منذ تسعينات القرن الماضي والجانب الفلسطيني يلوِّح باللجوء إلى الأممالمتحدة، لإنهاء الاحتلال أو لإدانة الغزو الاستيطاني والاجتياحات التي تكررت للضفة الغربية وقطاع غزة . وظل اللجوء إلى المنظمة الدولية خياراً ثابتاً وخاصة بعد توقيع اتفاق أوسلو الذي نقضه الاحتلال، وفي ظل اعتماد الحلول السياسية والدبلوماسية . منذ شهور والسلطة الفلسطينية تعلن سعيها إلى طلب اعتراف بالدولة الفلسطينية في دورة الجمعية العامة في سبتمبر/أيلول المقبل، وذلك في ضوء مواصلة التوسع الاستيطاني ورفض الجانب الأمريكي ممارسة ضغوط جدية على حكومة نتنياهو . وها هي واشنطن تبذل جهودها لحمل الجانب الفلسطيني على عدم التقدم بهذا الطلب، بذريعة أنه إجراء “أحادي الجانب"، وهي ذريعة بالغة السخف وتشبه لجوء مدنيين عزل إلى طلب الغوث من الصليب الأحمر بعد تعرضهم لاعتداء دولة أو مجموعات مسلحة، واعتبار ذلك إجراء أحادياً منهم . تل أبيب وقبل أن يحل الموعد في سبتمبر/ايلول تنشط لإحباط هذه الخطة، مع الدول الكبرى ومع الاتحاد الأوروبي، وترفق ذلك بإعلان الاستعداد لما تعتبره تنازلات، وذلك باستئناف التفاوض على أساس حدود عام ،1967 بشرط القيام بتبادل أراضٍ والاعتراف بيهودية دولتهم . تبادل الأراضي إذا ما تم على نطاق واسع يهدد وحدة الضفة الغربية، وقطاع غزة وكذلك التواصل الجغرافي، أما يهودية الدولة فتهدد بصورة مباشرة فلسطينيي عام ،1948 فهؤلاء ليسوا يهوداً، وتحمل مخاطر ترحيل أعداد كبيرة منهم إلى الضفة الغربية بما يوازي التقليل من عدد المستوطنين في الضفة الغربية، إضافة الى إغلاق الطريق أمام عودة اللاجئين، فالدولة اليهودية مفتوحة لاستقبال اليهود لا غير اليهود . إنها ألغام يتم وضعها في طريق الحل، مقابل الاستعداد اللفظي للتفاوض على أساس حدود عام 1967 وليس على أساس العودة إلى حدود ذلك العام . يراد بذلك استدراج الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين إلى القبول والضغط باتجاه استئناف التفاوض، بعد أن “زالت العقبات من الطريق"، وأنه لا حاجة في ضوء ذلك إلى “إجراء أحادي" باللجوء إلى الأممالمتحدة . يدرك الجانب الفلسطيني هذه الحيثيات، ويجد نفسه مع ذلك أسير الخشية من تدهور العلاقات مع واشنطن، خلافاً لتل أبيب التي لا تبالي بأي خلافات قد تنشأ مع الإدارة الأمريكية، ونستذكر هنا الخلافات التي سادت في السنة الأولى من ولاية الرئيس أوباما حول الاستيطان . واشنطن هي الحليف الأكبر والممول الأول والذخر الاستراتيجي للدولة الصهيونية، ومع ذلك لا يتردد زعماء هذه الدولة مستهدين ببوصلتهم الصهيونية في الاختلاف العلني مع الإدارة الأمريكية، وكما حدث في عهد بوش الأب عشية افتتاح مؤتمر مدريد عام 1991 . ينقص السلطة الإدراك، ليس أن الخيارات تضيق فقط، بل أن الأرض تصادر من تحت أقدام شعبها، وأن عدوها يشتري المزيد من الوقت للاستيلاء على المزيد من الأرض والموارد الطبيعية، علاوة على أنه تحل مراحل زمنية وظروف سياسية تتراجع فيها أولوية القضية الفلسطينية وتحل محلها أولويات أخرى إقليمياً ودولياً . خيار اللجوء إلى الأممالمتحدة يرقى إلى مستوى البديهيات، فالدولة الصهيونية ولدت مرتين: مرة على أرض فلسطين، ومرة أخرى في أروقة المنظمة الدولية عبر الاعتراف بها . ياسر عرفات كان يدرك ذلك حين قصد الأممالمتحدة أواسط سبعينات القرن الماضي واستمع إليه العالم وتم قبول منظمة التحرير عضواً مراقباً . على أن هذا الخيار مع وجاهته الأكيدة، سيكون من وجهة نظر تحررية إجراء وحيد الجانب بالفعل، إذا لم يترافق وتواكبه رزمة تدابير أخرى، منها طلب انسحاب القوات “الإسرائيلية" وجموع المستوطنين من الضفة الغربية، وطلب قوات دولية لضمان هذا الانسحاب ولكفالة أمن أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة، ودعوة دول العالم لمساندة هذين المطلبين، مع تعزيز المصالحة والوحدة الوطنية، وأن تدور المفاوضات بعدئذٍ حول ترتيبات إنهاء الاحتلال وبقية القضايا العالقة، وفي مقدمها حق اللاجئين بالعودة إلى ديارهم، فليس هناك من شعب لم يعد حتى الآن إلى أرضه، أو أن الطريق فتحت له أمام العودة كحال الأرمن والقوقاز وسواهم . كي يصبح لخيار اللجوء إلى نادي الأمم وهجٌ ومعنى، لا بد من تحشيد الفلسطينيين على أرضهم للتوحد حول رفع شعار إنهاء الاحتلال الاستيطاني والعسكري، واستئناف انتفاضة مدنية ضد الجدار والتنكيل وطلب حماية دولية، مع مواجهة سياسية حازمة مع الإدارة الأمريكية، فلا يمكن الوقوف مع حق إقامة دولة فلسطينية ومع الاحتلال في الوقت نفسه . لا يكفي ترديد عبارات مستكينة كالتي رددها محمود عباس بأن أوباما صعد معه إلى الشجرة ثم نزل الرئيس الأمريكي عن الشجرة وتركه وحيداً . لا ينفع الشجن اللفظي والإعلامي في إدارة مواجهة سياسية وانتزاع حقوق وطنية، وإذا كان الرئيس عباس يعتبر أنه في آخر أيامه السياسية، فليترك لغيره أن يقود هذه المواجهة، بدلاً منه هو وقد أصابه الوهن وتحلل الإرادة والتردد الدائم الذي يضاهي الشلل التام . يقول المرء ذلك وهو لا يستبعد على سبيل المثال أن تفلح الإدارة الأمريكية في إقناع الرئيس عباس بإرجاء طلب الاعتراف من الأممالمتحدة “مقابل أن تضاعف واشنطن جهودها لاستئناف التفاوض على أسس مقبولة للجانب الفلسطيني" . تبديد الوقت هو بحد ذاته خطيئة لا يستفيد منها إلا العدو . المصدر: الخليج 27/6/2011