المفاوضات التي تجري بين الحكومة والحركة الشعبية في أديس أبابا تعتبر محاولات (اللحظة الأخيرة) لحسم الملفات العالقة بين الشمال والجنوب قبل أيام فقط من ميلاد دولة الأخيرة في 9 يوليو المقبل، وذلك بهدف دخول مرحلة جديدة تكون خالية من مسببات العداء مستقبلاً بين الدولتين الجارتين. ولاشك أن البترول يمثل حجر الرحى في صياغة شكل الاتفاقات حول الملفات السياسية والاقتصادية وحتى الأمنية بين الجانبين، خاصة أن الشمال والجنوب يعتمدان عليه بشكل كبير في دخلهما القومي، فالخرطوم تحدثت في أكثر من مناسبة عن ضرورة سد فجوة عائدات البترول التي كانت تذهب إليها في ظل عدم وضوح الرؤية حول قسمته أو تخصيص جزء من عائداته للشمال، متحسبة لأسوأ السيناريوهات وهو ما يستدعي الاعتماد على بدائل جديدة تملأ خزينة الدولة المرهقة بأوجه الصرف المختلفة. أما حكومة الجنوب الوليدة فإنها تعتمد على البترول بنسبة 98% وتدرك أنها مواجهة بأوضاع جديدة تتطلب الاعتماد على مواردها في ظل عدم الثقة في وعود المانحين الغربيين على مد يد العون للدولة الوليدة. التصعيد المبكر من جانب الحركة جاء على لسان الأمين العام باقان أموم الذي قال إنه طلب من الخرطوم إيقاف بيع النفط عبرها ابتداءً من الثامن من يوليو، أي قبل يوم واحد من انتهاء الفترة الانتقالية. وهدد أموم بتقديم شكوى رسمية للمجتمع الدولي على استمرار الخرطوم في بيع النفط الأمر الذي اعتبره (قرصنة يجب أن تقف عند حدها). لكن يبدو أن هذا التشدد هدفه الرئيسي الضغط على مفاوضي الحكومة لتقديم تنازلات للجنوب خلال جولات الحوار. ويأتي الرد على حديث باقان من قيادي جنوبي آخر في الحركة الشعبية، هو وزير النفط لوال دينق الذي أكد استمرار نظام تسويق نفط الجنوب عبر الطرق المعمول بها إلى ما بعد التاسع من يوليو إلى حين التوصل لاتفاق، مطمئناً الجنوبيين أن عائدات النفط ستذهب إلى حساب حكومتهم في (سيتي بانك) بنيويورك، وذلك بعد دفع رسوم استخدام المنشآت النفطية الموجودة بالشمال. أما وزير المالية علي محمود فقد كان واقعياً وهو يعلن أمام الصحفيين أن إيرادات السودان ستتراجع بأكثر من الثلث بفقدان نفط الجنوب، وهو ما يتطلب خفض الإنفاق الحكومي والبحث عن مصادر أخرى للدخل؛ إذ من المتوقع أن تفقد الخرطوم 36.5% من الإيرادات خاصة أن 73% من إمدادات النفط تأتي من الجنوب مقابل 25% من الشمال. ما يجري ميدانياً على الأرض لا يبعد كثيراً عن الصراع على النفط، فقد فسرت الحركة الشعبية دخول القوات المسلحة لمنطقة أبيي في 21 مايو الماضي بعد اتهامها للجيش الشعبي بالهجوم على جنودها في القوات المشتركة، لكن الحركة الشعبية فسرت الخطوة بأنها محاولة لفرض النفوذ على مناطق البترول، وهو ما حدا بالجيش الشعبي لمحاولة اقتحام المنطقة ودخولها عن طريق القصف الجوي والاشتباك مع الجيش السوداني قرب جسر مؤدي للمنطقة إلا أن محاولته باءت بالفشل، ولم يكن هناك من خيار إلا التفاوض السياسي مع الحكومة في أديس أبابا. ويعضد ما ذهبنا إليه ما صرح به وزير النفط بالجنوب قرنق دينق بعد محاولة الاقتحام من إن الخرطوم تعمل على احتلال مناطق البترول في الجنوب، مشيراً إلى أن المؤتمر الوطني يجهز للحرب بعد احتلال أبيي وجنوب كردفان للتمهيد للسيطرة على مناطق إنتاج النفط بولاية الوحدة. غير أن الخطوة المفاجئة التي أقدم عليها الجنوب كانت الزيارة الخاطفة التي قام بها الفريق سلفاكير لنيروبي ولقاءه الرئيس كيباكي، وتمخض اللقاء عن الاتفاق على إنشاء ميناء لامو بكينيا بمساهمة من حكومة الجنوب وأثيوبيا ليكون ميناء مشترك للتصدير والاستيراد. ويدرك المراقبون أن هذا الاتفاق لا يعني بالضرورة استغناء الجنوبيين عن خطوط النقل والتصدير الشمالية، إذ أن الميناء الكيني المقترح لن يكتمل العمل فيه إذا بدأ بالفعل قبل عدة أعوام، يحتاج الجنوب خلالها لضخ بتروله عبر الشمال لضمان استمرار الموارد المالية الضخمة التي يجنيها من البترول. وصل تعنت مفاوضي الحركة الشعبية في مفاوضات البترول درجة اشتراط عدم تسليم نصيب الشمال المتفق عليه للخرطوم، بل لواشنطن لتتحكم في توزيع عائداته، هو ما دفع الرئيس البشير للتهديد بإغلاق خط أنابيب النفط ضمن ثلاثة خيارات طرحها للجنوبيين، شملت سداد رسوم النقل كاملة أو مواصلة اقتسام العائدات بعد الانفصال. وقابل هذا الحزم في لغة الخرطوم مرونة في رد رئيس حكومة الجنوب الفريق سلفاكير الذي أكد أن الجنوب لن ينفرد بإيرادات النفط ويترك الشمال دون مد العون له في مواجهة التحديات الاقتصادية، بل ذهب سلفاكير لدى لقائه وزير الخارجية الألماني مؤخراً للقول إن الجنوب يتطلع لإقامة حدود مرنة مع الشمال لتسهيل حركة التجارة بين الجانبين. يأتي موقف رئيس حكومة الجنوب رغم محاولات عدم الاكتراث بتهديدات البشير التي صدرت من قادة في حكومة الجنوب، فقد صرح ين ماثيو المتحدث باسم الحركة أن استخدام البشير لكروت الضغط لن يجبر الحركة على التنازل عن حقوق الجنوب. ويبدو أن تصريحات البشير القت حجراً في البركة الساكنة لايقاف ابتزازات الجنوب للشمال بشأن البترول. ولم تقف رسائل الخرطوم لجوبا عند هذا الحد، فقد تحدى الرئيس البشير كل الظروف المحيطة به وقرر السفر إلى الصين الشريك الإستراتيجي في النفط. ورغم ما أحاط بالزيارة من جدل حول سفر البشير، إلا أنه نجح في الوصول لبكين لتأكيد استمرار الشراكة، وهو ما قابله الصينيون بارتياح قابلوه بتطمين الشمال بإمكانية استغلال موارده البترولية الضخمة من واقع عمليات الاستكشاف التي قامت بها الشركات الصينية. ولاشك أن تدشين العمل في الحقل الجديد المكتشف في منطقة بليلة نهاية يونيو سيبعث التفاؤل وسط الشماليين بإمكانية عدم حاجتهم لبترول الجنوب مستقبلاً، خاصة أن الحقل وحده ينتج (15) ألف برميل في اليوم، فضلاً عن ما أعلنه وزير النفط لوال دينق بأن (3) شركات أجنبية كندية وفرنسية ونيجيرية تعمل في مجال الاستكشاف تتفاوض حالياً مع وزارته للعمل في التنقيب عن البترول في الشمال. وبعيداً عن هذا كله فإن نفط الجنوب بدأت رائحته تجذب قوى عظمى للتدخل في شؤون الإقليم الذي يتطلع لإقامة دولته الجديدة، خاصة وأن حكومته لها فواتير ضخمة يحين سدادها بعد الانفصال. وتمتد المخاوف لأن تؤدي الانشقاقات المسلحة والنزاعات القبلية إلى إشعال عود الثقاب في حقول النفط بالجنوب، فبعض القبائل والولايات طالبت بنصيبها في بترول الجنوب بالتركيز على تلك التي يستخرج في مناطقها، كما أن القوى السياسية الجنوبية بدأت تعزف على وتر ضرورة إعادة توزيع العائدات على الولايات التي تعاني من غياب البنى التحتية بعدالة وشفافية بعيداً عن سيطرة الدينكا.