لا يبدو أن الأزمة أو سمها المواجهة الراهنة بين الحكومة والمجتمع الدولي، هي حالة عرضية ستزول بزوال مسبباتها، لأن تلك المسببات بحسب محللين ستكون هي إحدى متلازمات العلاقة بين السودان والمجتمع الدولي. ولا يختلف كثيرون في أن تلك العلاقات تمضي الآن وبسرعة إلى مربعات "قديمة" من التوتر والتأزم، بعدما بدت خلال السنوات الماضية، وتحديداً منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل، بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، في العام (2005م)، وخلال سنواتها الانتقالية، التي شهدت وعوداً وتعهدات عديدة وحوافز عديدة لحكومة الخرطوم، في حال التزمت بتنفيذ بنود الاتفاقية، خاصة ما يلي منها إجراء الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان، بسلالة والاعتراف بنتيجته، وهو ما تم بالفعل أملاً من الخرطوم في فتوحات كبيرة على أفق علاقاتها مع المجتمع الدولي، وفي مقدمته الولاياتالمتحدةالأمريكية وبقية الدول الكبار دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، غير أن ظن الخرطوم وتوقعاتها قد خابت جميعاً سيما مع المانحين الذين بدأوا مع الخرطوم لعبة سياسة (العصا والجزرة)، الأمريكية الصيت. ويتفق محللون سياسيون وإستراتيجيون، أن التهدئة التي شهدتها العلاقة بين الخرطوم والمجتمع الدولي خلال الفترة الانتقالية لاتفاقية السلام وكل الوعود والتعهدات التي تلقتها الحكومة السودانية، لم تكن سوى محاولة من المجتمع الدولي هدف من ورائها إلى الوصول بالسودان إلى مرحلة الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان، وصولاً إلى فصله من السودان وتكوين دولته المستقلة في التاسع من يوليو الماضي، وهو ما ذهب إليه أستاذ العلوم السياسية في جامعة الزعيم الأزهري، الدكتور آدم محمد أحمد، الذي قال ل(الرائد): (إن التهدئة من مجلس الأمن الدولي والمجتمع الدولي مع السودان ما بعد توقيع اتفاقية السلام كانت مجرد تمهيد لفصل الجنوب عن شمال السودان)، ورأى أن التصعيد مع السودان الذي تأخذ قفازه الآن الولاياتالمتحدةالأمريكية، كان أمراً متوقعاً بمجرد اكتمال مهمة انفصال الجنوب، والأمر بالنسبة للدكتور محمد أحمد لا ينتهي إلى هذا الحد ولكن يتوقع تصعيداً أكبر من المجتمع الدولي. بينما رأى المحلل السياسي، مدير معهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم، الدكتور محمد محجوب هارون، أن موقف المجتمع الدولي من الخرطوم يمضي باتجاه البحث عن تجريم للحكومة السودانية لأنها غير متحمسة للسياسة اليهودية الغربية الرامية وضع الخرطوم تحت الضغط المستمر لصالح ما يعتبره المجتمع الدولي أنه يُساعد على توفير قاعدة من الاستقرار لدولة الجنوب الوليدة، وكذلك لتبقى الخرطوم مشغولة بنفسها، بجانب العمل على إضعاف حكومة السودان ذات التوجه الأصولي. على إثر كل ذلك يمكن قراءة الأزمة الراهنة الآن بين السودان والمجتمع الدولي على عدة محاور، ابتداءً من الجدل الذي صاحب إنهاء مهمة البعثة التابعة للأمم المتحدة لحفظ السلام "يونميس"، والخلاف حول الجهة المخول لها القرار بإنهاء مهمة البعثة الحكومة السودانية أمام مجلس الأمن الدولي، وما دار من ملاسنات بشأن الاتهامات التي صوبتها الأممالمتحدةوالولاياتالمتحدة للسودان، بتعطيل إجلاء عدد من الجنود الإثيوبيين العاملين بأبيي، بعدما قتل لغم أرضي أربعة منهم وأصاب عدداً آخر، وحاولت الولاياتالمتحدةالأمريكية تحميل السلطات السودانية المسئولية بإدعائها تعمد الأخيرة تأخير إجلاء الجرحى، وبعدها تصاعد حدة التوتر بين الحكومة والمنظمة الأممية، وتدخلت فرنسا لإقناع مجلس الأمن، لعقد جلسة عاجلة، حول القضايا الشأن السوداني، أضف إلى ذلك قرار مجلس الأمن الذي مدد بموجبه مهمة البعثة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، "يونميد" ل(12) شهراً أخرى، والذي رفضته حكومة الخرطوم بشدة على اعتبار أنه حمل الكثير من الإشارات السالبة والمعلومات المغلوطة التي لا تعبّر عن الحقائق على أرض الواقع، منها الإشارة لتوسيع تفويض البعثة ليشمل معالجة التحديات في كل السودان، والانتقاص من سيادة البلاد فيما يتعلق بالحوار الدارفوري الدارفوري بجانب إشارة أخرى بإدخال عناصر جديدة مشاركة في التنفيذ مثل الشركاء، واعتبرت وزارة الخارجية ذلك تحايلاً على ولاية البعثة وتجاوز مكوناتها باللجوء لما يسمى بحق الحماية، إضافة إلى إشارة للربط بين "يونميد" والبعثات الأخرى مثل البعثة الجديدة "يونسفا" والبعثة الجديدة في دولة جنوب السودان، ورأت الخارجية في بيان أن القرار الأممي غير منسجم مع القرار (1769م) الذي نشرت بموجبه بعثة "يونميد"، وأنه من قبيل المحاولات الرامية لاختطاف العملية المشتركة وتغيير طبيعتها الإفريقية، كما أنها محاولات للتدخل في الشؤون الداخلية للسودان وتشويه صورة البلاد. واستدعت الخارجية وزراء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي ورئيس البعثة المشتركة للاتحاد الأفريقي والأممالمتحدة إبراهيم قمباري، وأبلغتهم رفضها لقرار مجلس الأمن الذي حمل الرقم (2003م) الخاص بتمديد مهمة البعثة المشتركة والذي بدأ وكأنه يشير إلى تاريخ اندلاع الصراع في دارفور عام (2003م). وحمّل وزير الخارجية علي كرتي، أمس الأول قمباري، احتجاج السودان وتحفظاته ورفضه للإشارات السالبة التي تضمنها القرار (2003م) لإبلاغها إلى الأممالمتحدة، فيما أكد قمباري تفهمه للنقاط التي يتحفظ عليها السودان وأعرب عن أمله ألا يشكل الخلاف عائقاً دون إنفاذ ما هو متفق عليه بين السودان والاتحاد الأفريقي والأممالمتحدة وتعهّد برفع تحفظات السودان على القرار إلى الأممالمتحدة، وفشلت مساعٍ قادتها الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية، في حمل مجلس الأمن على استصدار بيان ضد السودان، وتمكّنت الدول الصديقة للسودان في المجلس من تغيير مسار الجلسة. فالولاياتالمتحدة، التي تنفرد بقيادة المجتمع الدولي، أعلنت في وقت سابق، بعد إجراء الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب بسلاسة وترجيح الشعب الجنوبي بأغلبية ساحقة خيار الانفصال، وفي إطار سياسة "العصا والجزرة"، أنها بدأت فعلياً، إجراءات عملية لرفع العقوبات المفروضة على السودان منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وإزاحة اسم السودان من قائمتها للدول الراعية للإرهاب، بجانب تخفيف ديونه الخارجية، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، بل صدعت بأنها سترفع العقوبات الاقتصادية عن جنوب السودان والإبقاء عليها شمالاً، الأمر الذي رفضته بشدة حكومة الخرطوم. لكن المحللين لا يرون في كل تلك الوعود والتعهدات لا تعدو كونها محاولة لتجسير الطريق أمام السياسيات الأمريكية في المنطقة، ولفت الدكتور محمد محجوب هارون إلى أن الموقف الأخير من المجتمع الدولي والولاياتالمتحدةالأمريكية، لم يضع في الاعتبار أن الخرطوم ظلت تبدي حماساً واستعداداً لبناء قاعدة أوسع من التفاهم مع المجتمع الدولي من خلال إجراء الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب والاعتراف بنتيجته وبدولة الجنوب قبل أي دولة أخرى في العالم، بجانب استعدادها لأن تشكل حكومة ذات تمثيلاً واسعاً للأطياف السياسية وقوى المجتمع المدني، وقال هارون ل(الرائد): (من الواضح أن المجتمع الدولي لم يطرأ أي تحسن في علاقاته مع الخرطوم، خاصة من قبل واشنطن، رغم إن حكومة الخرطوم ظلت لأكثر من عقد من الزمان تقدم التنازل تلو التنازل في محاولة لإثبات رغبتها في التطبيع مع واشنطن)، وأضاف (هذا المسلسل من التنازلات لم يقابل من واشنطن بأي درجة من التفهم، بينما ظلت الخرطوم تصدق أن واشنطن عديمة الصدقية لتبادلها تجاوب بتجاوب)، وتابع (الراجح أن واشنطن لا تأبه كثيراً لمساعي الخرطوم واستجابتها في التعاون مع الإدارة الأمريكية)، وزاد بالقول (ربما رأت أن الخرطوم ليست إلا سمكة صغيرة يمكن التلاعب بها واستخدامها كفأر معمل لاختبار النماذج التطبيقية للسياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة). وتلاحقت حلقات التصعيد والتوتر بين الخرطوم والمجتمع الدولي مؤخراً بصورة لافتة، دفع بالكثير من المراقبين والمحللين للتفكير بشأن أسوأ الاحتمالات، خاصة بعد أن ردت الحكومة على لسان مندوبها بالأممالمتحدة دفع الله الحاج علي، تهم المنظمة الأممية باتهامها باستخدام طائراتها لنقل أشخاص غير مصرّح بهم إلى السودان، ووصل الأمر لأبعد من ذلك عندما اتهمت الحكومة في وقت سابق منظمات دولية باستغلال خدماتها لأغراض غير إنسانية، وحذّرت الحكومة، على خلفية رفضها قرار مجلس الأمن بتمديد مهمة (يونميد)، بأنها ستلغي مهمة البعثة في حال إصرارها على تطبيق قرار مجلس الأمن رقم (2003). لكن الدكتور آدم محمد أحمد يرى أن هناك ظروفاً توفرت ساعدت المجتمع الدولي فيما يسعى لتحقيقه، في مقدمتها أن انفصال الجنوب حصل دون أن يتم حسم جميع الملفات العالقة، بجانب انفجار الأوضاع في جنوب كردفان وأبيي، وقال: (لولا هذه الظروف لما وجد المجتمع الدولي مبرراً)، وحذّر محمد أحمد مما هو أسوأ مشيراً إلى أن قوات حفظ السلام "يونميس" التي حولت إلى الجنوب ستكون تحت الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة، وكذلك جزء من تفويض القوات الأثيوبية في أبيي تحت البند السابع، كما أن قرار مجلس الأمن الأخير حول "يونميد"، هو محاولة لتحويلها إلى الفصل السابع، بجانب أنه أشار إلى التنسيق بين جميع هذه البعثات، وهو أمر قد يؤدي إلى أن تنتقل العلاقة بين الخرطوم والمجتمع الدولي إلى مربع أسوأ، وقال: (إن المجتمع الدولي قد يدفع الحكومة للحرب في النيل الأزرق ومناطق أخرى وليس هذا من المصلحة خصوصاً في الوقت الراهن). نقلا عن صحيفة الرائد بتاريخ :11/8/2011