخشى الخطر وإننا من هنا لنؤكد ثقتنا وتضامننا وارتباطنا وتلاحمنا مع قيادة السيد الرئيس بشار الأسد، إيماناً عميقاً منا بأنها أدركت وتدرك دوماً مصلحة كل فرد من أفراد هذا الوطن الغالي، وأنها تراهن على التاريخ وعلى مصلحة الوطن، وعزته، وكرامته، ورفعته، ومكانته، واستقراره، واستقلاله، ونموه، وتقدمه، ورفاهيته، وحريته الحقيقية، وقد أثبتت على الدوام استعدادها لتلبية تطلعات الشعب وتحقيق آماله، وتمكنت من كشف المؤامرات التي تحاك ضدها، ونحن على ثقة تامة بأن هذه السحابة القاتمة ستنقشع قريباً وسينكشف نور الحق، وسيمحق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً. السفير السوري في الأرجنتين المصدر: تشرينا لسورية 19/6/2011