كل شيء “مباح" ومقبول مهما تمادى، خصوصاً إذا جاء باسم الديمقراطية، ونشر مبادئها بين “الشعوب المتخلفة" .فباسم الديمقراطية وقعت دول تحت نير استعمار جديد، وتعرضت للاحتلال الأجنبي، وباسمها أيضاً حوربت دول واعتبرت دولاً رجعية أو مارقة “تفرمل" المسيرة الواثقة المظفرة تجاه عالم أكثر تسامحاً وتعاوناً وتنمية، كما تم ويتم التدخل بالشؤون الداخلية للدول، وانتهاك سيادتها، وخرق مبادئ وأعراف المجتمع الدولي التي تحولت إلى قالب أجوف يستخدم لأغراض تخدم جهة ضد أخرى، وتوجه من خلالها سهام النقد للآخرين، ومن ثم تجيّش باسمها الجيوش ل “دمقرطة" هذه الدولة أو تلك . باسم الديمقراطية نجد السياسة الخارجية الأمريكية قاب قوسين أو أدنى من استدراج غضب مصر وأبنائها، فهناك فجّر حديث سفيرة واشنطن لدى القاهرة مارغريت سكوبي عن تقديم 40 مليون دولار لجمعيات أهلية بهدف “دعم الديمقراطية"، حالة من الغضب الشعبي، دفعت المستوى الرسمي إلى تشكيل لجنة تقصٍ للحقائق حول المسألة، خصوصاً وأن هذا الدعم لم ينم إلى علم الدولة المصرية . من حق أي منا التساؤل هنا عن أحقية أية دولة أو شعب في اختيار أو بناء نموذجه الخاص للنظام الديمقراطي الذي يراه مناسباً، واختيار أن يكون نموذجه أيضاً متمايزاً بالضرورة عن النماذج أو الأنظمة الديمقراطية على اختلافها، مع التسليم بضرورة مراعاة مبادئ الديمقراطية التي نعرفها . كما من حق أي منا رفض التدخل الخارجي، والرشى السياسية الدولية التي تنهمر على هذه الجماعة أو تلك، متخطية كل عرف أو قانون دولي، بدعوى دعم بناء الديمقراطية، وتعزيز فهمها وتثبيتها مفهوماً وممارسة في أية دولة من الدول . تبرع واشنطن في تخطي الخطوط الحمر، وتبدع بالتدخل السافر في شؤون الدول، والاعتداء على سيادتها، وتجترح المعجزات يومياً في إثقال أسماعنا بالخطب الرنانة، والأحاديث الجوفاء عن الديمقراطية والسلام العالمي، اللذين تدخل من خلالهما الحرب تلو الأخرى، وتغرق حتى الأذنين في شؤون دول هي أبعد ما تكون اختصاصاً أو حرصاً عليها وعلى استقرارها . سيل الدولارات الذي تجيّره واشنطن لإغراق مصر باسم الديمقراطية، مفضوح الأهداف، وليس له من اسمه أو توصيفه أي نصيب، فهو مغالٍ في انتهاك سيادة مصر، وموجه لخلق أتباع ومؤيدين جدداً في ساحة مصر الثورة، التي ما زالت تنفض غبار معركتها التاريخية الكبرى، وتحاول تلمس طريقها إلى المستقبل وسط حقل ألغام زاخر بعناصر الطائفية والفتنة واللعب على حبال مرتزقة همهم الأول والأخير جمع المال والثروات بصرف النظر عن مصالح دولتهم وشعبهم . ورغم ذلك، فإن المصريين هم الوحيدون الذين عليهم الجانب الأكبر والأساسي من العمل، كون التسليم بأن مهمة بناء النموذج الديمقراطي مقتصرة على المصريين أنفسهم، يعني بالضرورة أن أي تدخل بالشأن المصري باسم الديمقراطية مرفوض صراحة وضمناً، وعلى من يحاول انتهاك السيادة المصرية أن يتنبه إلى أن انتهاج التدخل والضغط والرشوة السياسية لم يعد الطريقة المثلى أو المقبولة ل “مساعدة" الشعوب، والانتقال بها إلى الديمقراطية والتقدم والتنمية . في مصر إمكانية كبرى لقيادة برنامج داخلي يراعي حاجات وتاريخ وعلاقات الشعب المصري، ونسيجه الاجتماعي، يرسي نموذجاً ديمقراطياً تعددياً، ينبثق من قلب الشعب، ويضع مصالحه وتطلعاته وآماله على رأس الأجندة، من دون تدخل أو انتهاك للسيادة، ومن دون دعم مسيّس، آخر أهدافه خدمة مصر أو تنميتها، وكله يأتي باسم الديمقراطية .